الدورة السادسة لأيام قرطاج لفنون العرائس: عندما تمنح الظلال والدمى حياة جديدة وأملا في غد أفضل

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»:  تفتح تونس أبواب خيالها للنسخة السادسة من أيام قرطاج لفنون العرائس التي انطلقت خلال هذا الأسبوع، إنه أكثر من مجرد حدث، بل هو قصيدة لفن عريق ودقيق ومتطلب، يتجاوز الترفيه البسيط ليلمس الروح البشرية. منذ قرون استطاعت تونس أن تنسج بعناية وشغف خيطًا ذهبيًا ربط بين التقليد والحداثة، ما جعل فن العرائس أكثر من مجرد لعبة أطفال، بل لغة عالمية، ونفسًا فنيًا.
خلف الستائر، وفي ظلال الأجنحة، تعطي الأيدي الماهرة والقلوب المتقدة الحياة لهذه «المخلوقات» التي صنعت من الخشب والقماش والطين. إنها ليست مجرد شخصيات جامدة، بل كائنات تهتز، تتنفس، ترقص على إيقاع أنفاس الفنان.
في هذا العام، يضيء المسرح بألوان البرازيل النابضة بالحياة بحضور محرك العرائس الشهير، باولو نازارو. فمنذ يوم 20 كانون الثاني/يناير، وهو حاضر في تونس يقدم سحر فنه الرائع في صناعة الدمى العملاقة للطلاب والمحترفين في فنون الدمى، وينقل إليهم خبرته الفريدة. علاوة على ذلك، سوف يجتمع مشاركون من حوالي عشرين دولة في أيام قرطاج، حاملين معهم القصص والإيماءات والنظرات، وأيضا الحب المشترك لهذا الفن الصامت الذي يتحدث إلى الروح.

فن متجذر

منذ استقلال تونس، تطور فن العرائس وتحول وأعاد اختراع نفسه. لقد تم تدريسه لأول مرة في الأزقة النابضة بالحياة داخل أسوار المدينة العتيقة للعاصمة، ثم تم تأسيس مركز متخصص في سنة 1993 استقر خارج أسوار المدينة القديمة وتحديدا بشارع الحرية. أما اليوم، فيقع المركز الوطني لفن العرائس في قلب مدينة الثقافة، حيث ينفتح على آفاق بعيدة وينشر خبرته خارج الحدود.
ويعتبر الراحل الأسعد المحواشي أحد أبرز شخصيات هذا الفن في تونس، وكان آخر إبداعاته عمل بعنوان «لقاء»، اختصر فيه رحلته بالكامل كفنان. كما اختصر فيه أيضًا رحلة العديد من النفوس المبدعة الأخرى، التي تاهت في منحنيات حلم ضبابي، ولم تجد اعترافًا بما أنجزت في موطنها الأصلي.
ولذلك ستواصل أيام قرطاج لفنون الدمى هذا العام، كما في الأعوام السابقة، مهمتها في تكريم هؤلاء الفنانين العاملين في الظل، هؤلاء الأساتذة الصامتين الذين نسجوا روح هذا الفن حية بإخلاص وتواضع. ومن بين هؤلاء المبدعين، هالة بن سعد المديرة السابقة لمركز الدمى، التي مهدت رؤيتها الطريق للمستقبل، ومختار المزريغي، محرك الدمى وحارس الإشارات والتقاليد، ووسيم مبروك، مهندس الديكور الموهوب الذي يشكل أدق التفاصيل بالحب والدقة، والطاهر الدريدي، محرك العرائس الشغوف، الشاهد والممثل لأجمل صفحات هذا الفن العريق.
إن التفاني الخفي والكبير لهؤلاء، لا يزال يحرك الخيوط غير المرئية التي تربط الفنان بجمهوره. كما لا يزال أيضا ينفخ في كل دمية من هذه الدمى الصامتة نفساً من الحياة والإبداع الخالد الذي لا ينضب.
كما لا يجب نسيان فنانين آخرين في هذا المجال كانوا من الجيل المؤسس لهذا الفن على غرار حبيبة الجندوبي، وعبد المجيد سعد، ومحي الدين بن عبد الله، وحسن المؤذن، ومختار الوزير، وراشد المناعي، وغيرهم الكثير. هؤلاء هم من مهد الطريق، وأضفى روحًا على فن العرائس وبفضل تراثهم يستمر هذا الفن، مثل نبض خفي ولكنه قوي، مثل نفس عميق وحيوي ينشط أولئك الذين يعملون في الظل، ويعطي الحياة لما يبدو أنه جامد، أي الدمى.
فما دامت هناك أياد تشكل هذه الدمية وتلك، وعيون تتعجب منها، وقلوب تفهمها، فإن هذه الدمى ستستمر في سرد ​​القصص. كما ستستمر في نسج الأحلام، والتحليق بجمهور هذا الفن نحو آفاق لا نهاية لها في هذا العالم الرحب والفسيح الذي لا نهاية له.

سيرك هيلو الصغير

من بين العروض الهامة في هذه الدورة من المهرجان العرض الإسباني «سيرك هيلو الصغير» الذي يثير ضجة في مدينة الثقافة، حيث ترتفع ضحكات الأطفال البلورية عند مشاهدته مثل أصوات الطيور في الصباح. وعلى خشبة المسرح، ترقص فنانة، تلعب دورها دمية، محمولة بواسطة الحركات الجذابة ممن يقوم بتحريكها. وكل حركة تلامس الهواء مثل المداعبة، وكل دوران يثير اندفاعًا من الضحك من جمهور الصغار.
في هذه الأيام المشرقة من شتاء تونس الجميل، تكتظ مدينة الثقافة بأرواح الأطفال الفضوليين، يدا بيد مع آبائهم وأمهاتهم، الذين جلبوا الأبناء ليشربوا من نبع هذا العالم العرائسي العجيب الذي لا ينضب. إنه مسرح حي نابض بالحياة، حيث ينسج الخيال العوالم ويتشكل السحر في أبهى تجلياته الإبداعية.
تحت القماش الباهت لخيمة صغيرة منسية، رفضت دمية منسية من قبل سيركها أن تذعن للفناء وهي التي اعتادت على الحركة والنشاط وإمتاع الجماهير. ففي أعماق الليل الصامت وبعد أن اختفى السيرك واختفى الرفاق في الأفق البعيد، فتحت الدمية الصغيرة عينيها. لم ترضخ ولم تذعن للفناء وهي التي صُنعت على شكل امرأة هزيلة تدب فيها الحياة من خلال حبل مشدود بالأسلاك والخشب. لقد اختارت البقاء وقررت أن تجعل من هذا الغياب والفناء مشهدًا لعودة الروح للإنطلاق من جديد رغم غياب من كان يبث فيها الروح ويبعث الرسائل إلى العالم من خلالها.
وهكذا ولد «بيكولو سيركو دي هيلو»، أو السرك الصغير الذي صنعته الدمية هيلو في غياب سيركها، وهي مسرحية تنسج خيوط العاطفة والأحلام بإحكام شديد. إنها قصيدة نظمها شاعرها عن روح المثابرة والروابط غير المرئية التي تحفزنا حتى عندما يبدو كل شيء تائها.
فعندما ينطفئ الضوء ويغادر الجمهور، فإن السيرك لا يتوقف أبدا بالنسبة لهذه الدمية التي لم يعد لها الآن صاحب يحركها. حيث يتواصل العرض ومعه الحياة في كل ظل راقص، وفي كل ضوء مرتجف.
ترفع الريح بلطف ستائر الطريق المهجور، وفي هذا الفضاء من الصمت، تتخذ الخطوة الأولى. وبعد تردد في البداية يتبعه اكتساب للثقة، يرتفع جسد الدمية الشبيه بالخرقة، فيتحول الرقص إلى لغة والخيط هو الطريق إلى اكتسابها وإتقان مفرداتها. إنها وحيدة، نعم، لكنها لم تفقد أبدًا حقها في البقاء والحياة لأن السيرك وإن كان نبض قلب نجا من تأثيرات الزمن لكنه مجرد مكان للعرض تستمر الحياة خارجه وفي غيابه.

جمال الحركة والخيط

في «بيكولو سيركو دي هيلو» كل شيء مجاز، كل شيء شعر، رغم أنه لا توجد كلمات، فقط اللغة النقية للحركة والضوء هي التي تعبر عن كل شيء. توجد مكنسة بسيطة تتخلى عن طابعها المألوف وتولد من جديد على شكل دمية وتنطلق في الرقص والدوران رقصة وجودية تبدو نابعة من موروث صوفي متجذر في الأعماق.
وتحت أنظار المتفرجين المنبهرة يصبح المشهد بمثابة حلم يقظ، حيث يمكن لأي شيء أن يتحول إلى حياة. كل لفتة وكل رجفة من الخيط الذي يحركها تحكي قصة لا تستطيع الكلمات أن تلتقطها.
الخيط الذي يربط الدمية هو نبض القدر نفسه، أحيانًا يحملها إلى الوراء، وأحيانًا يرفعها إلى الأعلى. وهو بدوره عائق وحرية في الآن نفسه، أو هو همهمة وصراخ. أليست هذه هي صورة حياتنا الحقيقية، المنسوجة بمرفقات غير مرئية، ومغادرة وعودة؟
يرقص الضوء على قماش السقف الكبير، ويلقي على الجدران ظل السيرك الذي لم يعد موجودًا، لكن السائر الصغير بالحبل المشدود لا يتوقف. إنها تتحرك إلى الأمام، تخترع، وتحول الفراغ إلى مشهد والحنين إلى حلم، إنه السيرك الذي لا يموت أبدًا والحياة التي لا تتوقف.
فعلى المسار المهجور، وتحت وابل من الضوء الذهبي، لا تزال الدمية ترقص وترقص وترقص رقصتها الصوفية الوجودية ودورانها حول محور ما. إنها وحيدة في هذا العالم المخيف، لكن حلمها يحملها، وطالما أنها ترقص، فإن السيرك تدب فيه الحياة، ويبدو أنها تدرك تمام الإدراك أن التوقف عن الحركة هو الفناء.
إن هذا العرض باختصار هو دعوة للاستمرار في الإيمان باستمرار العرض في سيرك الحياة، حتى عندما يبدو أن الستار قد أسدل. فهو يحدثنا عن التخلي والتجديد، عن الوحدة والأمل، ويذكرنا أنه في بعض الأحيان تولد أجمل القصص حيث يبدو أن كل شيء قد انتهى.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية