انحراف أنظمة الحكم في الدولة العربية، وتحوّلها إلى جهاز خاضع لإرادة المستبدّ، جعل المؤسسات الاقتصادية والبيروقراطية الإدارية، قوة سياسية غير قانونية، تخدم الدولة المُشخصنة لا دولة المواطنة. الأمر الذي أضرّ بالتماسك الاجتماعي، وأنتج دولا ضعيفة غير متجانسة، استسلمت لإرادة الهيمنة. وحالة الانسداد السياسي والاجتماعي التي تعانيها الدول العربية منذ استقلالها، تؤكّد منطق التملّك ومغالبة الشعوب، ورفض مطالب التغيير وشروط المواطنة الاجتماعية العادلة.
في مرحلة ما أصبح من الصعوبة أن تُضبط فوضى المجتمع وخلل المؤسسات، الذي يُعدّ من تداعيات فشل الكيانات الإقليمية في تكوين الدولة المدنية الحديثة التي تعلو فوق الحالات الوشائجية وانتماءات الفرد الطبيعية كالعشيرة والقبيلة والطائفة. وجمود الحالة السورية لما يزيد عن عقد من الزمان، كان لا بد أن يفرض تغييرا ما، إذ لا يمكن لنظام أن يحكم بلدا بدعم خارجي يستقوي به على إرادة شعبه ويلجم توقه للتخلص من الاستبداد والسلطوية. ولكن المحاذير ضرورية بالنسبة للحالة السورية الجديدة، فالسيناريو الأسوأ الذي لا نريده لسوريا هو أن تدعم كل دولة لها نفوذ في هذا البلد الفصائل المفضلة لديها، في محاولة منها لتشكيل مستقبل سوريا مثلما حصل في اليمن والسودان وليبيا، وفي سوريا أيضا في سنوات الاقتتال الداخلي خلال الحرب. معطى التدخل الخارجي موجود بقوة ولا يمكن إغفاله، كذلك خطر الانزلاق نحو الرغبة في الانتقام، الذي يشحنه البعض وهو طريق إلى الفوضى الأهلية، بالإضافة إلى التنافس على الموارد، وقد يبرز استتباعا لذلك مشكلة عدم التوافق الأيديولوجي بين الفصائل المختلفة الموجودة الآن في الساحة السورية، لذا فإنّ ترتيب البيت الداخلي بأسرع ما يمكن وحل الجماعات المسلحة، وهيكلة جيش وطني هو الأولوية القصوى تفاديا لكلّ المخاطر التي ليست في مصلحة الشعب السوري، الذي عانى الويلات طوال عقود ويستحق استقرارا وطنيا ومواطنة عادلة.
بالنظر إلى أحداث الشرق الأوسط، والحرب المتواصلة بين الناتو وروسيا وخطر اندلاع صراعات أخرى في بحر الصين الجنوبي والمحيط الأطلسي، يبدو من الصعب تجنّب قرن آخر من الصراعات
نعلم جيدا أنّ القوى التي تتضارب مصالحها على رقعة هذا الإقليم طالما منعت لعقود نجاح التجارب الديمقراطية، وهي بذلك تكتم أصوات الملايين بدعم جلاّديهم، ومساندتهم في تمتين سلطانهم، وتقوية أنظمتهم الأمنية ضد حرية الشعوب وكرامتها. وهذا العقل الاستعماري الذي يرفض العلاقة التبادلية، وينظر إلى الشعوب بمنطق عنصري هو من خلق أزمة السلطة في العراق، إثر الغزو الأمريكي، حيث أضاف الأمريكيون لهذا البلد أشكالا جديدة من التعاطي السياسي المتخلّف، فأصبحت الطائفية الحاقدة العنوان السياسي الأبرز في مناخ ساده الإرهاب والاقتتال والتفجير الدموي. والمناخ الطائفي ذاته هو ما يجعل الطبقة السياسية في لبنان لا تعترف بفشلها في إدارة الدولة، ونهجها الذي دمّر البلد منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة، كان يحدث بدعم إقليمي وشحن غربي ضمن تضارب المصالح وأيديولوجية المحاور وخطوط التقسيم. هل إسرائيل وأمريكا مثلا يريدان ديمقراطية عربية؟ لا يمكن إنكار أنّ أهمية سوريا الاستراتيجية، وموقعها الجيوبوليتيكي، وموقفها السياسي في الصراع العربي الإسرائيلي لاسيما دعمها ومساندتها للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، جعل منها هدفا أساسيا للإسرائيليين وللأمريكيين لسنوات. وبقطع النظر عن تداعيات ما يحدث فهي تصب في مصلحة هؤلاء، خاصة بعد أن تقوم إسرائيل بشنّ مئات الغارات على سوريا وتدمر بشكل كامل الموانئ والمطارات العسكرية، ومراكز البحوث العلمية ومستودعات الصواريخ الاستراتيجية وسلاح الجو، ولا ينطق العالم بكلمة واحدة، ضد ما حدث من تحطيم لمقدرات الدولة السورية بهذا الشكل الذي ارتكبه الصهاينة.
اهتراء مفهوم السيادة وضعف الدولة كعلاقة اجتماعية في تشكيلتها القُطْرية، أصبح مسألة بديهية بالنسبة للحالة العربية. وتبريره عجز الدولة بأن يكون لها دور استراتيجيّ في تحقيق الاندماج والتّكامل، حول هوية مركزية كلية متجانسة، من حيث الانتماء إلى أرض ودولة وأمّة في كيان سيادي واحد. ومن الطبيعي ما نشهده في السنوات الأخيرة من ارتباك قُطري، دفعت خلاله شعوب المنطقة ثمنا باهظا. لا يُسمح إلى الآن بإعادة بناء جمهورية يقلّ فيها حجم الفساد بعيدا عن الأحزاب الطائفية والانقسامات الأيديولوجية والإثنية، التي لا تبني دولا ولا تخدم شعبا. والتدخّلات الغربية بدافع المصالح التجارية والاستراتيجية، وجنون الحرب على الموارد، هي التي تفسّر تغييب الحلّ في ليبيا، والرغبة في تقسيم البلد والاستفادة من ثرواته. وهي أيضا عنوان استمرار الفوضى على الأرض السورية لما يزيد عن عقد، ومن ثم إسقاط النظام، وبحث كثير من الدول عن مصالحها في هذا البلد منذ اللحظة الأولى، وستتضح الصورة أكثر في الأيام المقبلة، بالنظر إلى التنافس بين الداعمين الدوليين لجماعات المعارضة التي تمسك بالسلطة الآن. جميعها مفاعيل تخدم مشروع إعادة تعريف المصالح الأمريكية والصهيونية، التي تسعى لتحقيق أعلى درجات المكاسب على قاعدة حماية بقاء إسرائيل أقوى، واستمرار تدفق النفط بأسعار مناسبة، ومنع قيام أنظمة قوية تعادي تل أبيب وتناصر القضايا العربية العادلة، وتجعل من ثروات بلدانها مصدرا للتنمية وخدمة مواطنيها، وليس تقديمها للقوى الغربية لاستنزافها واستعباد شعوبها. إلى الآن يدفع العرب ثمنا باهظا نتيجة معاهدة سايكس بيكو، التي قسّمت الوطن العربي وخلقت حدودا مصطنعة بين الدول لإضعافها ونزع القوة عنها. ومع الأسف، لم ينجح العرب في بناء المشروع الوطني الذي يتكامل مع المشروع القومي الوحدوي، نظرا لسكون النُّظم الحاكمة وفسادها السياسي وتخلّفها البنيوي. وهي التي قبلت التّقسيم ولم تستكمل مشروع التحرّر الوطني في فلسطين التي نرى مصيرها اليوم كيف تخلّى عنها الجميع وتركها هدفا للتصفية الصهيونية. فلسطين ثم لبنان وما تبعها من أحداث، تبيّن أنهم لم يتراجعوا عن مخطط إعادة صياغة الأنظمة السياسية من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي ودعم المجموعات الإثنية والمذهبية، المشروع الذي تزامن مع تبنّي الولايات المتحدة مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي وفق قاعدة التجزئة ضمن الحدود.
بالنظر إلى أحداث الشرق الأوسط، وأيضا الحرب المتواصلة بين الناتو وروسيا وخطر اندلاع صراعات أخرى في بحر الصين الجنوبي والمحيط الأطلسي، يبدو من الصعب تجنّب قرن آخر من الصراعات. والصدامات الماضية ضمن مرحلة مظلمة من العلاقات الدولية، يبدو أنّها تتكرّر، ولا بوادر لاستيعاب العوامل التي تسبّبت فيها، وجلّها مسارات خاطئة، تزيد من تقليص إنسانيتنا المشتركة، وتُمعن في استحضار النزاعات الإثنية والأزمات الاقتصادية والتنافس الإمبراطوري. وكل ذلك يتم على حساب الشعوب التي تدفع أثمان خيارات الجشع السياسي والتمكين الجيوستراتيجي.
كاتب تونسي
مقال جيد . شكرا لك فعلا التحولات كبيرة والقادم ليس جيدا للعرب
تبنّي الولايات المتحدة مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي وفق قاعدة التجزئة ضمن الحدود. فعلا هذه حقيقة
إسقاط الانظمة ليس أمرا بريئا هناك مخطط كامل يستهدف المنطقة والمستفيد إسرائيل