الخطاب النقدي والتفسير القومي في كتاب «الأمة والشعر»

ينبه محمد برادة في كتابه «محمد مندور وتنظير النقد الأدبي» إلى أن النقد ليس الممارسة البسيطة، المعروفة عند مؤرخي الأدب في بدايات العصر الحديث، من أمثال الرافعي، وأحمد حسن الزيات، وجرجي زيدان، التي لا تتخطى حدود النص. وإنما هو الانخراط في حركة التاريخ والمجتمع. وهو بذلك يفترض أن دور «نقد النقد» موضوع كتابه، هو عقد صلة بين ما يسميه «ميكانيزمات النقد» أو آليات النقد وطرائقه في التفاعل مع المجتمع، وما يموج فيه من توجهات أيديولوجية سياسية. والإسهام في فهم العلاقة الخفية، في الغالب، أو الضمنية بين النقد ودرس تاريخ الأدب، والتحولات السياسية المُنتظِمة على منظومات فكرية، كُتب لها الشيوع في حقبة من الحقب، والتأثير في حركة المجتمع والتاريخ والثقافة والنتاج النقدي.
ويشير محمد عابد الجابري في كتاب «المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية» إلى النوايا الكامنة وراء الخطوات والمناهج، وإلى صلتها بتحيزات عرقية ذات نزعة تمركزية، مثل تلك التي تكمن وراء اجتهاد الفيلولوجيين في خدمة النهر الخالد، عبر السعي إلى رد الفروع إلى أصول يونانية، للقول: «إن كل شيء نبع أول مرة من بلاد اليونان». وذلك يجعل النقد خطاباً تمركزياً، يستعمله المستشرقون في تعاملهم مع الثقافة العربية الإسلامية، لا بردها إلى أصولها هي، أو إلى بيئتها التي نشأت فيها، ولا «بهمومها الخاصة» لكن بسياق النقد الذي ينتج المعرفة حول المادة المدروسة، ويقدمها للقراء بقالب مقنع وعقلاني وموضوعي، في الظاهر، يُدعى المنهج. وفي الجوهر هو لا يخلو، على الأقل، كما يفترض تحليل الخطاب النقدي، من تحيزات، تنقض الروح العلمية.
في إشارتي محمد برادة ومحمد عابد الجابري، نلحظ وعياً بما يكمن وراء النقد من تحيزات. لكننا لا نجد منهجاً واضحاً لفضح تلك التحيزات عبر تحليل الخطاب النقدي، كذلك الذي يوجد في كتاب كاظم حسن عسكر، الجريء «الأمة والشعر- نقد التفسير القومي للأدب في العراق» الصادر عن سلسلة دراسات فكرية، جامعة الكوفة 2021. والكتاب جريء؛ لأنه تجرأ على حقبة مهمة في تاريخنا العراقي المعاصر، مسكوت عنها لأسباب تتصل بتغير الأيديولوجيا على المستوى السياسي؛ فالعراق انتقل من حقبة الديكتاتورية المبنية على أساس قومي، إلى حقبة الديمقراطية المبنية على أساس تعددي: عرقي ومذهبي، ولأسباب تتصل بالتغير العقدي، ومعه انتقل العراق من حكم أقلية تتمذهب بالإسلام السني، ذي الامتداد العروبي، إلى حكم الأغلبية المتمذهبة بالإسلام الشيعي، ذي الامتداد الرافض، فكرياً ونفسياً، الامتداد العروبي. والانتقالان كانا كفيلين بإقصاء الحقبة القومية من المجالين السياسي والعام، وجعلِ إعادة النظر فيهما، ولو بأدوات البحث ولأغراض النقد والتفسير، أمراً محرماً.

المهم في كتاب «الأمة والشعر» طبيعة المقاربة؛ فهي مقاربة منهجية تتجه إلى شكل النقد وطريقة تشكله، تلك التي تخفي ما تخفي من تسييس للأدب، قديمه وحديثه، وللتاريخ، ومن طمس للقدرة الفردية على التفكير والابتكار، ومن تذويب للإنسان في الأيديولوجي الجمعي.

يأتي، بعد ذلك، الطريق الذي سيختطه الكتاب لنفسه لمناقشة، وتحليل، موضوعه. وهو، عند كاظم حسن، طريق مبتكر، لا يشبه المعتاد عند دارسي النقد، المعروف بنقد النقد، الذي يتتبع المؤلفات، والمضامين النقدية، تتبعاً تاريخياً. هو تأمل بنية النقد نفسه وآلياته، وإيجاد صلة بين تشكل النقد، في هذه الهيئة المخصوصة، والواقع السياسي والتاريخي والفكري في حقبة من الحقب. ولنأخذ لتوضيح ذلك، آلية المشابهة، التي يُعرّفها كاظم حسن بأنها البحث عن المتشابهات في السياق الخارجي، وإدراجها في الخطاب النقدي، وإلغاء أي مسافة زمنية أو اجتماعية أو ثقافية بينها. ومن يتتبع كتب النقد في الحقبة القومية في العراق في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، يجد، منهجياً، أنها سياقية، أي تعتمد المنهج السياقي، التاريخي أو الاجتماعي. وهذا يسهل عليها الحركة في السياق، بعيداً عن قوانين صياغة الشعر، وعما ينتج عنها من تنوع في المعنى، ومن حرية في القراءة. ويجد أنها لا تلتزم، على صعيد السياق، بالظواهر الأدبية، بل تتخطاها إلى الظواهر السياسية والاجتماعية، في سعي إلى توحيدها في إطار ناظم، ومُفسِر واحد، ينتمي إلى منظومة الفكر القومي السائد، المُتبنى رسمياً وسياسياً ومؤسساتياً، وذلك عزز فرص آلية المشابهة في البروز والاشتغال في خطاب النقد.
ويبين الكتاب طبيعة المشابهة بما يعقده مصعب حسون الراوي في كتابه «الشعر العربي قبل الإسلام بين الانتماء القبلي والحس القومي» (صدر عام 1989)، من مشابهة بين القبيلة والوطنية، فالقبيلة التي كانت النظام السياسي والاجتماعي السائد عند العرب قديماً، تشبه النزعة الوطنية الحديثة، التي تضع على كاهل المواطن واجبات محددة، عليه أن يؤديها عن قناعة وإيمان، مثل العمل من أجل الوطن وحمايته والدفاع عنه. والظاهرتان متباعدتان تاريخياً واجتماعياً. لكنهما قابلتان للتشابه من منظور قومي يُسقَط إسقاطا على الأدب، الذي يراد لقراءة له أن تشيع وتُعلم. مثالها تلك التي يتقصاها الراوي في قول دريد بن الصمة المشهور: «وهل أنا إلا من غزية إن غوت. غويت وإن ترشد غزية أرشد» فيرى «أنه التزام برأي الأغلبية، وهو مبدأ سليم تتبناه المجتمعات الواعية؛ لأنه يؤكد وحدة الجماعة، ويؤمن تماسكها، فالفرد لا يملك خياراً صحيحاً، غير أن يكون مع قومه، وإن كانوا خاطئين. وإلا عُد شاذاً، وصار الخلع جزاءه» مثلما كان جزاءً عادلاً للشعراء الصعاليك. وهذه القراءة، وذلك التعامل مع الأدب، يقول كاظم حسن، يكرس النموذج السياسي والفكري، ويمنحه القوة والديمومة؛ لأنه لم يكن ابن اللحظة، وإنما هو ممتد، امتداد الشخصية العربية، وعابر للأزمنة وللمتغيرات والبيئات.
يحلل الكتاب، كتابات نقدية متنوعة، تعود إلى عصور دراسة الشعر المختلفة، جاهلية وإسلامية وعباسية، وصولاً إلى العصر الحديث، ويفككها بردها إلى آليات محددة مثل المشابهة، التي اقتصر مقالي عليها، والتعليل النقدي، أي تفسير الظواهر الأدبية والنصية، على اختلافها الظاهر، تفسيراً واحداً، ينطلق من موقف الناقد الفكري. والحجاج الذي يحضر كثيراً عند النقاد القوميين، أو من تأثروا بالجو القومي السائد في العراق آنذاك، ليدافعوا به عن طروحاتهم بشأن إحياء الشخصية العربية القومية في الأدب والشعر والحياة، وليردوا على مخالفيهم. وهذه الآليات وغيرها، كلها، تؤكد، مثلما يرى كتاب «الأمة والشعر» فاعلية السياق في خلق زمنية تتسم بالثبات وتتعإلى على التاريخي والمتغير، تستخدم شأنها شأن منظومة الفكر القومي التي جاءت منها، في تفسير الأدب والمجتمع والحياة، وفي ابتكار هُوية مُصطنَعة، صلبة، يراد لها أن تكون قادرة على مواجهات الاختلافات الفردية والعرقية والفكرية والدينية والمذهبية في الداخل، وعلى مواجهة الاختلافات الأيديولوجية والسياسية في الخارج.
يظل المهم في كتاب «الأمة والشعر» طبيعة المقاربة؛ فهي مقاربة منهجية تتجه إلى شكل النقد وطريقة تشكله، تلك التي تخفي ما تخفي من تسييس للأدب، قديمه وحديثه، وللتاريخ، ومن طمس للقدرة الفردية على التفكير والابتكار، ومن تذويب للإنسان في الأيديولوجي الجمعي. وأخطر ما فيها أنها تتسلل إلينا عبر خطابات لا نتوقع تسللها منها، مثل النقد، وعبر مؤسسات التعليم، وعبر الممارسات البيداغوجية المختلفة، مثل إلقاء المحاضرات والندوات والمؤتمرات. والأخطر أنها ما زالت تعمل بفاعلية، وإن تغيرت مضامينها؛ فطبيعة الخطابات أنها لا تغير آلياتها بسهولة، وتكتفي بتغيير موضوعاتها. وآية ذلك أننا ما زلنا نتبع في جامعاتنا أشكال تاريخ الأدب التقليدية بآلياتها العتيقة كالتعليل والحجاج والمشابهة، مكتفين بتغيير الأسماء والموضوعات، مركزين على إبقاء تبعية الإنساني للأيديولوجي، وعلى تعطيل العقل والفعل، النقديين، لصالح الأيديولوجيا وممارساتها الخاطئة، سياسياً وإنسانياً؛ لأننا، بعدُ، لم نغادر، فعلياً، عصر الأيديولوجيا والتحزب.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية