■ تعتبر المدونات التاريخية مصدرا مهما من مصادر معرفة مجريات الأحداث في الأزمنة الغابرة، ولكن من الوهم اعتبارها مصدرا كامل الصدقية، وحقيقة لا لبس فيها، فالمدوَّن التاريخي يمثل رؤية المدوِّن له مستندة إلى ما سمعه، أو أبصره، أو أحس به، تحت تأثيرات متعددة، أيديولوجية، أو عقائدية، أو نفعية، أو اجتماعية، أو غيرها، كما أن قارئ المدوَّن التاريخي لا يبعد كثيرا عن تلك المؤثرات، سواء في عملية التلقي، أو في عملية التأويل. وبما أن الرواية هي عمل إبداعي متخيل يستمد من الواقع، أو المدوَّن التاريخي، أو الخيال حكايته، ليقدمها في سياق سردي يختلف عن سياقات السرد التاريخي، مهما كانت درجات التقارب بين الواقع الحقيقي، والواقع الافتراضي. فمن الطبيعي أن يقوم الروائي بتقديم مرويته وفقا لرؤيته الفنية والفكرية، وإذا كان التلاعب بالمرويات التاريخية يتطلب موقفا صارما من الراوي، أو المؤرخ، كون تلك المرويات تمثل شريطا تسجيليا لمسيرة المجتمع، فإن الرواية لا يمكن أن تكون مصدرا تاريخيا، أو سجلا وثائقيا يبين الواقع الحقيقي للمجتمع زمانيا أو مكانيا، وأن توظيف بعض المسميات الشخصية، أو المكانية، أو الزمانية، هو من قبيل تكوين فضاء افتراضي لتنامي الحدث الروائي. وخلق مؤشر دلالي يساهم في إضاءة الأبعاد الدلالية للرموز، والمقاصد التي يسعى الروائي إلى نقلها للقارئ. ومن هنا فإن الحديث عن رواية كرواية «طوفان صدفي» للروائي سعدي عوض الزيدي، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 2008 ليس من الصحيح أن يدفعنا للبحث عن الجذور التاريخية للأحداث الواردة فيها، سواء كانت تنطبق في جانب منها مع المرويات التاريخية، أم لا تنطبق، فالحدث الروائـــــي هو حدث افــــتراضي، بيد أننا لا يمكن أن نغفل الدلالة الرمزية لتوظيف الشخوص، والمسميات التي تمتلك جذرا تاريخيا في سياق الحكاية؛ كونها تحمل الكثير من تلك الدلالات، سواء على صعيد شخوص الرواية، أو البعد الزمكاني لها، أو الفضاء السردي.
لقد عمد الروائي إلى تقسيم الرواية إلى ثلاثة فصــــول، حملت عناوين: طوفان أول، وطوفان ثان، وطوفان صدفي، وقد جــــعل من الفصلين الأول والثاني قاعدة انطلاق، وأساسا ممهدا للفصل الثالث، الذي يحمل عنوان الرواية.
اختيار الروائي اسمي إبراهيم وإسماعيل للشخصيتين الرئيسيتين لروايته، جاء بناء على ما يحملانه من مدلول رمزي في الموروث الديني والتاريخي، سواء من خلال انتساب النبي إبراهيم الخليل إلى أرض أور، أو أبوة إسماعيل للعرب.
يجترح الروائي حدثا في مكان افتراضي تكاد تُستشف بعض ملامحه من خلال أحداث الرواية، وهو العراق، غير أنه يلجأ إلى التمويه عن النقطة الجغرافية للمكان في العراق؛ ليضفي فضاء احتماليا أكثر سعة وأعمق رمزية، وهو وإن جعل من زمن الاحتلال العثماني فضاء زمنيا لأحداث روايته، إلا أنه فضاء لا يمت للواقع التاريخي بصلة، سوى بتلك المسميات التي تشير إلى ذلك العهد. ومن خلال عدم تطابق الواقع التاريخي مع الواقع الافتراضي، نستطيع أن نستشف أن الاستخدام القصدي لتلك المسميات إنما هو إشارة رمزية لجميع أشكال الغزو الأجنبي، بغض النظر عن جنسية الغزاة. وربما نلمح ذلك من خلال هذا المقطع (والمدينة ناصرت أو هادنت أو صمتت أزاء رطانة مقبلة).
ويبدو أن اختيار الروائي اسمي إبراهيم وإسماعيل للشخصيتين الرئيسيتين لروايته، جاء بناء على ما يحملانه من مدلول رمزي في الموروث الديني والتاريخي، سواء من خلال انتساب النبي إبراهيم الخليل إلى أرض أور، أو أبوة إسماعيل للعرب. ومن بين تلك المرموزات التي حفلت بها الرواية، ولعله أهمها، هو ذلك التحول الذي طرأ على إسماعيل الوريث الشرعي للوصايا، الذي تحول إلى تمثال ضخم في وسط القرية بفعل الطوفان الصدفي، حتى أن الباحثين الآثاريين لم يتمكنوا من معرفة المادة التي نحت منها التمثال، وأعلنوا أنه منحوت من حجر النيازك، كما يشير الروائي إلى ذلك على لسان (امرأة متمرسة في علم الأرض وهي من بلاد الإفرنج)…(من طرائف العصر ما جسدته إحدى القرى المغمورة وهي تخلد واحدا من المجانين أو الدراويش وتنحت له تمثالا من حجر نادر… إن تلك الأحجار تفد إلى الأرض عن طريق ما يتساقط من نيازك وشهب) ثم تعلن تلك الباحثة، أنه نحات فطري لم يذكر اسمه، مقارنة إياه بكاتب ملحمة كلكامش. ومن هنا أرى أن الروائي ربما أراد في رؤية تأويلية أن يلمح في خطابه إلى أن إنسان هذه الأرض محمل بصفات نادرة، وهو يصلح أن يكون مثالا شاخصا، سواء بعطائه الإبداعي كما هو في ملحمة كلكامش، أو بعطائه البطولي، كما هو في موقف أهل القرية وإراهيم ووريثه إسماعيل. بيد أن المشهد الأخير في الرواية قد يفتح أمامنا نافذة لرؤية أخرى، هي أن تلك الأسماك، التي ترمز ربما إلى سكان القرية، قد حولت- من خلال أصدافها التي تمثل الظاهر اللماع لهؤلاء السكان- ذلك الكائن البشري الوريث للوصايا إلى تمثال، أو كائن صدفي قوي في ظاهره، في الوقت الذي ظلت فيه تلك الأسماك مجردة من درعها الذي تحتمي به، والذي وهبته اختيارا، أو إجبارا إلى ذلك (المجنون أو الدرويش). ووراثة الوصايا هنا ربما تسبغ عليه سلطة من نوع ما، أو قيادة مفترضة لتلك المجاميع. وهنا يمكن لنا أن نحتمل لها تأويلين: الأول: إنه ربما أراد أن يوحي لنا بمقولة إن الشعوب هي من تصنع الأصنام، وتمنحها القوة؛ لتبقى تعيش في ظلها بأجساد واهنة. أو أن تلك الشعوب سوف تخسر قوتها، عندما تتخلى عن إرثها الذي يفرض عليها الدفاع عن أرضها وسيادتها.
وأرى أن رواية طوفان صدفي لم تتميز بجماليات السرد والثيمة فقط، وإنما امتازت بلغتها التي تتماهى مع تنوع الحدث، فهي تعتمد الوصف المكثف الذي يتناسب مع حركية الزمن الروائي حينا، وحينا تأتي محملة بدفقة شعرية تضفي نوعا من الجمالية للسرد.
كما تميزت أيضا بالقدرة الواعية للروائي سعدي عوض الزيدي على إدارة أحداث الرواية، ولملمت تشظياتها، والتحكم الاحترافي بخيوطها، لتنصبَّ في قالب جامع، يقدم فكرته بإمتاع وتشويق.
٭ كاتب وشاعر من العراق