الدانوب الأزرق: يوهان شتراوس على ضفاف النهر

يعد فالس الدانوب الأزرق للموسيقار النمساوي يوهان شتراوس، من أشهر القطع الموسيقية الكلاسيكية المسموعة في العالم، ومن أجمل الفالسات الراقصة، إن لم يكن الفالس الأول، الذي يتبادر إلى الأذهان عند ذكر هذا النوع الموسيقي. ربما لا يوجد من لم يستمع إلى الدانوب الأزرق يوماً، ولم يتعرف على لحنه وأنغامه وثيمته الموسيقية الشهيرة، حتى من غير عشاق الموسيقى الكلاسيكية، فقد انتشر هذا الفالس وتعددت مظاهر توظيفه واستخدامه في الكثير من الأعمال الفنية، وفي الأفلام السينمائية وأفلام الكارتون والرسوم المتحركة. وكثيراً ما ترتبط موسيقى الدانوب الأزرق في المخيلة، بزمن الروايات الكلاسيكية، حيث رقصات الأمراء والنبلاء مع الجميلات بأثوابهن الطويلة الرائعة، والأفلام الرومانسية ورقصات العشاق في أوقات السعادة، وحفلات ليلة رأس السنة في كل عام.
على الرغم من أن هذه المقطوعة الموسيقية ترتبط بنهر الدانوب الأزرق في الأساس، إلا أنها تعبر بشكل أكبر عن المرح والحياة الجميلة الهانئة على ضفاف النهر، أكثر من وصف النهر نفسه عن طريق التعبير الموسيقي، أو إحساس الموسيقار العميق بالنهر وارتباطه الوطني به، وتأملاته الفلسفية في طبيعته وأسراره وطول جريانه. وهي موسيقى معدة للسماع والرقص في الوقت ذاته، كما أنها كانت مقطوعة غنائية في بداية الأمر، أعدت للكورال والغناء الجماعي، ولم يؤلفها يوهان شتراوس من تلقاء نفسه، بل بناء على طلب من أحد مسؤولي مسارح الكورال، فاستوحاها شتراوس من قصيدة عن نهر الدانوب الأزرق للشاعر كارل ايسيدور بيك، ثم تم كتابة كلمات أخرى للقطعة الموسيقية على يد سي. سي. هاسكينز، والغريب أن مقطوعة الدانوب الأزرق لم تلق النجاح المطلوب في نسختها الأولى الغنائية الكورالية، ما دفع يوهان شتراوس إلى إعداد نسخة أخرى موسيقية بحتة، كان مقدراً لها ذلك النجاح العظيم والمكان الثابت في قائمة أشهر المقطوعات الكلاسيكية الخالدة. لا تزال النسخة الغنائية الكورالية من الدانوب الأزرق تقدم حتى اليوم، ويدفع الفضول المستمع في كثير من الأوقات، إلى اكتشاف تلك النسخة الأولية التي لم تنجح. تتغنى كلمات النسخة الكورالية بجمال نهر الدانوب الأزرق، وصفاء مياهه الزرقاء، وخفة ونعومة أمواجه وتردد جملة «على الدانوب الأزرق الجميل» وتتحدث عن مرح المبحرين في رحلة نهرية وغنائهم المبهج، وعن القلوب السعيدة الخالية من الأحزان، وجمال الطبيعة المحيطة بالنهر.

نجم فيينا وملك الفالس

ظهرت النسخة الغنائية الكورالية من الدانوب الأزرق سنة 1865، بينما ظهرت النسخة الموسيقية البحتة في شكلها المعروف سنة 1866، في فيينا مدينة الموسيقى المزدهرة، حيث ظهرت قوالب وفنون موسيقية مختلفة، كفن الفالس رقصاً وموسيقى، وفن الأوبريت الذي شهد انتشاراً ونهضة كبيرة في تلك المدينة الموسيقية الباهرة. كان يوهان شتراوس في ذلك الوقت نجماً من نجوم فيينا عاصمة الموسيقى الأولى، وكان يلقب بملك الفالس، وعلى الأرجح أنه لا يزال يستحق هذا اللقب حتى اليوم، فهو من أكثر الموسيقيين الذين ألفوا المقطوعات لهذا القالب الموسيقي، وقدم أجمل الفالسات وأشهرها، على رأسها فالس الدانوب الأزرق، وأعمال أخرى لا تقل جمالاً وأهمية كفالس الإمبراطور، وفالس أجراس القران، وفالس كاس، وفالس كاجليوسترو، وغيرها.
عاش الموسيقار النمساوي يوهان شتراوس في الفترة من سنة 1825 حتى سنة 1899، وينتمي كما هو معروف إلى عائلة موسيقية عريقة متغلغلة في فنون العزف والتأليف، عبر الأجيال المتعاقبة في العائلة، حتى صار اسم شتراوس في حد ذاته لقباً دالاً على الموسيقى. فمؤلف موسيقى الدانوب الأزرق هو يوهان شتراوس الابن، أو يوهان شتراوس الثاني، وكان أبوه يوهان شتراوس الأول أو الأب، موسيقاراً هو الآخر، رفض أثناء حياته انخراط ابنه في الوسط الموسيقي، حيث كان يشفق عليه من المعاناة وصعوبة الطريق، لكن يوهان شتراوس الابن أصرّ على التمسك بالموسيقى، والغريب أن يوهان شتراوس الابن كرر موقف الأب، ورفض انخراط أبنائه في مجال الموسيقى أيضاً، لكنهم صاروا موسيقيين، ولمؤلف الدانوب الأزرق أشقاء من الموسيقيين والعازفين يحملون جميعاً لقب شتراوس.
نهر الدانوب من أطول أنهار القارة الأوروبية، ينبع من الغابة السوداء في ألمانيا، ويصب في البحر الأسود، ويمر في طريقه بعدة دول أوروبية هي ألمانيا، النمسا، سلوفاكيا، بلغاريا، مولدوفا، إلى أن ينتهي عند دلتا المصب بين أوكرانيا ورومانيا. يشتهر النهر بجمال مناظره الطبيعية الخلابة، وقد زادت موسيقى يوهان شتراوس من شهرته كمقصد سياحي مهم. فالس الدانوب الأزرق مقطوعة قصيرة يستغرق عزفها عشر دقائق تقريباً، وتعد من المؤلفات الفنية الرائعة التي تتميز بالجمال والحيوية والإيقاع الراقص. وقد تميز يوهان شتراوس بتأليف الموسيقى الكلاسيكية الخفيفة الراقية، فلا نجد عنده تلك الأعمال الكبرى التي تحمل فكراً إنسانياً عميقاً أو ثائراً، أو المقطوعات ذات الطابع الدرامي مثلاً. ترتبط أعمال يوهان شتراوس عادة بالتقاليد الموسيقية الاحتفالية، والمهرجانات الموسيقية، فهي موسيقى تحظى بشعبية كبيرة ومحبوبة من جمهور المستمعين حول العالم.
من جماليات فالس الدانوب الأزرق، توظيف الآلات الموسيقية لخلق التوازن والتناغم الدقيق، وخلق الحركة الموسيقية الدائبة بين الشكل الدائري والتموجات الانسيابية، والتبادل المستمر بين الآلات المختلفة، ما يمنح تلك القطعة الموسيقية حيويتها الدائمة. وظف يوهان شتراوس مجموعات الوتريات من الكمان والفيولا والتشيللو، وأضاف كذلك آلة الهارب، أو القيثارة التي تضفي دائماً لمسة خيالية سحرية رقيقة على الموسيقى، ومجموعة الهوائيات الخشبية، من فلوت وبيكولو وكلارينيت وأوبوا وباصون، مع اختلاف الأثر والدرجة الصوتية لكل من هذه الآلات، كصوت البيكولو الرفيق الذي يعطي دفعة رشيقة للموسيقى، ومجموعة الهوائيات النحاسية، ذات الصوت الأعمق والأكثر قوة، خصوصاً مجموعة البوق الفرنسي التي تتبادل النغمات المتقطعة مع الوتريات. كما يعتمد الفالس على التكرار، والتصاعد النغمي البطيء عند تكرار الجملة الموسيقية، ما يوحي بالتنويع، ويخلق الأثر الراقص للموسيقى، وهذا من أهم نقاط القوة لدى يوهان شتراوس كموسيقار، تلك القدرة على تأليف الموسيقى الكلاسيكية الراقصة الراقية، فقد عزفت موسيقاه في قاعات القصور وصالات الرقص الفخمة، ورقص على أنغامها الأمراء والنبلاء، وحتى من لا يرقص على أنغامه فإنه يستشعر تلك الطاقة الراقصة الكامنة في الموسيقى نفسها، فهو كما قال عنه عباس محمود العقاد: «أرقَص الكرة الأرضية في مدارها» متأثراً على ما يبدو بسماع موسيقاه في ليلة من ليالي القاهرة سنة 1939.

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حاتم. مونتريال:

    عالم مروة، عالم شعري موسيقي يبعدنا عن هموم السياسة و تطاحناتها. شكرا أستاذة

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا أستاذ حاتم. تحياتي لك

  2. يقول نبهان الزوري:

    اختيار مميز وتمييز الدكتورة مروة..اجتمع فيه
    الفن والذوق والشاعرية..هل حضرتك شاعرة؟

  3. يقول أفانين كبة - كندا:

    صحيح كما قيل ، بإن الإبداع هو السماء الثامنة والأرض الأخرى في هذا الكون.
    فعلا أن موسيقى الدانوب الأزرق هي من الروائع التي تحمل فيها سحر وجمال ترفع الانسان عالياُ الى المجهول .
    حقيقة لقد بذل هؤلاء العظماء جهودا كبيرة وأعطوا الكثير من وقتهم وروحهم لكي يتركوا لنا هذا الإرث والفن الأصيل الذي نستمتع به لحد هذا اليوم والذي للأسف أن القليل من هذا الجيل من يُقدره ، علما أن في المدارس هنا يُعرفون التلاميذ على الموسيقى الكلاسيكية .
    بعد قرائتي لهذا المقال الجميل والبحث الواسع الذي يليق بالموسيقار الخالد يوهان شتراوس ، تمنيت العودة الى الوراء ، الى ذلك الزمن الجميل والذوق الراقي .
    شكرا للباحثة مروة صلاح متولي

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا سيدتي الكريمة. أسعدني اطلاعك على المقال وتعليقك الجميل. على الأقل عندكم المدارس تقوم بدورها. من الضروري التعرض للجمال، خصوصا في الأوقات التي يسود فيها القبح.
      خالص تحياتي أستاذة أفانين

  4. يقول سناء مقدسي:

    كم استمتعت بهذا المقال الأنيق الذوق.

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا

  5. يقول هيثم:

    ممتع هذا المقال عن الموسيقار النمساوي الكبير يوهان ستراوش و سمفونيته الخالدة الدانوب الأزرق الجميل/ le beau Danube bleu / مقال يتضمن معلومات خصبة و مفيدة عن هذا الموسيقار و أسرته التي توارثت ثلاثة أجيال منها الإبداع الرائع في مجال الموسيقى الكلاسيكية . الجميل في المقال كذلك الاشارة إلى حفلات موسيقى و رقصة الفالس في فيينا العاصمة التي تصدح بالموسيقى في قصورها و في دار الأوبرا و في متاحفها و محلاتها العامة، مدينة موزارت و آل ستراوش… منذ سنوات خلت شاهدت فيلما عن أسرة ستراوش و العلاقة المتوترة بين يوهان ستراوش و والده و كان الفيلم يركز على خوف الأب من تألق الابن و تفوقه. أخيرا كما ذكرت الدكتورة مروة الدانوب من أكبر أنهار أوروبا و مناظره الطبيعية جميلة و خلابة و هو يمر أيضا على بودابيست عاصمة هنغاريا حيث النهر ينساب في فضاء عمراني بديع و على بلغراد عاصمة صربيا… الخلاصة مقال ممتع مع كامل الشكر و التقدير للدكتورة مروة المتألقة على الدوام.

    1. يقول ابن الوليد. المانيا. (على تويتر ibn_al_walid_1@):

      اهلا ابى هيثم.. تتمة عن بودا بيست .. بيشت تقع شرق
      الدانوب… وبودا في الغرب.. واتحدا ليكونا بودابيست..
      .
      مثل مدينة سلا والرباط في المغرب.. يفصل بينهما نهر ابي رقراق…
      .
      ولا ادري اي اسم سيختاران إن اتحدتا… 😀
      .
      وشكرا لمروة على المقال الماتع…

    2. يقول مروة صلاح متولي:

      كانت عائلة كبيرة جدا بالفعل. شكرا جزيلا أستاذ هيثم العزيز، سلامي لحضرتك

    3. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا لك ابن الوليد

    4. يقول هيثم:

      فعلا عزيزي ابن الوليد مدينة بودابست تتكون من قسمين يفصل بينهما نهر الدانوب: بودا و بيست. تبقى المباني و الصروح العمرانية التي شيدت في القرن التاسع عشر في العهد الامبراطوري من أجمل المآثر العمرانية و تزداد رونقا عند القيام بجولة croisière على الدانوب حيث تكون الرحلة أجمل من مثيلتها في فيينا التي لا يخترقها النهر من وسطها.تحياتى أيها العزيز.

  6. يقول بلي محمد من الدار البيضاء المملكة المغربية:

    فقط كلمة أرق من شعرة الهدهد ان صح التعبير تحت ظل هد ا الموضوع الفني الموسيقي التاريخي لكن ادا سمحتم لنا شكرا لكم ودائما وكدالك الكاتبة الباحثة بلغة الفن صلاح مروة من يدخل عالم الموسيقى القديمة يرى صورا ويسمع أ صو اتا مختلفة ومتنوعة تحيره وقد تنسيه الهموم وماأكثرها في زماننا هد ا وهي ناجمة عن الجهل ان صحت الكلمة .

  7. يقول قلم الرصاص:

    جال بنا المقال البديع بكل الأماكن و الممرات التي يعبر منها نهر الدانوب الخالد في سفر مبهج و موسيقى يوهان شتراوس التي منحته الازل رفيقا و دليلا لنا . كنت اقول ان شتراوس فتح لمن استعصى عليه الحلم ابواب عوالم الاحلام بلا مقابل بتحفته الموسيقية الدانوب الازرق و اتساءل عن سر رغبتي في التمايل نشوة كلما نلت حظي منها اتراها ارقصت الكرة الأرضية في مدارها كما كشف الراحل العقاد من زمان ؟.شكرا للمبدعة مروة متولي
    على حسن الاختيارات ، مزيدا من التألق تحياتي

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      ويقول الأستاذ العقاد أيضا عن موسيقى شتراوس: “فهي تمثل المرح، ولكنه مرح الفكر الإنساني حين ينشط فيملي نشاطه على الحواس والأعضاء، فالراقص على أنغام شتراوس إنما يرقص لأن له نفسا إنسانية قد شاع فيها السرور، فنهضت بالجسم الذي هي فيه إلى الحركة الموزونة والنشاط المنسوق”.
      ربما هذا سبب رغبتك في التمايل
      شكرا جزيلا أخي العزيز. سلامي لك

  8. يقول منصور:

    شكرا يااستاذة مروة .. مقالاتك تعليمية ممتعة وفيها معلومات اعرفها لأول مرة معروضة بطريقة سلسة مبسطة , وقد استفدت منها جدا لأني أحب الموسيقا الكلاسيكية جدا لكن تنقصني عموما الثقافة الموسيقية , وحبذا لو تكرمتِ يااستاذى مروة فأرشدتِنا إلى بعض الكتب المفيدة في اللغة العربية نجد فيها عرضا مدرسيا وتعريفا للمصطلحات التي لايفهمها مبتديء مثلي مثل روندو , فوغو , كونشيرتو , اليغرتو , سولو , غافوت , الحركة في السيمفونية , حركة بريستو … وكثير غيرها مرت معي في قراءاتي ولم افهم معناها .. سلمت يداك على ماكتبتِ وعلى ماأفدتِنا به …

اشترك في قائمتنا البريدية