احتفالات باريس الأولمبية: دلالات الرمزية والانحراف الثقافي

كعادتها التي لا تتعب من تكرارها، سواء في الإعلان المسرحي والضجيج الممل عن عطوراتها، أو موضات فساتينها الجديدة، أو مستحضراتها التجميلية، حاولت باريس أن تستعمل الأسلوب نفسه في مناسبة افتتاح الألعاب الرياضية الأولمبية في بلادها، من خلال تقديم عروض فنيّة متنوعة، بالغة الرمزية الغامضة وبالغة التحدي للذوق العام الإنساني، وبالغة الاستخفاف بالقيم الدينية والأخلاقية. فكان أن قدمت شتى أنواع الطقوس الشيطانية، بما فيها تقديم ذكرى العشاء الأخير للنبي عيسى عليه السلام وصحبه، كلوحة استهزاء مغموسة بشتى الشهوات الجنسية، متباهية بالمثلية ومعلنة عصر الإلحادية الدينية العلنية المتطرفة، وضاربة عرض الحائط بمشاعر ومقدّسات المسيحيين والمسلمين في فرنسا، بل العالم كله، ومحتقرة للأسس السامية التي قامت عليها مسيرة الألعاب الأولمبية منذ بدئها في أثينا اليونان حتى يومنا هذا.

فرنسا مثلما جاءت بعصر الأنوار ورفعت راياته الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، لتنقلب بعد حين على كل قيم الأنوار، ها هي اليوم تنقلب على أسس وقيم ومحدّدات الحداثة التي ساهم كبار مفكريها أدبائها وفنانيها في وضع إبداعاتها المبهرة

ولإكمال الصورة القبيحة للدعوات الجديدة التي تدعو لها، ذات الوجهين المتناقضين، منعت روسيا من المشاركة بسبب الحرب في أوكرانيا، ولكنها رحّبت بالكيان الصهيوني الذي أدانه العالم كله بممارسة الإبادة وقتل الأطفال والنساء المسالمين وحرق الأخضر واليابس في غزّة المنكوبة المحاصرة، والذي وصف وجوده في فلسطين بالاستعمار الاستيطاني غير الشرعي.
وفي الوقت الذي باسم الحرية الشخصية هلّلت باريس بحماس بقبولها بكل أنواع التعددية السلوكية، بما فيها الأخلاقية الجنسية المبتذلة، تناست، ومرة أخرى بوجهين متناقضين، أنها تمنع المرأة المسلمة الفرنسية من ممارسة حريتها الشخصية في ارتداء الحجاب الإسلامي في الأماكن العامة والمؤسسات الرسمية، وتناست أن اليمين المتطرف الفرنسي المتنامي في القوة والنفوذ، أعلنها بأنه لن يكون في فرنسا مكان للمرأة المسلمة المتحجبة، إن استلم هذا اليمين الحكم في المستقبل. وهكذا أعلنتها فرنسا الديمقراطية بأنه يحق للمثليين ما لا يحق للمتدينين. هكذا تفهم الحرية في فرنسا الحديثة. ليس المقصود تجريح أية جهة أو لأي فرد، لكن المقصود هو طرح سؤال نعتبره أساسيا: ألم يكن باستطاعة السلطات السياسية العليا في فرنسا الطلب من الجهة المنظمة لتلك المهرجانات المصاحبة للألعاب، أن تتجنب إحراجها السياسي من خلال إقحام كل ما هو مختلف من حوله، من قبل أعداد كبيرة من مواطنيها أنفسهم، ومن مواطني الأكثرية الساحقة من دول العالم المشاركة وغير المشاركة؟ وهل حقاً أن الضغوط الآتية من شتى جهات الانحرافات السلوكية في المجتمع الفرنسي تغلبت على احترام الذوق العام الفرنسي والعالمي؟
يحار الإنسان من العمى الذهني والنفسي الذي أصاب الكثيرين من مسؤولي السياسة والثقافة في المجتمعات الغربية، ومنعهم من أن يروا ويدركوا أن الانحرافات السلوكية والقيمية والاجتماعية التي تحاول الحضارة الغربية أن تنشرها في هذا العالم مؤخراً، لا تزال محل ألف خلاف وخلاف، وأنها، حتى في بلدان المنشأ، ستواجه لقرون طويلة مقبلة أكواماً وأمواجاً هائلة من التاريخ والمدارس الفكرية الكبرى، والرسالات الدينية السماوية والأرضية والفطرة البشرية، واستنتاجات الأبحاث العلمية الكثيرة، التي لن تسمح بالعبث بكل الأسس التي قامت عليها الحياة الإنسانية منذ بدئها وإلى يومنا هذا.
إن ما شاهدناه يؤكد الانطباع بأن لدى فرنسا طبيعة التخلّي الدوري عن كل جميل ومبهر في حضارتها. فمثلما جاءت بعصر الأنوار ورفعت راياته الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، لتنقلب بعد حين على كل قيم تلك الأنوار، عندما سارت في طريق ممارسة الاستعمار والاستعباد ونهب ثروات الآخرين باسم التمدين، ها هي اليوم تفعل الأمر نفسه من خلال الانقلاب على أسس وقيم ومحدّدات الحداثة التي ساهم كبار مفكريها وكبار أدبائها وفنانيها في وضع إبداعاتها المبهرة. ها نحن نرى الإسفاف بدل السمو وممارسة الظلام بدل إشعاعات الأنوار والتراجعات السلوكية بدلاً من التقدم نحو الأفضل والأنبل. ما نأمله هو أن يعي بفهم عميق شابات وشباب هذه الأمة ما فعله الغرب بحداثته، إذ هم يسيرون نحو بناء حداثتهم الذاتية العربية المبنية على أنبل ما في الفضائل والقيم.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علاء:

    بعيدا عن عرض “العشاء الأخير” الذي يبدو وكأنه يصلح ليكون عرضا من حفل رأس السنة أكثر من كونه يصلح وصلة من حفل افتتاح الألعاب الأولمبية، هناك اختيارات أخرى تطرح أكثر من علامة استفهام، كاختيار الحصان الشاحب الذي يرمز للموت والدمار واللعنات في الثقافة المسيحية كجزء من العرض، و توظيفه في سياق حفل عالمي يحتفل بالقيم الإيجابية كحفل افتتاح الأولمبياد. اختيار يعتبر فألا سيئا، فإذا كان حفل الافتتاح الباريسي قد اختار حصانًا شاحبًا، فقد يكون ذلك مجرد بداية. بعد الجرذان وبق الفراش، ونفوق الأسماك في السين، وحتى ضجيج النوارس، يبدو أن باريس تحاول أن تثبت للعالم أنها ليست فقط مدينة الأضواء، بل أيضًا عاصمة اللعنات المحتملة! مرة أخرى، سلسلة Belphégor المشهورة عند الفرنسيين من الستينات كانت وكأنها قد تنبأت أو لمحت لهذا كله، و حتى شخصيته في الرسوم المتحركة (والتي بالمناسبة تستحق التطوير) كان يرتبط نشاطها بظهور ظواهر غريبة وحيوانات خارجة عن طورها في باريس، وكأن المدينة تستعرض معه إرثها من اللعنات بأسلوبها الخاص!…

  2. يقول علاء:

    …عدى هذه التفاصيل، كان هناك اختيار لإحدى الشخصيات الممثلة للعبة Assassin’s Creed (والتي أصبحت رمزا لفخر صناعة ألعاب الفيديو الفرنسية) “تم اختيارها” لتظهر في حفل افتتاح الألعاب، لكنها كانت مشغولة جدًا بحمل شعلة البطولة لدرجة أنها نسيَت تقديم أي عرض مثير. ولو كان هناك خصم مثل “بيلفيغور” تم تطويره ك”شرير خارق”، لكانت قد أضافت لمسة من الأكشن والتشويق إلى الحفل، بدلاً من مجرد رفع الشعلة!”

اشترك في قائمتنا البريدية