ثمَّة العديد من الكاتبات اخترن جنس القصة القصيرة للتعبير عن قضاياهنَّ الاجتماعية والنفسية.. باعتبار القصة القصيرة جنسا أدبيا يساير التحولات التي عرفتها بنية المجتمع منذ عقود. كما أن لهذا النوع الأدبي قدرة على طرح القضايا والإشكاليات، وتبني الأسئلة التي ترتبط بالواقع الاجتماعي للمرأة في قالب قصصي فني راكمت من خلاله الكاتبات منجزا سرديا مهما منح للدارسين متنا أدبيا للاشتغال، كما رسم ملامح تجربة إبداعية فرضت وجودها في الساحة الأدبية العربية والمغربية.
وإن التجربة القصصية للقاصة فاطمة عافي، سارت في الاتجاه نفسه، حيث استثمرت نصوص مجموعتها القصصية «نقش على جدار الزمن» مكوناتها وخطابها للاحتفاء بالمرأة وتشكيل رؤيتها للعالم والتعبير عن ذاتها وإنسانيتها من خلال كتابة تحكي تجارب إنسانية تتخذ من المرأة مركزيتها، معتمدة على الذاكرة كلبنة أساسية في إنتاج قصصها وبناء أحداثها على أشكال من التخييل التي تخفي وتظهر ما يوافق رؤية القاصة وانشغالاتها وخطابها.
ومن هذا المنطلق تبين هذه القراءة كيف اعتمدت القاصة فاطمة عافي في مجموعتها «نقش على جدار الزمن» على تذويت الكتابة من خلال اشتغال الذاكرة التي شكلت المتخيل السردي لهذه النصوص. وتجد الإشارة إلى أن هذه المجموعة القصصية صدرت عام 2017، وتقع في 142 صفحة، وتضم ثماني عشرة قصة.
تذويت الكتابة
تبتدئ مجموعة «نقش على جدار الزمن» بنص «بوح على الورق»؛ هذا النص الذي يصرح من خلال عنوانه بالاحتفاء بفعل الكتابة، ويجعلنا بذلك نوجه انتباهنا إلى النص الأخير (حسب ترتيب المجموعة) «نبش في الماضي» حتى نُحدث بينهما مقارنة، حيث يشير -الأخير- إلى فعل التذكر واستحضار ماضي الشخصية والنبش في تفاصيله؛ وبين هذين النصين تقع نصوص ذات عناوين مختلفة، وهي: (الشرخ ـ قدر – رسالة من الغربة ـ الخريف – البيت الكبير – شيء على الرصيف – جرح في القلب – لحظة اغتيال – صمت السنين – لقاء.. في يوم ممطر ـ اللون والفرشاة – شيء ضاع ـ جنون الحب ـ نقش على جدار الزمن ـ حضرة النائب المحترم ـ القرار). تلتقي هذه القصص وتتقاطع على مستوى المضامين والموضوعات، فهي تشترك في تعرية واضحة للمجتمع القائم على العنف والقهر والسلطة وتحدي الآخر بالثورة عليه، أو بالخوف من مواجهته والهروب منه، وتقدم صورا اجتماعية لعلاقات الأفراد الأسرية، وأيضا الاجتماعية، وما يشوب هذه العلاقات من اضطرابات وخلافات ينبني عليها تفكك في بنية الأسرة وتنافر بين أفراد المجتمع الواحد. يعتمد سرد قصة «بوح على الورق» على إضاءة واقع الشخصية (الأم) انطلاقا من قراءة ابنتها (ندى) ليومياتها التي وجدتها مكشوفة على المكتب، هذه اليوميات التي كشفت نفسية الأم، وأبانت عن ضعفها، رغم ما كانت تبدو عليه من قوة، تقول: «وبعد أن تبين لي أن إرادتي مهما كانت قوية لن تساعدني على التغلب على ما أعانيه من إحساسات متناقضة». هذا البوح يمثل في النص كتابة تقول فيها المرأة ذاتها وتكشف هويتها الأنثوية، لتحكي تجربتها ومشاعرها الدفينة، وتقوم بنوع من التذويت للخطاب بتوفير رؤية للعالم تحمل بصمات الذات الكاتبة في صياغة نصوص جعلت منطلقها الذاكرة والنبش في الماضي؛ حيث أن الشخصيات التي تقدمها القاصة فاطمة عافي شخصيات نسائية تحمل ذاكرة الألم: «صور تقتحم ذاكرتي فتعذبني» وتكشف عن المآسي التي تحدث في الظل، ويُتوخى السكوت عنها.
والمشترك بين شخصية النص الأول وشخصية النص الأخير هو رغبتهما في البوح باتخاذهما الكتابة وسيلة لكشف الذات وبث المعاناة رغم صعوبة ذلك؛ تلك الصعوبة تتجلى في كون العملية -عملية الكتابة- تتم بسرية تامة، فشخصية الأم في نص «بوح على الورق» تكتب عن أشياء تؤلمها وتؤرقها كما تعبر عن حزنها بسبب وحدتها (واحتياجها للحب) بعدما غادرت ابنتها إلى فرنسا، تقول: « اختفى من رهنت حياتي لهم.. انشغل كل بحياته.. فقط الجدران، بقيت تردد صدى صوتي الذي أخذ يعلو ويعلو مع تزايد وحدتي» . هذه الكتابة (أو اليوميات) هي كتابة في الظل، تحفها الريبة، حيث ما كانت الابنة ستطلع عليها لو كانت الأم على علم بعودة ابنتها، لكن العودة كانت مفاجئة لتكتشف البنت بوح أمها الصادق والصريح. أما بخصوص شخصية نص «نبش في الماضي» فعملية الكتابة عندها أكثر سرية لأنها تُعَدُّ مغامرة خطيرة وصعبة، تحرص على ألا يعلم بها زوجها (الأمي) تقول: «كنت أختبئ لأقرأ أو أكتب.. في الورق أجد متنفسا.. صديقا يستمع لي.. يخفف عني» . وزاد الأمر خطورة عندما طلبت منها مجلة نسائية أن تكتب بعض المراحل من حياتها «كنموذج نسائي استطاع أن يتغلب على الكثير من العقبات ليصل إلى قمة النجاح» .
الذاكرة هي استعادة للزمن الماضي ومحاولة دمجه بالحاضر، وهي تلعب دور الوسيط بين زمنين، ولا تتقيد بشروط لتنظيم عملية التداعي التي تعتمد على الاستذكار الذي يؤسسه الوعي.
وهكذا فإن إحاطة نصوص المجموعة بهذين النصين يعتبر إشارة من القاصة إلى أن الكتابة النسائية (إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح) عملية محفوفة بالمخاطر والصعوبات والتوجس والريبة، لأنها مواجهة للمجتمع وتحد واضح للواقع وللنسق الثقافي التقليدي، وهي (أي الكتابة) تعرية للذات في كثير من الأحيان، تستعيد من خلالها المرأة إنسانيتها وتحاول أن «تفرض هويتها التي تريدها لذاتها، لأن الهوية التي يفرضها المجتمع الذكوري أرسخ وأقوى» ، وربما هذا هو ما يجعل المرأة في قصة «بوح على الورق» تغلق عليها غرفة المكتب: «غرفة كانت تهرع إليها أمها كلما واجهتها مشكلة.. تغلق بابها عليها لساعات» ، «كأنها بذلك ترفض الخارج، ترفض المجتمع، وترغب في العودة إلى عالمها الأول، وإلى الرحم» ، متخذة من الكتابة وسيلة للتواصل مع نفسها، وتعبيرا عن كيانها، فهي وسيلة تنفذ إلى عالم المرأة الداخلي وتسمح لصوتها بالظهور رغم إكراهات المجتمع وقيوده وسلطته.
إن النبش في الماضي يحيي ذاكرة الألم، لهذا راهنت القاصة في هذه المجموعة على عنصر الذاكرة لتأسيس متخيلها السردي وهو الأمر الذي منحها قدرة على طرح موضوعات وقضايا اجتماعية مهمة: (الزواج/الأمومة/العقم/الطلاق ومشاكله، والطلاق كحل/الخيانة/الحب/ علاقة الأبناء بالآباء والعكس أيضا/الاغتصاب/تشغيل القاصرات/زواج القاصرات..) وقد تمكنت من الغوص في حالات الشخصيات الاجتماعية والنفسية، وبذلك نجد في نصوص المجموعة احتفالا ملحوظا بالمرأة من خلال استعراض العديد من المواقف والحالات الإنسانية (النسوية) التي تطرح من خلالها القاصة أسئلة حول الواقع الحقوقي للمرأة في ظل مجتمع يعاني من التهميش والفقر والجمود، ويسود فيه العنف والقهر والاستغلال وضياع قيم الحب والرحمة والصدق والقيم الإنسانية.
ذاكرة الألم
الذاكرة هي استعادة للزمن الماضي ومحاولة دمجه بالحاضر، وهي تلعب دور الوسيط بين زمنين، ولا تتقيد بشروط لتنظيم عملية التداعي التي تعتمد على الاستذكار الذي يؤسسه الوعي. و«الوعي يعني قبل كل شيء الذاكرة» كما قال برجسون. لهذا يسقط انتباه شخصيات قصص «نقش على جدار الزمن» على زمن الماضي، فتتولد بذلك مراحل من التجاذب النفسي بين الحاضر والماضي (فيما يشبه المقارنة) فتقل عناصر الشعور بالحاضر المرفوض، لأن الإنسان يتعذر عليه أن ينتبه لشيئين معا في وقت واحد كما يقول الفرنسي تيودول ريبو . وبالتالي يتجه الانتباه جله إلى الماضي المسيطر -على الدوام- على ذاكرة الشخصيات المتعبة، لهذا تقول شخصية قصة «جرح في القلب»: «هو أمامي ينظر إلي وأنا أنظر إلى الماضي.. إلى الألم.. إلى خنجر في قلبي..» . إن نظرة الساردة إلى الماضي تمثل رفضا واضحا للحاضر؛ إذ «يتنكر الإنسان المقهور لهذا الحاضر الذي يشكل مرآة تعكس له مأساته، أو هو يجتر هذا البؤس. لكن الغالب هو التذبذب ما بين التنكر والاجترار» ، ذلك لأنه الحاضر الذي نتج عن ماض أليم، حدث فيه الانكسار لسوء في التفكير أو خطأ في تصور الحياة على الشكل الصحيح، فكثيرا ما يخيِّب الزمن تصورات الإنسان، لهذا تقول شخصية قصة «نقش على جدار الزمن» (في الماضي): «كان فكري الحالم يصور الحياة في المستقبل، جنة وارفة الظلال بعيدا عن حياة الواقع البئيس في قريتي الفقيرة المنسية..» . ثم بعد الخيبة (في الحاضر) تعود لتقول: «لا أصدق أن الجنة الوارفة الظلال التي حلمت بها أصبحت أطلالا.. وأن الخوف زرع سورا شاهقا حجب عني رؤية المستقبل.. سورا من الخوف وضعني في عزلة بعيدا عن أسرتي.. صديقاتي.. عن الكل.. خوف.. خوف.. بل كابوس أتمنى أن أستيقظ منه..» . إن ذاكرة الألم عند الشخصية أثرت على حاضرها فتشكل أمامها واقع جديد مشحون بالسلبية وموسوم بالخوف واليأس، تواجهه الشخصية بالرفض. وهو نفس ما حدث لشخصية قصة «حضرة النائب المحترم»؛ الخادمة التي تعرضت للاغتصاب من طرف مشغلها وهي مازالت صغيرة، تقول: «كنت أظن أن مع الأيام سيخف الألم بالتعود على هذه الحياة.. لكن الألم يزداد.. المعاناة تزداد.. أحس بنفسي عارية.. مغطاة بكل قاذورات المستنقع الذي أعيش فيه.. » . كما أن ذاكرة الألم حمل متعب له سلطة قوية على وعي الشخصيات ينكأ جراحها، لهذا تقول شخصية قصة «نبش في الماضي»: «كنت أظن أن جراحي هدأت لكن كلما تذكرت، كأنني أغمد خنجرا..» .
إن الذاكرة تضطلع بوظيفة أساسية في تشييد المتخيل وإغنائه، وفي إكسائه بعدا جماليا وفنيا تخييليا قادرا على التجسير بين تجارب ومشاهدات الماضي والأسئلة الكبرى التي تمس كينونة الذات والمجتمع» ، وتعمل على تشكيل الوعي بالواقع وأعطابه والتأثير في وجدان وفكر المتلقي انطلاقا من تفاعله مع النص شكلا ومضمونا.
خاتمة
خلاصة القول إن مجموعة «نقش على جدار الزمن» تضطلع بجملة من الموضوعات الاجتماعية والإنسانية، التي لا تنفصل عن دور المرأة فيها باعتبارها عنصرا مركزيا في المجتمع، فهي صوت أنثوي له رغبة في التعبير عن الأنا ومخزونها، حيث يتيح لها الحكي مجالا للبوح، باعتماد وظيفة الذاكرة في تشييد متخيل سردي يحتفي بالمرأة وبهويتها وإنسانيتها وبرغبتها في الكتابة، الكتابة القائمة على جدلية الذات والآخر، قصد تحقيق الوعي بالمشاكل والأعطاب الاجتماعية والإنسانية وإعادة النظر في علاقة المرأة بالآخر وبالمجتمع وبالنظم التي تتخذ العنف والقمع والإقصاء والكبت وسيلتها في التفكير.
كاتب مغربي