الخطاب وتقانة الاستبدال في «الهشيم»

جرّبتْ رواية تيار الوعي استعمال تكنيكات عدة، منها المونولوج الداخلي والتداعي الحر والمناجاة، وبها يتمكن السارد من ارتياد (مستويات ما قبل الكلام بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات). ويعد وليم فوكنر أهم من جرَّب كتابة تيار الوعي في القرن العشرين، وله رواية (بينما أرقد محتضرة As I Lay Dying) بناها من أولها إلى آخرها على شكل حوار روائي يجري بالتناوب على أفعال (أقول، يقول، قال) مع توظيف الضمائر الثلاثة (هو، أنا، أنت).
وفي ستينيات القرن نفسه، جرّب بعض الكتّاب شكلا جديدا، يتمثل في مسرحة الرواية، لتكون عبارة عن حوار روائي طويل، فيه يتخاطب شخص مع نفسه، أو يتخاطب شخصان أو أكثر، لكن من دون أن يكون هناك سارد واضح أو حبكة محددة. وفي كل هذه الحالات، تضفي حركية الحوار – داخليا كان أم خارجيا – طابعا دراميا على الرواية. وهذا ما يساهم في تشويق القراء وإبعاد الملل عنهم، بيد أن اقتصار الحوار على طرف واحد هو مخاطِب يستعمل ضمائر الخطاب المنفصلة والمتصلة، هو ما يجعل بعض قواعد السرد مخترَقة بشكل غير طبيعي. ذلك أن المداومة على استعمال ضمير المخاطب (أنت، الكاف) من أول الرواية إلى آخرها يحوّل السارد إلى متكلم يهيمن على المسرود، الذي يصبح مجرد متلق يستقبل الخطاب صامتا. وهذا ما يولِّد لبسا، لأن الحوار لا يكون بين طرفين، بل هو حاصل من لدن طرف واحد. وهنا يكون لتقانة «الاستبدال Metalepsis» دورها في تبديد اللبس وجعله طبيعيا، من خلال العبور بالمؤلف من موقعه خارج السرد إلى أن يكون ذا موقع داخل السرد. وما يميز تقانة الاستبدال أنها تقتضي أن تكون الفعلية المضارعة مهيمنة على الرواية، وفي الآن نفسه تكون الأحداث غير محددة بمكان واحد، بل هي متعددة الأمكنة.
الأمر الذي يجعل تأثير الزمانية المضارعة، أشدَّ قوة من تأثير المونولوجات الداخلية، أيا كانت مباشرة أم غير مباشرة. وبذلك يفيد المؤلف من مسألتين: الأولى الدوامية في استعمال الفعل المضارع، والثانية تيار الوعي وما فيه من خاصية الكشف عن البعد النفسي للشخصية. وهو ما نجده متمثلا في رواية (الهشيم) للكاتب العراقي جهاد مجيد. وصدرت في بغداد عام 1973 وهي مبنية من بدايتها حتى الختام على ضمير المخاطب، وفيها البطل (عدنان) يتلقى قصته من لدن سارد خارجي يهيمن عليه. وهذا ما يجعله مجردا من البطولة، محتلا موقع المسرود له على مستوى السرد، وموقع القارئ الفعلي على مستوى التلقي الخارجي (ها أنت طليق، تشعر بحرية تامة كأن حواجز عالية تنزاح من أمامك، تتهشم، ينفسح لك الطريق، ينبسط أمامك، يمتد مستقيما إلى ما تريد. كانت تشدك إلى البيت تقيدك على الكرسي وها أنت تتخلص منها كأنك استأصلت وروما من جلدك.. لفترة طويلة، لم ترس معها على رأي محدد، تقلبت معها مرارا استعرت عواطفك تحت مواقدها) إن المقام السردي هنا مؤلف من مستويين ذي درجتين: درجة أولى بمستوى قصصي إطاري يمثله عدنان المخاطَب بـ(أنت)، ودرجة ثانية بمستوى قصصي تالٍ تمثله المسرودات جميعها.

ويأخذ الخرق مداه لأن المؤلف سارد يخاطب البطل عدنان، تاليا عليه قصة حياته، ولأن المسرود (عدنان) قارئ ضمني يتلقى الخطاب من الخارج. وهذا ما يجعل عدنان فاقدا دور البطولة؛ فمن إذن توكل إليه مهمة تأويل النص؟ ولم لا تكون لعدنان القدرة على التعبير عما يعتمل في داخله من انفعالات وأفكار؟ وكيف نقتنع بدرامية الأحداث والسارد لم يكن موجودا وقت حدوثها، أو لم يشارك فيها، لاسيما تلك التي كانت في زمن سابق على زمن قصته؟
إن انتهاك السارد المخاطِب لمستويات السرد، يأتي من لا طبيعة موقعه المزدوج داخل القصة وخارجها. الأمر الذي يتسبب في اختلاط تجربة السارد بتجربة البطل، فيبدو هو الصوت الداخلي للمسرود (عدنان) وينزلق الشعور النفسي من هذا المسرود إلى المسرودات الأخرى، كما في الحوار الذي دار بين معلم الصف وعدنان (لماذا تحثُّهم على الامتناعِ عن تأديةِ الامتحانِ؟ قلتَ: لم أحرضْ أحدا لكنني ساهمتُ. لم تردْ أنْ تقولَ دعوكَ فاستجبتَ، ذلك ما لا تقبله كبرياؤكَ).
إن هذا الخرق هو ما يجعل السارد بضمير المخاطب غير طبيعي من ناحية انتهاك المواقع، وما يتولد عن ذلك من خروقات يتم تطبيعها بتقانة الاستبدال Metalepsis، فيمرر السارد نفسه من خارج القصة إلى داخلها وبالعكس، وقد تأكدت درامية هيمنته على الحكاية الأساس (عدنان مع ذاته) والحكاية التالية (عدنان مع الشخصيات الأخرى).
وقد صنع استعمال هذه التقانة أوضاعا سردية خاصة في رواية (الهشيم) منها أن المونولوج الداخلي يسمح للاستبدال أن يمر من مستوى سردي إلى آخر، فيكون مباشرا، لا يفترض فيه أن ثمة سامعا له. ومنها أن الفعلية المضارعة تجعل صوت الخطاب متماهيا في عدنان، فكأن الصوت آتٍ من داخله. الأمر الذي يجعل البطل في حالة مواجهة درامية مع نفسه. وتنتج عن ذلك معاناة داخلية تتماهى ضمنيا، فلا يبين المسرود من المسرود له (أنك لتفكر ماذا ستعمل الرفوف، أتبقيها خالية.. ستثير فيك قرفا، وربما أسفا على الأيام التي ضاعت منك هل ستشتري لمنى هدية؟ سيجذبها ذلك إليك ولكن ربما ترفض وتخلق لك مشكلة، لتفكر بالأمر جيدا ولكن ينبغي النفاذ الى قلبها).

وتلعب تقانة المناجاة النفسية دورا مهما فتكون الشخصية مباشرة أمام القارئ من دون حضور المؤلف، ولكن مع افتراض وجود جمهور صامت. وهذا ما يساعد في إضفاء الحوارية على الخطاب ويقلل من أحاديته. بمعنى أن المناجاة النفسية تجعل وعي المسرود ينشطر إلى قسمين، مما يسهل عملية الاستبدال فيكون طبيعيا عبور السرد من مستوى أول فيه السارد يخاطب البطل من خارج القصة إلى مستوى آخر فيه السارد يخاطب المسرود من داخل القصة (اثبت بسلوكك أن موقفهم خاطئ وأنهم مغرضون. اثبت براءة تصرفاتك وأنك ذو نفس أبية صافية.. لا تخلف وعدا لا تشي بأحد لا تغتاب أحدا.. لا تمدح نفسك أمامهم).
أما استنطاق الشخصية باستعمال أفعال الأمر والنهي والطلب والاستفهام، فإنه يساهم في جعل السارد محققا جنائيا، كما يقول ميشيل بوتور، وما على المسرود سوى الإدلاء بشهادته بوصفه مشتبها فيه. وهذا الاشتباه يجعله قادرا على أن يؤدي أدوار المسرود له والقارئ الضمني والفعلي (اكبت هذا الصوت المضلل في أعماقك) و(عليك أن تنصرف عن كل هذا ولا تلج أي موضوع من هذه المواضيع.. من هذا الرجل ليهتاج هكذا؟ يمطرك باللعنات والشتائم؟ أبوك؟ وهل تعترف له بهذه الصفة؟ ما الذي يعنيه من أمرك فيحاسبك على عدم مجيئك إلى البيت وتسليم الراتب بيده). هذا إلى جانب ما أداه استعمال الاسترجاع والاستباق من دور، معه تمكَّن السارد من التحكم باللحظة الحاضرة دراميا عبر إعادتها الى الماضي، أو الانتقال بها إلى المستقبل، فتغدو العلاقة صريحة بين عدنان والشخصيات، وتزول اللاطبيعية.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الحسين:

    “ويعد وليم فوكنر أهم من جرَّب كتابة تيار الوعي في القرن العشرين، وله رواية (بينما أرقد محتضرة As I Lay Dying) بناها من أولها إلى آخرها على شكل حوار روائي يجري بالتناوب على أفعال (أقول، يقول، قال) مع توظيف الضمائر الثلاثة (هو، أنا، أنت)” اهــــــ
    – ثمة الكثير الجم من النقاد الأدبيين غربيين وغير غربيين يعتبرون بأن جيمس جويس، وليس وليم فوكنر، لَهو الأهم حقيقةً في تجريب الكتابة على طريقة “تيار الوعي” في القرن العشرين، وما زال يمتد كذلك إلى القرن الواحد والعشرين، وعلى الأخص في رائعته “عوليس Ulysses التي أسسها على هذا الأساس بالذات

اشترك في قائمتنا البريدية