أعادت مشاهد وتفاصيل المذابح الشنيعة التي اقترفتها فصائل منضوية تحت مظلة النظام الحاكم في دمشق، ضد المدنيين العلويين في الساحل السوري، إلى أذهان العراقيين وغيرهم، فصول العنف الطائفي الذي فتك بالعراق، بالذات بين 2006 و2008. لا يتطابق السياقان السوري والعراقي تماماً بالطبع، ولكلٍ مساراته وخصوصياته وتعقيداته. لكنهما يشتركان في مظاهر وتبعات وآثار خلفتها عقود من حكم الأنظمة الديكتاتورية والحروب، والتدخّلّات والاحتلالات، وما أنتجته كل هذه وتلك من تمزّق للنسيج الاجتماعي، وتحوّلات في الهويات وتطييفها، وتفكّك، أو تفكيك مؤسسات الدولة، بعد إسقاط نظام وترسيخ آخر بمساعدة ومباركة دول إقليمية وقوة عظمى.
من السذاجة أن يتوقّع المرء انتقالاً مرناً وسلساً بعد انهيار أي نظام، خصوصاً في بلاد أنهكتها حروب طويلة ومصاعب اقتصادية وزلازل اجتماعية. مع ذلك، هناك تجارب سابقة وقريبة، وعِبَر كان من الممكن الاستفادة منها، وهناك مطبّات وتحديّات متوقّعة، حذّر منها الكثيرون واقترحوا استراتيجيات للتعامل معها.
حل مؤسسات دولة بأكملها، مهما كانت مهترئة ومستنزفة، دون وجود رؤية جديّة وحقيقية للتغيير، وخطة مدروسة لاستيعاب العديد من كوادرها لبناء مؤسسات جديدة، يؤدي إلى المزيد من الكوارث والفوضى
سألني أحد طلابي الأسبوع الماضي، حين ناقشنا عودة الفاشية والعنصرية بقوة في خطاب وممارسات الكثيرين في «الغرب»: هل يتعلّم الناس من التاريخ؟ وكان جوابي: كلّا، يبدو أن معظمهم لا يتعلّمون. لكن هناك من لا يريد أن يتعلّم من التاريخ، ولا رغبة لديه في ذلك أصلاً. ولا في انتقال البلاد إلى سلم أهلي، وإن ردد هذا المصطلح كثيراً، كما لا نية لديه لتحولها من ديكتاتورية إلى حكم يرسي دعائم العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويعمل من أجلها. حكم يبدأ بإعادة بناء وطن ومفهوم مواطنة تصوغهما، وتحدد أطرهما شرائح وقوى تمثل المجتمع بأطيافه (لن أستخدم لفظة «مكونات» المقيتة والمسمومة، التي سادت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وأصبحت متداولة). ولعل الحاكم الجديد يصبو إلى تكرار تاريخ آخر! قبل أشهر من غزو العراق وإسقاط النظام السابق (الذي كان كاتب هذه السطور ضده كما كان ضد الغزو لأسباب لا حاجة لشرحها بعد كل ما حدث) أكّد عراقي طالما استأنس برأيه الكثيرون في إدارة بوش وفي الحيز العام في الغرب، باعتباره مرجعاً وعارفاً متبحّراً بسياسة العراق وتاريخه ومجتمعه. وانبهر به الكثيرون من الليبراليين العراقيين، أكد صاحبنا أن العراق سيشهد تحولاً ديمقراطياً بعد الاحتلال، وسيكون مثالاً يحتذى في المنطقة! وتحدّث أيضاً عن نظريته في التعامل مع تركة النظام وحزب البعث، التي طبّقت لاحقاً وعرفت بالاجتثاث. أخطأ هذا الرجل، تقريباً في كل تصوراته وتحليلاته الساذجة، ووعوده بأن يستقبل العراقيون الأمريكيين بالورود والحلوى. لكنه أصاب في أن ما أحاق بالعراق سيكون مثالاً سلبياً وكارثياً لما يمكن أن تؤول إليه الأمور. في الثالث والعشرين من أيار/مايو 2003، أعلن الحاكم المدني للاحتلال الأمريكي، بول بريمر، عن حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية ومؤسسات أخرى وبذلك تم تسريح حوالي 400 ألف من الضباط والجنود والموظفين. تضاربت المبرّرات في ما بعد من قوله إنه لم يكن هناك جيش أصلاً، لأنه انهار بعد الاحتلال، إلى اعترافه بعد سنوات أن ذلك كان خطأ جسيماً. وأدى هذا القرار إلى تهميش وتعطيل مئات الآلاف من المواطنين، اقتصاديا واجتماعيا، وخلق فراغاً خطيراً. وهو يشبه القرار الذي اتخذه الشرع في سوريا.
إن حل مؤسسات دولة بأكملها، مهما كانت مهترئة ومستنزفة، من دون وجود رؤية جديّة وحقيقية للتغيير، وخطة مدروسة لاستيعاب العديد من كوادر هذه المؤسسات وخبراتها، لبناء مؤسسات جديدة، يؤدي إلى المزيد من الكوارث والفوضى. تتصاعد، بعد سقوط كل نظام ديكتاتوري دموي، أصوات تنادي بمطالب مشروعة وملحّة لمحاكمة المتورطين بالجرائم، التي اقترفتها رموز النظام بحق المواطنين ولتوثيقها، ولتعزيز السلم الأهلي، فعلاً وليس قولاً. وهناك تجارب في عدد من الدول نجحت في إرساء تقاليد وآليات وإنشاء هيئات تشرف على العدالة الانتقالية وتخفّف من الاحتقان وتحتويه. وغياب سياسات ومبادرات جدية كهذه يفاقم الوضع، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. يزداد الوضع خطورة في مناخ إقليمي مهيأ ومعبّأ للتحريض الطائفي والكراهية وتبرير قتل المدنيين، كما رأينا من تدوينات وتعليقات برّرت، بل ابتهجت واحتفت بقتل الآخر وتشفّت بذبحه. فالخوارزمية الطائفية تضع كل علوي في خانة «الفلول» وتبيح قتله، بما أن النظام كان «علوياً» وهي مقولة متهافتة، تماثل في تهافتها مقولة «النظام السنّي» في العراق. يمكن للمرء أن يورد الكثير من الحقائق التي تبين تهافت هذه التصنيفات التي تختزل وتسطّح الكثير، وتفترض تماهي الهوية مع الطبقة والأيديولوجيا، وتصور البشر وكأنهم كتل خارج التاريخ. وهي أسلحة فتاكة.
يفترض أن يكون المُنْطلق الأخلاقي الواعي للإنسان رفض قتل المدنيين، بلا استثناء ومن دون «ولكن». أما حين يصبح كل من يحمل السلاح قاضياً ومحكمة ومدعيّاً عاماً، وحين تجتمع هذه كلها في فرد دستوره وقوانينه، لا تتعدى مفردة واحدة على بطاقة هوية، تفصح عن الجماعة التي ولد فيها صدفة، أو لكنة تشي بذلك، أو حتى اسمه، فتلك بوابة تؤدي إلى جحيم جديد وأنهار من الدم ستغرق ما لم يغرق.
كاتب عراقي
شكرا لك اخي سنان انطون على هذه الصرخة الانسانية القوية في ” وعيها ” النافذ بسموم ومخاطر الخوارزمية الطائفية على بلدان المنطقة العربية !
تحياتي لاسرة القدس العربي