تقوم فلسفة خلق الإنسان في الأساطير القديمة، السومرية والبابلية، على اختزال الإنسان، وتكريس عبوديته للآلهة، التي خلقته مطبوعا على الطاعة والانقياد، تستعين به لتأمين قوتها وغذائها، بعد متاعب الأرض التي أنهكتها، فتكون العبودية جوهره وحقيقته، وليست عارضة أو طارئة عليه. فهو كائن مستلب الإرادة والحرية، متقوّم بغيره. وهو ذات المنطق العبودي الذي ينفي استقلالية الإنسان، ويكرّس تبعيته الوجودية، حداُ يبيح هدر إنسانيته. والأمر لا يختلف مع الأسطورة التوراتية، فالإنسان سيكون حارسا على الأرض ومسيطرا على الأسماك والبحار. أو ليُذهب وحشة الأرض كما في بعض نسخ التوراة. فلم يكن مخلوقا لذاته، مستقلا بإرادته. بينما يعطي القرآن الإنسان قيمة مغايرة حينما جعله خليفة، على الأرض، ومنحه العقل والإرادة والحرية. ليتحمّل مسؤولياته ويؤدي وظيفته الوجودية، وليس عبدا وخادما للآلهة، ولا متسلطا على الأسماك والطيور. بهذا نفهم أن الله أراد أن يخلق إنسانا تتجلى إنسانيته من خلال مشاعره وأحساسيه وسلوكه. فالقرآن صدّق فكرة الخلق وأعاد تشكيلها وفقا لمفاهيم إنسانية، ليضع فاصلا بين مرحلتي الأساطير والوحي الإلهي، في ضوء الإطار العام للكتاب القائم على وحدانية الخالق. فيتفق مع التوراة في الوحدانية، ويختلف معها حول هدف الإنسان في الحياة، كما استعاد إنسانية الناس، التي سلبتها أساطير الأولين، باعبتارها نتاج مجتمع، يكرّس عبودية الفرد دينيا، ويسلب إرادته وحريته.
ولو نظرنا لفلسفة خلق الإنسان بعيدا عن قدسية الكتاب. فثمة تطور في وعي الإنسان لذاته والآخر، عبرت عنه الأساطير من خلال قصة الخلق، وما تضمنته من حكايات حول كيفية خلقه، وتحديد مهامه، تعكس مستوى الوعي الثقافي لبيئة الأساطير. وأقصد بالثقافة الأعم من الدين والفن والرموز. فالأساطير واكبت حركة الوعي المجتمعي، فهي دالة عليه. لذا كان من الطبيعي أن تؤصل أساطير الأولين لسلطة الآلهة وعبودية الفرد، في الحضارتين السومرية والبابلية. ثم بعد توحّد الآلهة بالإله مردوخ، بدأت ثقافة المجتمع تتأثر بالمنحى الجديد، كما هو واضح في التوراة، التي تحدثت عن الإله الذي خلق آدم على صورته، ليكون حارسا للأرض أو ليبدد وحشتها، وقد خوله بعضا من سلطاته على الماء. فاختلفت عن أساطير الأولين حول الإلوهية، وحقيقة الفرد من خلال مسؤولياته، فلم يعد عبدا للآلهة، بل مخلوقا لإله واحد، هو الذي خلقه على شكله. ثم جاء القرآن ليسجل نقلة نوعية، لم تكن مسبوقة، حينما راحت قصة الخلق تستعرض حقيقة الإنسان عبر مشاهد القصة، التي اختلفت في تفصيلاتها.
وهنا يأتي السؤال، هل ثمة ما يؤكد تطور وعي المجتمع المكي، وتخليه عن قيمه القَبلية، التي هي قيم عبودية بامتياز؟. وهل الوعي القرآني هو نتاج بيئة ثقافية قائمة على التوحيد وإدراك الأبعاد الإنسانية؟
لا اعتقد ذلك، مما يقوّي فكرة الوحي، حتى مع القول بعبقرية محمد، فإنها عبقرية استثنائية، استمدت وعيها من أفاق نفسية وأخرى غيبية. وبالتالي حتى لو نسبنا تطور الوعي إلى الصراع الطبقي، فإنه لا يصدق على زمن الرسالة، لا أقل من جانب النبي محمد، لعدم وجود شواهد وأدلة كافية، فلم ينافسهم أحدٌ إقتصاديا وكان الصراع بينهما صراعا بين الإيمان والشرك. لا أنفي أرتباط الديني بالاقتصادي بالنسبة لقريش، إذ كان توظّف سدنتها لمكة المقدسة عند العرب لتكريس مصالحها التجارية والاقتصادية، ولا ريب في ذلك، غير أن هذا القدر لم يحقق تطورا في وعي المجتمع، وبقي الشرك والقيم القبلية حاكمة.
٭ باحث عراقي مقيم في أستراليا