الذات والأبجدية الناقصة: رأي في التنوير

يوسف يوسف
حجم الخط
0

حول خطاب المقاومة: طبيعته وأبرز ملامحه والتطبيقات التي يمكننا استخدامها لتقويض سلطة خطاب الهيمنة، في مرحلة ما بعد الاستعمار، تبدو أطروحة إدوارد سعيد أقدر من سواها على وضع العلامات الواضحة لتجاوز الأزمة. وإذا كان في قراءاته الطباقية المعمقة، قد كشف النقاب عن ممارسات العاملين في هذا الخطاب، وقيامهم برسم العديد من الصور الاختزالية المشوَّهة للشرق كله وليس للعرب وحدهم، وكيفية استخدام المؤسسات الغربية هذه الصور في محاربتها الخصم العربي، وسواه من الخصوم المفترضين، وفرض الهيمنة عليهم، فإن إدوارد سعيد كان قد أرسى الدعائم الأساسية التي يمكننا البناء فوقها، لصياغة خطاب في مقدوره إنشاء بنيات فكرية وعملية، ننتقل بواسطتها إلى مرحلة أخرى جديدة، نفارق بها ما يمكننا اعتبارها الثوابت المتأتية من كسلنا ربَّما، وتلك الأخرى التي من بينها الإصرار على النظر إلى الآخر ـ الغربي، بعين الاشتهاء والتمنُّع مرة، وبالأخرى عين الرغبة بالتمثل والاقتداء عشرات المرات، كما يقول إدوارد سعيد.
في أطروحة إدوارد هذه، يتم التحريض على وجوب الالتفات إلى الذات أولا، وعلى وجوب التخلص مما يسميه «ازدهار الدَّرْس الببغاوي»، وكذلك على وجوب تحرير العقول مما حُشرت فيها من القوالب التي يُزعم أنها أوروبية وحديثة، في حين أنها كما يرى كانت أوروبا قد تحرَّرت منها منذ مئتي عام، ويضربُ المثال لذلك بمؤسسات التعليم العالي، التي كما يراها تحاكي نماذج جامعات القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا. وإدوارد سوى هذا يرى أن مناهج هذه المؤسسات وكلياتها وإداراتها، تبدو كما لو أنها تقليد ساذج.

لمبدأ حركة التنوير الأوروبي

 في الوقت الذي أعلن فيه  إدوارد سعيد رفضه للمبادئ التي تقوم عليها الحركات الانفصالية، ظلَّ يدعو الأسود إلى وجوب الدفاع عن ذاته وهويته. وقد آمن بوجوب تلاقح الثقافات، وبضرورة المحافظة على التنوع والعيش المشترك بين الشعوب، ويضرب لفكرته هذه مثلا بعطيل شكسبير، الجندي العربي الشاب المغربي الأصول. فعطيل ذكي ومثابر، وقد ذهب إلى أوروبا لدراسة العلوم العسكرية، فأتقن فنون الحرب على نحو جيد، إلا أنه لم يُتقن فنون العيش فيها. وعندما أحبَّ دزدمونة وأراد الزواج منها، قال له أبوها: «أنظر إليها أيها المغربي إن كانت لك عينان تنظران، خيَّبْتَ ظنَّ أبيها، وقد تخيِّبُ ظنك».
هنا فإن مثال عطيل الذي أتقن – كما قال والد حبيبته – فنون الحرب في أوروبا ولم يتقن فنون العيش فيها، يلخص أزمة العلاقة بين الغرب والشرق، وفق ما يتخيله الأوروبي ـ والد دزدمونة – وليس كما يتخيل الأمر العربي عطيل. وهو التخيل غير الواقعي، بدالة قول الوالد لعطيل «أنظر إليها ـ يقصد إلى ابنته الأوروبية ـ أيها المغربي إن كانت لك عينان تنظران». ولما كان القصد مطالبة عطيل بإعادة النظر إلى دزدمونة ـ الحياة في الغرب، ومعرفة إمكانية ترويض النفس ـ نفس عطيل، على العيش هناك بدون أن يطالب ابنته في موازاة ذلك بترويض نفسها على التكيف مع حبيبها الشرقي، فإن ذلك إنما يعني أنه من أجل أن تنجح العلاقة بين الغرب والشرق، فإنه على الآخر الشرقي التكيف للعيش في الغرب، من خلال دمج ذاته في النمط الاجتماعي الغربي، لكي يقال إنه قد نجح، وأصبح النموذج البشري الذي يمكنه أن ينال رضا والد دزدمونة.

أنتج إدوارد سعيد خطاباً شرقياً يستوعب خطاب الغرب ويردُّ عليه كما يرى محمد شاهين، ومن أهم ملامح هذا الخطاب، الخلوُّ من الانفعال والإثارة، والنزوع باتجاه محاكاة الواقع كما هو.

وإلى هذا يقول إدوارد سعيد: الشرق الوحيد، أو الشرقي الوحيد أو «الفاعل» الوحيد الذي تمكن من أن يُعترفَ به، هو في الحدِّ الأقصى، الكائن المغرَّبَ (الذي يصبح غربياً) المُستلبُ فلسفياً، أي شيء خارج ذاته بالنسبة لذاته، مُمَوْضع، مفهوم محدَّد، ومفعولٌ به من قِبَل الآخرين»، (الاستشراق) . أي أن ما يُطلبُ من عطيل المغربي المسلم القيام به، يتمثل بنزع جلده، والنأي بذاته عن ذاتها الحقيقية، والبحث عن ذات أخرى غيرها، هي الذات الغربية تحديداً، كما يرى والد دزدمونة. ولما كان القصد من مثال عطيل البحث عن مقاربة إلى الخطاب المقاوم، فإن أياً من يكون سوى عطيل، إذا ما وجد نفسه في اختبار واختيار مشابهين، إما أن يبقى على حاله لا يُقصي ذاته الشرقية عن ذاته، أو أن يُغرْبنها (يجعلها غربية). وهذا الذي يختار حالة الغربنة، يكون قد ساهم ربما من حيث لا يدري، في تحقيق أحد أهداف الاستشراق، المتمثل هنا بخلق التخاذل الروحي في نفوس العرب، وحمْلهم بالتالي على الرضا والخضوع للمدنية الغربية المادية تماماً، والابتعاد عن مختلف القيم الأخرى الروحية في الغالب.
هنا أيضاً ومع هذا المثال حول عطيل، نتبيَّنُ إحدى أهم إشكالياتنا كعرب، وهي إشكالية في الفكر والمنهج كليهما معاً. وما لم يتم وضع الحلول، وفتح الطريق لتجاوز هذه الإشكالية، فإنها ستظل تكبر وتتنوع مظاهرها، ذلك لأننا في الغالب إذا ما بحثنا عن المعالجات المناسبة، والفاعلة، فإنما من خلال استخدامنا معياراً غربياً، يحتم علينا في نهاية المطاف، النظر إليها بمنظور الآخر، كما يرى عبدالله إبراهيم في كتابه «الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة»، والبحث فيها ـ في الإشكالية ـ تكوُّناً وماهية من خلال رؤية غربية، وبوسائل غربية كذلك، لكن مسألة المنهج الذي علينا استخدامه، تبقى في تصورُّنا الأوْلى بالاهتمام من سواها بقية المسائل، ليس لأن ما عندنا من الإرث في هذا المضمار قليل، أو لأن الكثيرين ممن يتناولون مثل هذه الإشكاليات بلا مناهج، وإنما لأنه ـ المنهج عموماً – الذي بدونه لا تستقيم الحياة ولا ينضبط إيقاعها . ذلك أننا بالمنهج السليم الأفضل من سواه، يمكننا التوصل إلى نتائج حسنة، وإلا فإن منهجاً عن منهج يختلف، وما قد يصلح لتناول هذه الثيمة قد لا يصلح لتناول غيرها من الثيمات، وإلا لماذا اختار إدوارد سعيد منهجاً أساسه المطابقة والمقارنات، وفضَّله على غيره من المناهج في دراسته الاستعمار وثقافته؟

وبعد: ما الذي يمكن أن يقال أخيراَ؟

 أنتج إدوارد سعيد خطاباً شرقياً يستوعب خطاب الغرب ويردُّ عليه كما يرى محمد شاهين، ومن أهم ملامح هذا الخطاب، الخلوُّ من الانفعال والإثارة، والنزوع باتجاه محاكاة الواقع كما هو. ربما نحن وخلال البحث عن أهم خصائص هذا الخطاب استغرقتنا المقارنة بين ألـ(نحن) و(الآخر) أكثر مما استغرقنا البحث عن الذات، كما يرى حسن نافعة، وربما ما نزال أيضاً في انشغالنا بسلبيات الواقع التي تفرض نفسها علينا قسراً، كما يوضح ريموند ويليامز، إلا أننا علينا من أجل إنتاج مثل هذا الخطاب، عدم محاكاة هذه السلبيات بخطابة جوفاء، وكأنها آخر المطاف في حياتنا، وذلك كي نتجنب الوقوع في فخ الإثارة التي تقف عند حدود التفريج عن الكرب.
ليست المهمة يسيرة بالتأكيد، والذي في نيته إنتاج خطاب من هذا النوع، عليه وضع عشرات الأسئلة التي منها: من نحن؟ العربُ أم المسلمون؟ وإذا كان القصد العرب فماذا عن أبناء القوميات الأخرى الذين يعيشون بيننا في الحيز المكاني ذاته، كالكرد والبربر والشركس والشيشان والتركمان وسواهم؟ وإذا ما كان المقصود بـ(النحن) المسلمين، فماذا عن أبناء الديانات الأخرى من مسيحيين وصابئة وإيزديين وغيرهم ؟ وسوى هذه الأسئلة، ثمة هناك عشرات الأسئلة الأخرى التي منها أيضاً: ما المقصود بـ(الآخر)؟ وما الذي يعنيه خطاب الهيمنة ؟ ومن هو صاحب هذا الخطاب ؟ هل إنه الغربي وحده من يمكن أن يكون مهيمناً؟
وقبل أن يوحِّدنا الاتفاق حول ماهية (الآخر)، علينا أن يوحِّدنا الاتفاق حول ماهية (الذات)، إذ بدون البدء من هذه الــــذات في أي مقاومة نقررها، والكشف عما يعــــتريها من العـــــيوب، لن تقوم لنا قائمة، ولنقلْ أخيراً: إن الواحد المكتفي بذاته، والمتوهم بنقاء ذاتي خالص على أساس عرقي أو ديني أو على أساس اللون، مجرد تخيل لا أساس له، او وهم يقذف بصاحبه خارج التاريخ البشري، على اعتبار أن ما قد وصلت إليها البشرية من النتائج في الحضارة والعطاء، لم يقم بها بلد بمفرده، ولا جنسٌ بعينه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية