قامت رواية جانب من المتعاطفين الغربيين مع إسرائيل على اعتبار أنها امتداد لـ«العالم المتحضّر» في قلب منطقة تسودها البربرية والهمجية، والأنظمة الديكتاتورية والثيوقراطية، وهو تصوّر له جذوره في الحركة الصهيونية، ويمكن اقتباس بعض من كتابات ثيودور هيرتزل، وغيره، لتأكيد حضوره. كما تبنّاه عدد من المؤسسات الثقافية والسياسية الغربية، وأثّر في سياسات الحكومات.
رغم كل هذا فربما تكون هنالك مبالغة، خاصة في الأوساط الثقافية والسياسية العربية المعاصرة، في تقدير حضوره وتأثيره، فهو لم يكن يوماً سائدا بشكل أحادي، خاصة أن القضية الفلسطينية كانت تاريخياً في قلب منظور «التحرر الوطني» على المستوى العالمي، وحشدت دائماً كثيراً من المتعاطفين والمؤيدين في الدول الغربية وغير الغربية. كما أن الجدل حول الصراع العربي الإسرائيلي، قسّم داخلياً قوى اليسار واليمين الغربي طيلة العقود الماضية، بين فئات مؤيّدة للفلسطينيين، من منظور تحرري أو قومي؛ وأخرى تدعم إسرائيل بشكل غير مشروط، لأسباب تراها أيضاً تحررية أو قومية، وهنالك تاريخ طويل من تبادل الاتهامات بين «أنصار الهيمنة الإمبريالية» و«معادي السامية المهونين من الهولوكوست» ضمن تلك القوى.
حتى على مستوى الحكومات، سنجد أن دولاً مثل إيطاليا وإسبانيا والسويد، لم تتعامل أبداً مع فلسطين بوصفها «قضية شعوب همجية» هذا إذا لم نذكر مواقف ألمانيا الديمقراطية ودول المعسكر الاشتراكي في القرن الماضي. من جهة أخرى لم يكن من النادر أن تحصل بلدان عربية، مثل مصر والأردن ولبنان، على دعم مالي وتسليح، من الدول نفسها التي تناصر السياسات الإسرائيلية علناً. من أين يأتي إذن الانطباع بأن «الغرب» باعتباره ذاتاً أحادية، يدعم إسرائيل لأسباب «حضارية»؟
ربما يكون الموقف العنصري الفاضح ضد العرب والفلسطينيين مستفزّاً للغاية، إلا أن هذا النمط من الخطابات العنصرية اليمينية، التي تقسّم العالم إلى مبدأين جوهريين متصارعين، سواء كانا «حضارة» و«همجية» أو غيرهما، لم يعد مقبولاً أو مقنعاً عموماً، على مستوى الثقافة الاختصاصية والجماهيرية الغربية، ويلجأ أصحابه غالباً إلى نوع من «التقية» في إبداء آرائهم، ويبدون محاصرين في منابر الحيز العام الأكثر احتراماً، فيما قد يكون من المفاجئ ملاحظة أن ذلك التقسيم صار خطاباً يسارياً أساساً، تتيح له يساريته، أو ما يفترض أنه رصيد تاريخي من معاداة العنصرية والاستعمار، مساحة مريحة لفرض تسميات، تبدو اعتباطية وتبسيطية جداً، حول مسائل بتعقيد الصراع الاجتماعي والسياسي والعسكري في منطقتنا. ولكن هل هذا النمط من «التعاطف» القائم على فرض مبادئ تبسيطية وجوهرية، مفيد لأي قضية من قضايا المنطقة؟ وهل الحلفاء اليساريون، قادرون على مساعدتنا في التخلّص من الهيمنة والعنصرية الغربية؟
في محبة الأتقياء
ربما يبدو موقف كثير من المتضامنين الغربيين بسيطاً للغاية: هنالك مجموعة بشرية تتعرّض لحرب إبادة من طرف دولة احتلال نووية عنصرية، وبالتالي يجب إدانة تلك الدولة ووقف الحرب فوراً، إلا أن خطاب عدد من القوى، التي تحسب على «اليسار» الغربي، لا يقوم على هذا الموقف الأخلاقي البسيط، والمُحق، وفقاً لأي معيار، بل يتلازم مع تصنيفات أيديولوجية لافتة: إسرائيل دولة تتسم بخصائص الحداثة الغربية الاستعمارية الجوهر بالضرورة، ولذلك فإن سياساتها في الاقتلاع من الأرض والفصل العنصري، تكرار واضح لمسيرة «الرجل الأبيض» عبر التاريخ؛ أما الفلسطينيون فهم مجموعة بشرية أصليّة، تقاوم للحافظ على نمط حياتها وثقافتها وعلاقاتها الاجتماعية العضوية، ضد تلك السياسات المتأصّلة في الذات الغربية، وهم مختلفون جذرياً عنها، وبالتالي من الخطأ تقييم أفعالهم السياسية بأي معيار «غربي» بل ربما كان الحديث عن سياسة في أوساطهم غير ذي معنى، فهم يقومون بردود فعل تعبّر عن أصلانيتهم.
يبدو هذا أشبه بإعادة إنتاج للفكرة اليمينية العنصرية حول الصراع بين إسرائيل الحضارية الغربية، وشعوب المنطقة الهمجية، ولكن بعد قلب أحكام القيمة، فـ«الهمجية» أي الاختلاف الكامل عن الذات الغربية، باتت «أصلانية» مقيّمة إيجابياً، وتحوي عناصر مثيرة للخيال، مثل تقوى الأصليين، التي تمكّنهم من مواجهة الألم والظروف القاهرة؛ وتمسّكهم بالأرض، التي يعيشون بتناغم أيكولوجي معها، في حين تصبح «الحضارة» بمعناها الغربي، شراً عابراً للتاريخ، لا بد من الخلاص منه بأي طريقة.
موقف ذلك النوع من المتعاطفين ليس بسيطاً إذن، ربما من الأفضل وصفه بـ«التبسيطي» وهو تبسيط أيديولوجي متعمّد، يصل إلى درجة الإلغاء الكامل لتعقيد الجماعة/الضحية، التي يجب التضامن معها، ما ينتج بالمحصّلة دراما واضحة المعالم، يسهل جداً متابعتها والتأثّر بها. وهي ليست مجرّد نتيجة للجهل أو شح المعلومات عن منطقتنا وصراعاتها، ونشأة شعوبها ودولها، وتاريخها مع التحديث، فالمصادر كثيرة ومتوفرّة ومُتاحة للعموم، وإنما تلعب وظيفة أساسية بالنسبة لحامليها، لإعادة إنتاج نظرتهم لذواتهم نفسها، أفرادا وجماعات هوية متطهّرة، ومتفوقة أخلاقياً وسياسياً، بما يعطيها حقاً كاملاً، لا جدل فيه، في فرض منظوراتها على الآخرين. ربما لا يتعلّق الأمر هنا فقط بـ«استشراق معكوس» حسب تعبير المفكّر السوري صادق جلال العظم، فذلك المنظور لم يعد مجرد ردة فعل، غير متقنة، على عنصرية استشراقية أو استعمارية سائدة، بل بات هو «الفعل» نفسه. لا يوجد اليوم كثير من المؤسسات اليمينية العنصرية الاستعمارية، التي تنشر أفكارها بين سكان منطقتنا، أو تُنتج نخباً تابعة لها، فيما تنتشر عشرات المنظمات والجماعات والجهات الإعلامية و«التوعوية» التي تحمل المنظور التطهّري بدرجات متفاوتة، وتستقطب معظم النخب المتعلّمة في المنطقة العربية، خاصة التي لا تصنّف نفسها مباشرةً ضمن الإسلام السياسي أو القومية المتطرفة. ولكن ما الضرر الفعلي من الأطهار الغربيين، الذين يحبّون شعوبنا التقيّة، ويناصرونها في صراعاتها؟
احتكار الأسماء
التبسيط اللامتناهي لصراعات بتعقيد صراعات الشرق الأوسط، يتيح لأوساط ناشطي اليسار الغربي، القدرة على إطلاق تسميات سهلة على مجموعات بشرية «بعيدة» شديدة التعدد. وهذه القدرة على احتكار التسمية، تؤمّن نوعاً من السيطرة على حضور تلك المجموعات، سواء كان حضوراً في المخيّلة الغربية، أو ضمن الجاليات في الدول الغربية، أو بالأصح جماعاتهما السياسة المنظّمة والمموّلة. أياً كان الاسم، مسلمين، سكّانا أصليين، ملونين، أبناء مستعمرات سابقة، فهو يتيح التغاضي عن تعددية المصالح والمواقع، وعوامل الصراع، ضمن المجموعات البشرية في منطقتنا، لحساب جعل حلفاء ذلك «اليسار» الغربي، ممثلين أحاديين لـ«الهوية» التي يرتضيها لسكان منطقتنا.
ربما يمكن القول إن «المتعاطفين» الغربيين يتضامنون فعلياً مع أنفسهم، ومع الرموز الذي يخلقونها عن المنطقة، لتثبيت روايتهم الخاصة، ضمن تعقيدات السياسة المحلية لديهم، وليس مع البشر الواقعيين في الشرق، وبالتالي فإن نمط تحالفاتهم، مهما كان مدّعياً «للتقدمية» يتستّر على كثير من علاقات الهيمنة والقمع والاضطهاد، ضمن جماعات «المحليين» أنفسهم. يؤدي ذلك لتأسيس نوع من «النخبة التابعة» الجديدة، من ناشطين من أصول شرق أوسطية، يجدون في يسار غربي من ذلك النوع أسلوباً لتمكينهم، وإعطائهم صوتاً ما، يمنحهم قوة معنوية ومادية، وحضوراً ضمن صراعاتهم المحلية، حتى لو كان هذا على حساب سلبهم القدرة على تعيين الأسماء والمفاهيم المناسبة لواقعهم، ما يجعلهم يكتفون بـ«الترجمة» أو «مخاطبة الغرب». إلا أن هذه الترجمة ليست دلالة على التواصل والانفتاح مع ثقافات أخرى، بقدر ما هي تبعية لتعيين سياسي، محدد وفق مصالح وهموم جماعات «خارجية». وهذا لم يكن يوماً خيار المنفتحين، أو التنويريين، أو حتى الأصوليين، في منطقتنا.
ضد «الأصليين»
ليس سكان منطقتنا «سكاناً أصليين» أو مجرّد «ملونين» بل هم شعوب سياسية، بالمعنى المعاصر للسياسة، عرفت التحديث في فترات مقاربة جداً للتحديث الأوروبي، وكانت فئات منها أحياناً «ضحايا» له، فيما لعبت فئات أخرى دور «الجلادين» ودخلت في علاقات متنوعة مع الدول الغربية، لم تكن بالتأكيد في اتجاه واحد، أو وفق تقسيم تبسطي هوياتي بين «ظالم» و»مظلوم». قد يكون كل متظاهر اليوم في الدول الغربية، ضد حرب الإبادة الإسرائيلية، مفيداً وضرورياً لوقف المجازر، ولكن هذا لا يعني الركون إلى التحديدات الفوقية، التي تسلبنا القدرة على ممارسة السياسة، بوصفها إنتاجاً للخيارات المتعددة، والطروحات التواصلية المراعية للتنوّع. يمكن لشعوبنا، تماماً مثل الشعوب الغربية، أن تقترح برامج سياسية كثيرة ومتنافسة، وأفكاراً متعددة لتجاوز واقعها السيئ، وليست محدودة فقط بخيارات جماعات تثير خيال المتضامنين الغربيين، ويعتبرون فعلها حتمياً أو ضرورياً أو تعبيراً عن الأصلانية. التركيز على هذا ضروري للغاية، لأنه نوع من المواجهة لعنصرية مستجدّة، تكرّس حضور لون واحد في أوساطنا، وتعطيه كل التمثيل، فيما تتغاضى عمداً عن فعل دول وجماعات سياسية حديثة منظمة، تضطهد شعوبها أولاً.
ربما يجب عقب هذه الحرب المدمرة، التي تثير كثيرا من علامات الاستفهام حول أيديولوجياتنا المحلية، أن تهتم قليلاً بمواجهة هيمنة غربية، تسلبنا القدرة على التعبير المستقل عن تعدديتنا السياسية والاجتماعية.
كاتب سوري