«ليل الغواية» رواية صادرة عن دار خيال للنشر والترجمة ـ الجزائر سنة 2019، والشيء اللافت للنظر فيها، عنوانها المثير للجدل كلبنة أولى تستوقف القارئ، كونه يجسد الإطار البراني للعمل الفني، والأمر عائد بالخصوص في هذا السياق إلى طبيعة التوظيف الذي أحدث الفارق بالقفز على المعجم اللغوي المعتاد، هذا من جهة، والمتعة الجمالية المستفزة للمتلقي على مستوى الانزياح اللساني، من جهة أخرى.
وتبعا لذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل أفلح الروائي في اختيار العنوان حتى يعطيه مسوغا لوجوده؟ وكم هي نسبة حضوره في التأثير في المتلقي كممارسة ضاغطة؟ وإلى أي مدى تتداخل وتفترق لفظة الغواية مع الإغراء؟ كلها أسئلة نحاول الإجابة عنها بطريقة غير مباشرة في استنطاق تفاصيل الخطاب السردي بأحداثه وشخصياته وأمكنته وأزمنته.
من هذا المنطلق، فالليل في علاقته بالغواية يشي بكل أساليب الفساد والصخب والضلال والهلاك، المرتبط بمدى الممارسة والسلوك في شكله الاعتيادي اليومي، الذي يتوسد الظلمة، ويجعل منها المرتع الوحيد في إشباع الرغبات والنزوات، تطالعنا في هذا الصدد شخصية «صبيرة» حيث تعيش ظروفاً قاسيةً وفقراً مدقعاً، دفعها دفعاً لولوج حياة المجون والسفور «كل مساء أصنع ضحكة لسهرة جديدة ولزبون طارئ على البار، أما الدائمون فيطوفون على النسوة ولا يعودون إليّ قبل شهر، منهم من أشتهي مجالسته وبعضهم يستوجب قربه خزائن من المال لأطيق فداحة رائحته، أو لعابه وهو يمدّني بقبلات ويطلبني للسري».
وما ينبغي الإشارة إليه، هنا، أن العنوان مضلل في ملفوظه السردي، لانعقاد أول اللقاء، وما إن يلج القارئ باحة النص أو المتن الحكائي؛ حتى يصطدم أفق انتظاره حسب تعبير الناقد الألماني ياوس، من خلال ما ارتسم في مخيلته من مفاهيم وتصورات كانت قابعة في مخزونه الذهني سلفا، وأنت تقرأ الرواية وتتفسح في متاهاتها وتفترش أركانها وزواياها، تزودك نصوصها بمجموعة من الآليات والإجراءات التي تساعد المتلقي في فتح مغاليق عتبة النص، فهناك نصوص بحكم السياق الذي يحكمها، تتجسد أمامك كل معاني الإغراء والعكس صحيح مع لفظة الغواية، لأن هذه الأخيرة تتأسس على جملة من المعطيات: الذكاء والفطنة والدهاء في إقناع الآخر، من خلال قلب المفاهيم التي تكمن في إنتاج عادات يكون فيها التفكير المغلوط مطابقاً للواقع، بحيث يتمتع بمواصفات تحمل اعتقاداً راسخاً، تراه الذات الاتجاه الصحيح على مستوى الرؤية للعالم، تمثل أمامنا هذه الحادثة الأليمة في شخصية «هيام» وهي أستاذة جامعية متزوجة، حيث تجلت البؤرة المخلة بالحياء، عندما عقدت علاقة غرامية مع «يوسف» وهو طالب جامعي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، وبعد رحلة طويلة من المراودة في اندفاعاتها الغرائزية، وصلت العلاقة في الأخير متلبسة بالزنا تحت معطف الخيانة، أثارت ضجة عارمة عند الرأي العام داخل الجامعة وخارجها، «نجونا بأعجوبة ليلة اكتشف أمرنا خالد وقد عوقب بفصله من جهاز الأمن لاستخدامه السّلاح، واتّهم بالقتل العمدي بعدما شرع فيه بإطلاق النار قاصدا قتلنا. وقد استفاد من التّخفيف كونه صدم بنا متلبّسين بالزنا وفق قانون العقوبات الجزائري».
هذه المعضلة الشائكة لم تحدث اعتباطاً؛ بل جاءت نتيجة محاولات عديدة عبر اتخاذ طرق وأساليب الإقناع، الذي يستثير الوجدان والعقل، ولعل أبرز دليل على ذلك، ما جاء في معرض قول السارد على لسان «هيام» «قبلت خوض مغامرة قضى يوسف أشهرا يقنعني بها، وتوقّعتها تجربة مرحة تنتهي بسرعة، وتكون فرصة لإنهاء فضولي اتّجاه رغبته الملحة في التقرّب مني. وفرصة له ليعبّر أكثر عما بدأه في قاعة التّدريس بنظرات تؤرقني».
وتأسيسا على ذلك، فإن إدراك المعنى العام للقضية التي نحن بصدد الحديث عنها، لا تحصل عملية الفهم إلا من خلال استدعاء لفظة الإغراء، وللعلم أنها محكومة بمنطق الرغبة النابعة من الإرادة الحرة الواعية، التي تتماشى مع مصالح ورغبات الطرف، الذي يشكل قطب الرحى في العملية، لأن هنا الغلبة تكون فيه للشهوات والنزوات القاهرة للضمير والعقل الجدلي في انجذاباتها وميولاتها، وبالتالي، تنحدر ضمن مسالك تختلف عن الغواية في مفهومها الشامل، ولتجلية المسألة في أوضح صورها وملامحها العامة، كون الذات بمرور الأيام تحقق قفزة نوعية تنتقل من سجن الغواية التي يرسم معالمها الغير في ظل فقدان البوصلة، إلى مصاف الإغراء، وهو نزوع حامل لسمات إيجابية في نسبيته، لأنه يعد أخف ضرراً من الأولى ضمن إطار اللعبة، ويتعلق الأمر، بالتوبة والندم على ما فات على اعتبار أن الإنسان يعي ما يفعل، ومدرك لحجم الأخطاء التي يرتكبها، ويفترض على وجه التحديد، كون الأنا يجسد حضوراً متفلتا من الغيرية الممارسة لكل أشكال السلط المضللة للحقائق، إذ يعكس في جوهرانيته عملية مراجعة، تؤدي في غالب الأحيان إلى تهذيب النفس وتقصي الأخطاء، بإعادة النظر في الأشياء، ونخص بالذكر قصة «هيام» مع «يوسف» التي توجت علاقتهما في الأخير بالزواج الذي يعيد تشييد عوالم الكينونة المعبر عن وجودهما «لا يحقّ لي الآن إلاّ التمتّع بحبيبي يوسف. نفدت الحجج الّتي تجعلني أحاسب نفسي على ما مضى، فقد جلدني الضّمير بما يكفي، وتذكر الماضي خيانة لحاضر جميل. بإمكاننا الآن أن ننخرط في دواخلنا لنرمّمها من الآثار، فما ينتظرنا يحتاج إلى جهود عظيمة».
يتبدى هذا في تخطي العقبات والحواجز من خلال استنهاض الذات، بحيث تصبح شخصية متزنة وطموحة وواثقة، وقد ينتج عن هذا السلوك تفعيل أواصر المحبة والرحمة بين البشر، الذي يلبي نداءات الروح
كما يمكننا في هذا السياق الإشارة إلى قصة «مديحة» التي أصيبت بسرطان الثدي لكثرة ممارستها للعادة السرية ومعاشرتها للرجال بكل الوسائل المتاحة، بعدما كانت هي الأخرى مسجونة في زنزانة الغواية التي كانت تظهر لها الأشياء جميلة يجيش بها صدرها، فترى بعين الآخر الوجود كما يريده ويشتهيه، على أنه طريق متماسك وصحيح في مساراته، وبعدما تخلصت من هذه الغفلة المخدرة؛ اكتشفت أن الجمال الحقيقي ينبع من دواخل الروح الإنسانية المتحررة، التي تحدد لها كيفية العيش الراقي، الذي يوفر لها أكبر قدر من السعادة «قطعت توبة أعلنتها بعد خطوبتي…الآن أنا حرة من مرضي ومن نهديّ، فهنيئا لما تبقى من جسد سيكون سيد ليالي حارقة أقضيها مع موسى متطهرة من التشبث بحياة كشفت لي عن وجهها الأسود».
شخصية موسى من خلال المقطع السردي، صنعت علامة فارقة بأمل متجدد، كما عبر عنها رفيق طيبي داخل مسار الحكي، كونها شخصية حاملة لمجموعة من المبادئ والقيم التي جعلت من «مديحة» امرأة جميلة مرغوبة، بعدما غاصت في الأنفاق المظلمة والدهاليز المتشائمة المثقلة بأوجاع الذاكرة والمشكلات والعقد، حيث أعاد بحكمته المتروية للحياة نضارتها وبهاءها ضمن عوالم جعلت مستقبلها حديقة مشرقة، ما ولد شعوراً وإحساساً عميقا لدى مديحة، تحولت فيه الهزائم التي اجتاحت كينونتها الواحدة تلو الأخرى إلى نصر ونجاح ضمد جراحها بمرهم المشاعر الصارخة بالمعاني الإنسانية النبيلة، ما يساهم بشكل أو بآخر، في تعزيز الجوانب السيكولوجية كوسيلة للخلاص، وذلك من باب أنها تجد ملاذها عبر دروب تحقق نوعاً من المواساة.
يتبدى هذا في تخطي العقبات والحواجز من خلال استنهاض الذات، بحيث تصبح شخصية متزنة وطموحة وواثقة، وقد ينتج عن هذا السلوك تفعيل أواصر المحبة والرحمة بين البشر، الذي يلبي نداءات الروح، وهي تستحضر كل مظاهر التكافل الاجتماعي الذي يتجاهل الاختلافات والفروقات أثناء التعامل، إذ أن ميزان التفاضل يكمن في منظور الكاتب، انطلاقاً من الارتفاع الذي يعزز من شأن سلم الضمير الإنساني، بمعنى، يجعل من الذات تقف في مقام التضاد مع البهائمية أو الحيوانية، في التفكير والتصرف، يؤكد هذه الخصوصية قول مديحة، وهي مشدودة لما تفوهت به أحرف موسى عبر كلمات واضحة وصريحة «وخشعت أمام إنسانيته حين أخبرته بمرضي وفقداني لجزء من أنوثتي، فقبلني بحبّ وقال بأنّنا على مسافة واحدة من كلّ شيء، وما أصابني ليس حكرا عليّ والأهمّ أن تكون الروح نقيّة من كل علّة، وتحسّن من قدرتها على التّسامي عن الكراهية والشر. صمَتُ مطولا ولم أجد ردا على كلام بعثر كلّ معتقداتي حول رجال عرفتهم وأطلقت من خلالهم أحكاما نهائيّة ترسّخ الريبة والشك في كل اقتراب».
٭ كاتب جزائري