شهدت تونس في الآونة الأخيرة انتخابات متتالية على مراحل بين رئاسية وبرلمانية، وقد مثلت تلك الانتخابات في بعض تجلياتها ذات الصلة باستكمال مسار الانتقال الديمقراطي ببلاد الياسمين ثورة ثانية بحق، لأن هذا الاختيار الإرادي الحر للشعب مهما تكن من ملاحظات عليه، فإنه يبقى تمرينا ديمقراطيا أصيلا نقل الصراع على السلطة والاختلاف السياسي من دائرة العنف والقوة والانقلابات الناعمة والخشنة، إلى دائرة التعبير السلمي، وصيرورة هذا التحول كان حافلا بالدلالات لكل المتتبعين لقراءة ديناميات الوعي السياسي والمجتمعي بقضايا الحرية والديمقراطية، والموقف من النخب والفاعلين في الحقل السياسي والمدني، ومن ثم طبيعة الثقافة السياسية التي تشكلت في العقد الأخير رغم ما فيه من خيبات.
تنظيم الانتخابات
أول درس قدمته تونس، أن تنظيم الانتخابات كما سبق والصراع السلمي على السلطة، خطوة كبيرة ونقطة ضوء في عتمة تغطي كل الإقليم العربي، ففي تونس نتابع استنبات جذور الديمقراطية باعتبارها ثقافة وسلوكا في التعبير عن المواطنة والتعاقد بين الدولة والمجتمع، قد تحتاج حقيقة إلى مدى زمني لتستقر ويشب عودها، كما هي سائر الديمقراطيات، لكن كما تتبعنا في ثلاثة انتخابات وطيلة مسار الانتقال الديمقراطي منذ اندلاع الثورة، فإنه يتبين لنا أن الشعب والقوى الحية في المجتمع التونسي وضعت آليات العنف ومنطق الدولة البوليسية خلفها وأعلنت بداية عهد جديد، قد تكون فيه الاختلافات الإيديولوجية حادة أحيانا، بل قد تكون القابلية حاضرة للانقسام المجتمعي على أساس إيديولوجي بفعل صراع النخبة التي تستثمر في قضايا تشكل عامل تقاطب كما هو الحال مع مسألة الميراث سابقا، لكن المجتمع أضحى عنصرا جديدا، بحيث بادر إلى خفض مشاركته في الانتخابات البرلمانية، لكنه عمل تحصين إرادته في الانتخابات الرئاسية.
هنا نكون أمام الدرس أو الدلالة الثانية التي حملتها الانتخابات التونسية، حيث شهدنا تراجع الأحزاب أو التنظيمات السياسية التقليدية، فمرشح النهضة عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية حل ثالثا ولم يمر إلى الدور الثاني رغم القوة التي يتمتع بها تنظيمه الحزبي في المشهد السياسي التونسي، ونتائج الانتخابات النيابية عرفت تلاشي حزب نداء تونس وانحسار أحزاب أخرى، بالإضافة إلى أن الثقل الذي كانت تحضر به أحزاب من قبيل النهضة في البرلمان، لم تحافظ عليه رغم حلولها في المرتبة الأولى، مع التأكيد على ضعف المشاركة في الانتخابات النيابية، ما يعني عدم الرضى على النخب والقوى السياسية التقليدية، وحصول خدش في عنصر الثقة بين الطرفين.
الخطاب السياسي التقليدي
يؤكد هذا المنحى في تراجع شعبية الأحزاب السياسية وخفوت الرهان عليها من طرف المجتمع، الدعم والمساندة التي حظي بها مرشح الرئاسة قيس سعيد في انتخابات الرئاسة، سواء في الدور الأول أو الثاني، هذا الأخير لم تكن خلفه حملة أو هيئة منظمة وفعالة، إنما شريحة واسعة من الشباب التي لم تعد تجد في الخطاب السياسي التقليدي أي تعبير عن آمالها وتطلعاتها، هذا الانزياح لشريحة الشباب وفئة واسعة من المجتمع إلى المرشح قيس سعيد، جعلت البعض يحكم على هذا الأخير بالنزعة المثالية الثاوية في خطابه السياسي، بينما الدولة تدار بمنطق براغماتي واقعي وليس برؤية حالمة، وقد قدم الكثير الدروس في تشريح ونقد خطاب قيس سعيد، دون أن يتساءل هذا الجميع ما هي عناصر الجذب الأخرى في خطاب الشخص، والتي افتقدها الخطاب السياسي للنخب والفاعلين، أو لماذا نفرت شريحة واسعة من المجتمع التونسي من باقي الأنماط المتداولة من المرشحين في الانتخابات الرئاسية واختارت النزوع إلى المثالية بدل الواقعية التي جسدها آخرون؟
ينبغي التأكيد أن الحالة التي نحن بصدد الحديث عنها هي تخص كل المنطقة والشعوب العربية في علاقة بالفاعلين والنخب السياسية التقليدية وأدوارها المنتظرة، فالدفق الذي أحدث التغيير في بداية العقد كان مدفوعا بنزعة مثالية، ومن ثم فإن عودة النزعة المثالية، هي من صميم استعادة الروح الثورية، مقابل النزعة الواقعية المفرطة؛ فالتيارات المجتمعية العريضة لحظة تعبيرها الحر، من خلال الانتخابات كما جرى في تونس، أو في هبات شعبية واحتجاجية كما جرى في كثر من قطر عربي، فإنها تعيد رسم المسار والتذكير بأصل الحكاية التي كانت قد بدأت تجرف مع الثورات المضادة، الديمقراطية والحرية، رغم ما يمكن أن تناله الشعوب من أحكام، إما بكونها ذات منزع عاطفي، أو العكس.
إن الحديث هنا عن المنزعين المثالي والبراغماتي الواقعي كما تم تصويره من البعض، ليس من أجل ذم هذا أو مدح الآخر والإشادة به، وإنما من أجل استعادة التفكير في تموقع القوى السياسية التي ظلت حاضرة بنزعتها الواقعية في المشهد السياسي التونسي، وعلى غرارها في كل الإقليم، ألا نتابع الآن في تونس التي أطلقت فتيل ثورات الربيع، إعلان ضمور الأحزاب والتنظيمات التقليدية، بحيث عبر المجتمع بوعي وإرادة من خلال مسالك جديدة؟ أليس هذا ما يجري مؤشرا على أفول مرحلة عنوانها الحزب/التنظيم السياسي التقليدي وبداية أخرى بخصائص وسمات مختلفة عن سابقتها؟
إن الموضوع يحتاج إلى التأمل ومن المستعجل الحكم النهائي عليه، فرغم أهمية التنظيمات التقليدية والأدوار التي اضطلعت بها في تونس بعد الثورة، خصوصا الأحزاب التي خرجت من رحم الثورة من قوى سياسية وطنية يسارية أو إسلامية أو ليبرالية، أو غيرها من التنظيمات الفئوية الأخرى، وبالأخص الدور الطليعي للنقابة في الإسهام في الانتقال الذي أوصل تونس إلى اللحظة الحالية التي يتم فيها التعبير السياسي بكل حرية، فإن دور تلك التنظيمات والأحزاب السياسية في ظل الثقافة السياسية الراهنة وبحكم صيرورة الزمن المكثفة منذ اندلاع الثورة إلى الآن، تشي أننا في طور تحول يتم فيه تجاوز التنظيمات التقليدية والخطاب السياسي التقليدي، باعتباره لا يعبر عن روح المرحلة الراهنة.
تراجع المنطق التقليدي
إن كل المؤسسات والمنطق التقليدي في الفعل السياسي والمدني أصبح في تراجع ليس في الإقليم العربي وحده، وإنما هي روح جديدة بثت في الثقافة الراهنة على مستوى العالم، نظرا إلى المسالك والوسائط التي أضحت تشكل الوعي لدى الناشئة في الزمن الراهن، وعدم فهم التغيرات الحاصلة جعلت الكثير يقف موقف ريبة من الربيع العربي في بداياته، وكذلك الآن مع ما جرى في تونس. لكن النظر إلى الاحتجاجات التي طبعت مطلع الألفية منذ حركة احتلوا وول استريت والتأمل في خصائص الثقافة ومسالك تشكيلها والتأثيرات التي أحدثتها الثورة الرقمية والاتصال عموما، والعناصر الفاعلة في توجيه الوعي المجتمعي لمختلف الشعوب، يجعل المتابع يعي طبيعة التحول الحاصل ومدياته الممكنة، إذ إننا أمام انهيار نسق وبداية تشكل أخرى لا نعرف خصائصه، لكن الفضاء السيبراني هو مجاله، والتحكم في أدواته، يعني نوعا من السيطرة على المستقبل، ومعلوم أن الزمن والوعي والأدوات الفاعلة، تختلف بين الأنساق التي ظلت سائدة في المجتمع، وما يحكم هذا المجال الذي يشهد ثورة وأضحى يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الإنسان والمجتمع.
جانب آخر في الضمور الذي شهدته وستشهده التنظيمات التقليدية، هو استشعار الإنسان كون التنظيمات والهياكل والأنساق التقليدية من المؤسسات إلى الخطاب الدارج، تشكل عبئا وثقلا أمامه، كونها لم تعد قادرة على حل معضلاته بفعل التحولات الراهنة، وربما العجز الذي حصل في حل مشكلة الاحتجاجات في فرنسا مثال على ذلك، وعدم القدرة على التوقع بهذه الاحتجاجات المختلفة تشير كذلك إلى تفلت الوعي من ربقة السيطرة والتحكم الواقعي إلى أدوات التأثير الأخرى، لكن في مجالنا العربي، هي بمثابة إعلان نهاية مرحلة سياسية ومؤشر ميلاد جديد، قد لا يزكيه الواقع كلية، لكنه مؤثر، وهو ما ينبغي الوعي به، لأنه أشبه بقفزة من مرحلة ما قبل الدولة إلى مرحلة ما بعد الدولة.
إن تونس التي كان لها السبق في إطلاق الثورة من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة في العالم العربي، هي الآن فيما يبدو تطلق مرحلة جديدة، بحيث تجعل من المجتمع هو من يتكفل بإنجاز التغيير، من خلال المشاركة الفاعلة، وتجاوز الأحزاب التقليدية، إلى أدوات الفعل والتأثير الأخرى. غير أن الأهم في تونس هو ذلك الوعي اليقظ بأهمية الديمقراطية، والذي سيضخ في الشعور العام للمجتمعات العربية، أملا جديدا في مسار الربيع، ويفتح آفاقا للتفكير في ممكنات الديمقراطية إذا تحصل العزم، من أجل إطلاق مسار جديد في مناخ سياسي إقليمي ظنت قوى الثورة المضادة أن أزمنة التغيير ذهبت إلى غير رجعة، وأن الديمقراطية كلمة تستحق الرجم. لكنها الشعوب تحافظ على مخزون طاقي ذاتي من إرادة الحرية ومناهضة الاستعباد والظلم، يعبر عن ذاته في اللحظات الحرجة، وهو ما عبر عنه الشابي شاعر تونس والإنسان الجديد في القرن العشرين:
إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر.
وكذلك حصل في تونس، في ثورتها الثانية، فلم تكن الدبابة، إنما الفيصل هو صندوق الاقتراع، الثقافة الجديدة في المنطقة التي نحتاج إلى التمرن عليها.
كاتب مغربي