الديمقراطية الاجتماعية في الحداثة العربية

في مقال الأسبوع الماضي حذّرنا من الدخول في بعض المماحكات التي يثيرها البعض حول الديمقراطية، تارة باسم شعار الشورى، وتارة باسم شعار العلمانية، وتارة باسم شعار عدم استعداد العرب للتعايش مع متطلباتها، وغيرها كثير وعبثي إلى أبعد الحدود. ما يهم ليس هذه المعركة أو تلك وإنما الاتفاق على الأسس والمحتويات، ونظم التطبيقات والأهداف للديمقراطية التي نتكلم عنها ونتمسك بها.
أولاً ـ هناك ضرورة لاعتبار الديمقراطية جزءاً وجودياً وضرورياً من مكونات الحداثة العربية. ما عاد مقبولاً تأجيل تطبيقها، أو التلاعب بأسسها بسبب أية مبرّرات أو ظروف، كما فعلنا في الماضي القريب. إنها حقّ عام، وليس تفضّلا أو منّة من أية جهة كانت، من أجل أن تشارك الشعوب والمجتمعات في اتخاذ القرارات العامة وتقرير المصير المشترك بحرية ومن دون عوائق مصطنعة، والتي من دونها لا يمكن بناء توازن موضوعي تعاضدي ما بين مؤسسات المجتمعات ومؤسسات الحكم. من هنا المساواة التامة ما بين الديمقراطية وبقية مكونات المشروع النهضوي العربي.
ثانياً ـ إن الديمقراطية هي منهجية ونظام حكم شامل غير قابل للحذف والانتقاء والتشويه، إنها تنظم وتحمي جميع أنواع الحريات الفردية والجمعية بما فيها حريات الفكر والتعبير والنشر والتنظيم المدني والعقيدية الدينية، وبالتالي التعددية الدينية والسياسية والثقافية، وهي تشجّع وتحمي نشاطات وتفاعلات التعددية السياسية وأحزابها، وبالتالي ترفض بقوة فكرة الحزب القائد والزعيم الأبوي الملهم، وهي لا تكتمل إلا بنظام تمثيلي دستوري شرعي نزيه وشفّاف، وقابل للمساءلة والمحاسبة يؤدي إلى فصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإلى تداول سلمي للسلطة تنظّمه القوانين والدساتير الشرعية، وأخيراً هي نظام يخضع لمعايير القيم الإنسانية والأخلاقية، وعلى الأخص فضائل العدالة بكل أنواعها وصيغها والتسامح والتعايش السلمي مع المواطن الآخر.

الديمقراطية نظام يخضع لمعايير القيم الإنسانية والأخلاقية، وعلى الأخص فضائل العدالة بكل أنواعها وصيغها والتسامح والتعايش السلمي مع المواطن الآخر

إن أي مساس بأي من تلك المكونات والشروط، سيجعل الديمقراطية ناقصة وعرجاء. وقد أثبتت تجارب الكثير من مجتمعات العالم عبر العديد من القرون، إن التهاون مع وجود تلك المكونات والشروط، قد أدى إلى أشكال من الفشل للكثير من التجارب الديمقراطية، وها أننا نعيش حالياً في زمن مراجعات عميقة وجذرية للموضوع الديمقراطي برمّته، خصوصاً في دول الغرب العريقة في تجاربها الديمقراطية.
إنهم يتحدثون عن الانتقال من الفردية المنفلتة، إلى فردية اجتماعية متوازنة، عن استبعاد لحق الملكية الخاصة من قائمة الحريات الأساسية مثل ما يقترح الفيلسوف الأمريكي جون رولز، والرجوع إلى إعطاء أهمية للملكية العامة، وعن إضافة آليات جديدة للديمقراطية، مثل بناء مجالس محلية منتخبة، بسلطات تشريعية وإدارية كبيرة، وعن إدماج تفاعلي تعاضدي للأفكار الماركسية مع الأفكار الليبرالية، وعن رفض للتشوهات القيمية والأخلاقية الأخيرة في الحياة السياسية والممارسات الثقافية في الآونة الأخيرة. وإنها إذن لفرصة أمام الجميع للمساهمة في وضع التصورات الإصلاحية الجديدة للديمقراطية، وعدم ترك الأمر كله، كما حدث في السابق، في يد ما يسمى بدول وقوى المركز، لتضع لوحدها صورة الديمقراطية الجديدة وفرضها على العالم كله.
ويهمّنا أن يقتنع شباب وشابات الأمة العربية بأن العالم لم يستقر عبر القرون الثلاثة الماضية على ممارسة واحدة متماثلة للديمقراطية، فكانت مثلاً الممارسة في بلد كالسويد أو الدنمارك مختلفة إلى حدود بعيدة عن الممارسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالطبع كانت الممارسة الماركسية اللينينية للديمقراطية، مختلفة جذرياً عن الممارسة الليبرالية، واليوم لا يمكن الحديث عن مماثلة الممارسة الديمقراطية في الصين بالممارسة في فرنسا، وبصورة دائمة ظلّت الممارسة الديمقراطية في الجنوب الأمريكي لها طابعها المتميّز الخاص بها. المهم أن تدرك شابات ويدرك شباب المستقبل، أنه لا يمكن الحديث عن بناء حداثة عربية ذاتية نديّة متميزة ومتفاعلة مع حداثات الآخرين، من دون أن تحتل الديمقراطية جزءاً بارزاً من مكوناتها، وأصبح نشر الإيمان بالضرورة الوجودية للديمقراطية في المستقبل العربي لكي تكون الديمقراطية جزءاً أساسياً من ثقافة الجماهير العامة من مسؤوليات المثقفين والمفكرين والأساتذة والآباء والأمهات والمناضلين العضوية الملتزمة التي لا تتوقف ولا تتراجع.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير:

    مواقع التواصل دائمًا ما تطلعنا على بعض كنوزها الدفينة من فيديوهات الزمن الجميل (زمن الطيبين) المليئة بالطرافة. ففي إحدى القمم العربية، وبينما تقرر أن ترفع الجلسة لسبب ما، على أن تستأنف الساعة السادسة، حدث الجدال حول أن استئناف الجلسة يجب أن يبدأ في الساعة السادسة، أي أن الحضور يجب أن يكونوا في القاعة قبل السادسة بربع ساعة، وعند السادسة تُغلق الأبواب. وكأنَّ أهم قضية تواجه القمة هي مسألة ضبط الوقت، في حين تظل النقاشات الكبرى مؤجلة إلى أجل غير مسمى.صحيح أنه أحيانًا يُعتبر الالتزام أو عدم الالتزام بالوقت جزءًا من اللعبة السياسية، حيث بعض الزعماء قد يرون أن الحضور المبكر أو المتأخر يمكن أن يُستخدم كوسيلة للتأثير في ميزان القوى داخل القاعة. وفي هذا السياق، الزعيم الذي يتأخر عن عمد قد يُظهر سيطرته على الوضع، بينما الزعيم الذي ينتظر قد يشعر بالتحقير. لكن ربما يعكس هذا الجدال بدقة العقلية العربية التي تهتم بالشكل قبل المضمون، إذ يبدو أن “إغلاق الأبواب في الوقت المحدد” هو الأولوية، أما فتحها للحوار السياسي الشفاف وحل المشاكل العالقة فمسألة أخرى تمامًا، وتدار بطريقة لا تختلف عن صراع غلق الأبواب!

  2. يقول سليم:

    لم يغادر العرب مرحلة القبيلة وزعيمها والسيد الكاتب يحدثنا عن الديمقراطية, اما عن الديمقراطية فيجب أن تبدأ بالمدرسة وهذا صعب علينا

اشترك في قائمتنا البريدية