الذات العربية ومحنة الفقد

يمكن التعامل مع سؤال الفقد، بوصفه أحد المداخل الأساسية لمقاربة راهن العقلانية العربية.. وهو بامتياز راهن ذات تعيش حالة رهيبة من الإحساس بالفقد. حيث انقرضت شروط الهوية التقليدية، ولم يبق منها سوى ذلك الوشم المحفور في الذاكرة التراثية. ولعل أبرز سمات هذا الفقد، السجالات المرتجلة، حول المدونة اللغوية، الواجب اعتمادها كأرضية مشتركة للتواصل، علما بأن هذه السجالات، تعاني من «عقدة» أفول العقل اللغوي، الذي دأبت العربية لقرون خلت على اعتماده بوصفه التجلي المركزي لخصوصيتها.
هذا العقل الذي لم يعد ممكنا استعادته، بفعل التحولات الحثيثة التي تعرفها السيرورة التاريخية. وبعيدا عن تهمة التحلي برؤية إقصائية في الموضوع، سنقر باستحالة تخلص الذات العربية على المدى القريب، من الأسطورة الملحة على عبقرية الخصوصية اللغوية، بما هي هوية متلاشية، عبثا تلح على تكريس استمراريتها في الـ»هنا» والآن. ما يدعونا للقول، بأن الأمر يتطلب عمرا طويلا للتخلص من عبء قداسة العقل اللغوي، في أفق تملك آليات عقل عملي، ينسجم مع تجريبية الحياة الجديدة والمعاصرة.
والشيء نفسه ينطبق على ظاهرة الإسلام السياسي، في طبعته المعاصرة، ذلك أن المتحمسين لأطروحة التسييس الديني، يعتمدونها في القول بتأسيس الدولة على قاعدة الشريعة، التي كان يستند جانب كبير من سلطتها إلى نبوغ العقل اللغوي. الشيء الذي لم يقع خارج اهتمام دائرة الحداثيين، بموازاة الانتكاسات المتتالية التي يمر بها هذا العقل، لأن النبوغ اللغوي المجسد في كل من النص وتلقيه، هو الذي كان يقود العجلة الدينية، التي استطاعت بفعل قوتها، أن تحتوي كل التوجهات السياسية المحايثة. غير أن تفكك دواليب هذه العجلة، أدى بالضرورة إلى انفلات الوعي السياسي من قبضة السلطة الدينية، بقوة تفاعل وتماهي خطاباته مع خطابات المراكز الغربية، التي تحولت تدريجيا إلى نمط نموذجي للحياة الجديدة، حيث تتربع العلمانية بامتياز على كرسي المشهد. وطبعا، سيحتل هذا الإشكال منزلة الصدارة، في السجالات القائمة بين التنويريين والسلفيين، الذين يرفضون الامتثال إلى قانون الجدلية التاريخية، التي تحرر تلقائية الصيرورة، من حواجز الثوابت القديمة المكدسة أمامها. ملحين مقابل ذلك،على ديمومة النموذج الأصل، باعتباره – في نظرهم – قادرا على الاستمرار، وعلى احتواء كل التحولات الجديدة الناتجة عن حركية الواقع، بوصفه الجوهر «الدائم «الذي لا يطاله أي تبديل أو تحوير. وكما هو معلوم، فإن هذا العناد المبني على حالة من التجاهل اللاعقلاني، يحول دون تمثل المفارقات الناتجة عنه.
وفي نظرنا، إن مصدر هذا التوجه هو الغمة التي تجثم على كاهل الشعوب العربية الإسلامية بفعل معاناتها من مختلف مستويات وأساليب الاستبداد، سواء من قبل الاحتلال الخارجي سابقا، أو التواطؤ الداخلي، المعبر عنه في وحشية الأنظمة الحاكمة. تأسيسا على ذلك، وضمن التواجد الدائم للذات، في قلب هذه الأجواء الكارثية، لا تجد سندها لدى أي هيئة تنظيمية، بالمفهوم السياسي أو المدني للكلمة. حيث يبقى الملاذ الوحيد والأوحد، هو استجارتها بسلطة السماء، وأيضا، بكل التعاويذ اللغوية المشحونة بذبذبات الغيب. وبإمكان الباحث المهتم، أن يخلص إلى وضع معاجم ضخمة، تضم في طياتها من مأثور القول، الموظف عشوائيا، ما يدرأ به المؤمن أذى الواقع ونوائبه، علما بأن مرجعيات هذه المعاجم، ستكون حتما متمحورة حول ما هو وارد في النص، وفي المتون المتفرعة عنه، فضلا عن الحكم المنظومة أو المنثورة في اللغة العربية الفصيحة، أو الدارجة، المستقاة من هذه المتون.

تظل الرؤية التنويرية معطلة، لأنها لا تعدو أن تكون إطارا نظريا، يفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الممارسة. ما يؤدي إلى تقلص حدود اشتغالها على محك الواقع والمعيش.

كما أن الباحث المهتم، سينتهي إلى أن تمائم هذا الأقوال المأثورة، توظف بوصفها البلسم الأخير الذي يستنجد به المؤمن، كلما اصطدم بالجديد من المواقف الشائكة في حياته الخاصة أو العامة. فضلا عن توظيفها كبديل جاهز، يعفيه من تعب البحث عن أي حلول عملية وعقلانية، قد تسعفه في تجاوز عوامل الغمة، ومسببات المحنة.
وبتواز مع هذا الوضع، تظل الرؤية التنويرية معطلة، لأنها لا تعدو أن تكون إطارا نظريا، يفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الممارسة. ما يؤدي إلى تقلص حدود اشتغالها على محك الواقع والمعيش. أيضا، من بين العوامل المؤثرة في تعميق وتقوية معضلة هذا الفراغ، ذلك الدوران العبثي للرؤية التنويرية حول إشكاليات مشحونة بالمفارقات، من قبيل إشكالية العقل، باعتبار أنها تدمن مقاربته بوصفه طاقة مجردة وقائمة الذات، يتعذر دونها القول بوجود حياة عقلانية. وفي أحسن الأحوال، نجدها تجنح إلى نحت صورته وفق ما هو متعارف عليه في الثقافة الغربية. والحال أن العقل المعرفي والمجتمعي، غير قابل لأن يؤطر في بنية ثابتة نهائية ومطلقة. وكل مقاربة «تنويرية «تشتغل في هذا المنحى، تلتقي ضمنيا بالرؤية الميتافيزيقية والغيبية. علما بأن هذه الأخيرة، جد مبررة مقارنة بالرؤية التنويرية، التي يفترض فيها أن تُقارِب مفهوم العقل ضمن الخصوصية التاريخية للحالات المعنية، إلى جانب الخصوصية المجتمعية والثقافية، لأن الترسيمة التقنية والعقلانية التي يتم فيها تصنيع جهاز أو آلة ما، لا تكون بالضرورة صالحة لفهم وتحليل خصوصية حضارية محددة بمكانها وزمانها.
نخلص من ذلك، إلى القول بأن المنهجية الممكنة لمقاربة المقولات التي أدلى بها الفلاسفة المسلمون حول العقل، كابن حزم والفارابي وابن سينا، هي التي تنطلق من اعتبارها مقولات مرحلية، تنسجم عمليا مع تملك أصحابها لمقومات معرفية، كانت مؤهلة لتجاوز تلك التي كانت متداولة في زمانهم، وليس بوصفها مقولات مطلقة، معدة للتكريس الأبدي.
وفي اعتقادنا أن تبني هذه المنهجية، سيؤدي حتما إلى نتائج نظرية من شأنها العصف بكثير من «المشاريع التنويرية» المعروفة بتبجحها في الساحة العربية، وهو ما يدعونا للتأكيد على أن المنهجية التنويرية، بالمفهوم النظري والممارساتي للكلمة، تستمد دلالتها من عمق وقوة تفاعلها مع المعطيات التاريخية، وليس من ترجمتها الحرفية عن ثقافات وحضارات شعوب أخرى. ونستحضر في هذا الإطار، حرص فئة من هؤلاء، على تفنيد الكثير من مقولات الفكر العربي الإسلامي القديم، «الذي كان حينها مضادا للتوجهات الرسمية والسائدة» عبر تقمص كاريكاتيري لمنهجية الحجاج والبرهنة، التي اشتهرت بها رموزه، وأمست سمة راسخة وثابتة من سمات خطاباتها. من ذلك اعتماد منطق التنويع الأسلوبي في بسط الفكرة الواحدة، والانتشاء بإسقاط أصحابها في شرك التناقض، بالعمل على تطويق مفاهيمهم المركزية، بما يكفي من الدوامات الاستفسارية والمقارناتية، التي من شأنها تسريب حالة التشكيك في ما يقترحونه من أنساق ومقولات. وذلك من منطلق استغلال الطبيعة الملتبسة، والغامضة أحيانا، الملازمة لجوهر القضايا المطروحة للنقاش، على غرار الوحي، والنبوة، والحلول، والخلق، وغيرها من المفاهيم التي لن تستنفد دلالاتها مهما تعددت مستويات تناولها، واختلفت وجهات النظر إليها. والأدهى من ذلك، التخلص من الأسئلة المحرجة التي يطرحها الإشكال، باستعمال منطق التعميم، الذي تنغلق بموجبه أبواب الشك.. ما يحول دون تجديد طرح السؤال.
كل ذلك، في أفق ضمان حيز ملائم للإقناع، الذي لا يفضي لأي مردودية مقنعة. ما يساهم في مضاعفة سلطة تلك الطاقة الغامضة، التي يمتلكها الخطاب السلفي، كأصل ثابت من أصول التراث القديم أو المتأخر.. علما بأن وصفنا لها بالطاقة الغامضة، يندرج في سياق قدرتها على استقطاب نقاشات صاخبة، متفرعة، ومتنوعة، تسهر على إدارتها مختلف المنابر، تنويرية كانت أم أصولية. وهذا الجانب وحده قابل لأن يكون موضوع مقاربات قائمة الذات.

شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    مع زئبقية الأسلوب،وصعوبةفهمالمرادتحديدا، فإن تناول ما يسمى بالإسلام السياسي، مسألة مضى وقتها. نتمن أن يتناول الكتاب العسكرية السياسية،والطائفية السياسية والعرقية السياسية،والصهيونيةالسياسية وجذرها الديني،ولكن الإلحاح على الإسلام السياسي يؤكد أن النخب العربية تعاني خللا في النظر والفهم. الإسلام كله سياسة،وكله حياة واقتصادوتعليم وثقافة وعلم وعمل ، وشورى وحوار ودنيا وآخرة،ولكن الاستلاب الثقافي جعل النخب العربيةتنبطح أمام النموذج الغربي وتجثو على قدميها أمام تصوراته ومقاييسه، ولذا تركت الاستبداد العسكري البوليسي يحكمنا منذ سبعين عاما ولا تتحدث عنه. تكلموا عن العسكرية السياسية وفشلها الذريع في كل المجالات بدءا من الهزائم العسكرية الفادحة والفاضحة حتى بيع أصول البلاد ورهنها للاقتراض والديون!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    هل المحنة في الكمال؟!، أم المحنة في الفقد؟!

    هو أول ما خطر لي عند قراءة عنوان (الذات العربية ومحنة الفقد)، والأهم لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    من وجهة نظري، في موضوع الكمال من جهة، والفقد من جهة أخرى، هي إشكالية عقلية التقييم أصلاً، حكمة العرب تقول، الفاضي يعمل قاضي؟!

    الله، طلب من الإنسان، السعي فقط،

    الآن، هناك من يبحث عن الوعي أولاً، حتى يضع الأولوية لماذا، في إجابة أي سؤال أولاً، هو حر في ذلك،

    لا يمكن صنع لبن من الحليب، دون تحميضه،

    ولكن لا تجد إلا القليل، من يعترف بأن لبنه حامض،

    إشكالية (الفرعنة/التفرعن) جنون العظمة (ثقافة الأنا)، هي مشكلة كل غبي، يبحث عن عظيم ليقوده،

    مثل عمدة القرية المصرية (الفرعون)، سامريّ قوم (موسى وهارون) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وفي موضوع أهمية Automation Technology، تقنية أتمتة الإدارة والحوكمة في الدولة،

    عنوان رائع يا قيصر (أستراليا)، ولكن السؤال كيف؟!

    هل اهتمام الدولة، في إيجاد وظيفة إلى الروبوت،

    أم اهتمام الدولة في الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية بواسطة الروبوت؟!

    ببساطة الروبوت لا يدفع ضرائب ورسوم وجمارك، بينما الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية تدفع،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    الدولة في حاجة إلى ميزانية، وإيرادات تغطي ما تحتاج منافسة دول الجوار، من أجل جذب أهل العقل والمال المُنتج، لكي تنتج في دولها، في تلك الحالة سيتم خلق فرص عمل ووظائف،

    فلذلك الدولة في حاجة إلى سوق صالح (الحلال)، لإنتاج العقد (الحلال)، أي بلا غش أو فساد ناتج من تعدي على حقوق فلان، وبالتأكيد على حساب حق علان، بداية من حقوق الدولة، من أجل تغطية تكاليف خدمات الأمن والصحة والتعليم، كاستثمار في جيل المستقبل،

    الذي يجب أن ينافس الروبوت، بواسطة طريقة (صالح) لتعليم كل اللغات

    ونقطة البداية لغة الحكمة (الصينية التقليدية) ولغة الفلسفة (الأنجليزية الأمريكية) ولغة القرآن وإسلام الشهادتين، بدون إضافة أي شهادة أخرى،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    لتسخيره وتطويعه في توفير جودة وكفاءة أفضل تعمل على زيادة في الإيرادات والرفاهية والسعادة بشكل عام للجميع، الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة الانسانية وبالتالي الدولة في أي مكان،
    أي الأسرة هي الأساس (تكامل الأم والأب في خلق ثروة جيل المستقبل).

اشترك في قائمتنا البريدية