«الذهب الأبيض» White Gold كتاب تاريخي يروي حقبة تاريخية من تاريخ شمال افريقيا، المغرب والجزائر على الأخص، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. قام مؤلف الكتاب جايلز ميلتون ببحث أكاديمي دقيق ليعود بنا إلى تلك الحقبة التي تتعلق بالعبودية البيضاء، وإذا كان المؤلف قد اختار تسمية الذهب الأبيض، فذلك لأن هذه التجارة كانت مصدر دخل سخي لخزائن حكام المغرب وليبيا وتونس والجزائر في تلك الفترة.
العبيد الأوروبيون الذين كانوا يباعون في المزاد العلني في أسواق نخاسة، أشهرها (سلا) في المغرب والجزائر (عاصمة البلاد) كان الواحد منهم تبلغ قيمته أو قيمتها 35 جنيها إسترلينيا، أي حوالي سبعة آلاف دولار بقيمة 2021.
المصادر
اعتمد ملتون في كتابه ذي الـ316 صفحة، الذي تم نشره سنة 2004 في لندن على مراجع عدة، عربية وأوروبية، وعلى وثائق تحتفظ بها المكتبة البريطانية والمغربية، وعلى العديد من روايات العبيد، الذين كانوا محظوظين بالعودة إلى أوطانهم، وعن شهادات سفراء ومبعوثي مختلف ملوك إنكلترا وفرنسا وإسبانيا خلال ثلاثة قرون، السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكذا شهادات مبعوثين كانت مهمتهم الأولية تحرير رعاياهم بدفع الجزية، أو مقابل تعاملات تجارية، أو أحلاف سياسية مختلفة. يقول ميلتون إن هذه الفترة تعدى عدد العبيد البيض مليون شخص من رجال ونساء وأطفال غالبيتهم كانوا بحارة السفن التجارية، التي كانت تجوب عرض المتوسط، أو من خلال غزوات كان يقوم بها القراصنة في عمق أوروبا.
حكاية توماس بيلو
يحكي ميلتون قصة شاب إنكليزي وقع في قبضة القراصنة المغاربة في القرن الثامن عشر، اسمه توماس بيلو كان عمره إحدى عشرة سنة عندما غادر جنوب غرب السواحل الإنكليزية ذات صيف في سنة 1715 رفقة عمه القبطان جون بيلو على متن باخرة تجارية «فرانسيس» وخمسة بحارة باتجاه جنوة، وقبل بلوغهم نهاية رحلتهم، وقعوا في شباك قراصنة السلطان المغربي مولاي إسماعيل (إسماعيل بن الشريف حكم المغرب بين 1672 و1727) في عرض المتوسط، ثم اقتيدوا إلى سوق الرق في مدينة سلا، بالقرب من الرباط.
الكتاب يكشف صفحة سوداء في تاريخ الرق، لكنه يركزعلى العبيد البيض من الأوروبيين، خاصة الإنكليز من خلال الفتى توماس بيلو، الذي بيع في سوق مدينة سلا، وتم نقله إلى مكناس عاصة الدولة آنذاك في خدمة السلطان مولاي إسماعيل.
الكتاب يعتمد القص الروائي في سرد الوقائع، نظرا لوفرة العديد من المصادر التاريخية للسجين توماس بيلو، مصادر دقيقة عن الفترة التي قضاها في خدمة مولاي إسماعيل وبلوغ أسواق الرق الأبيض في عهده أوجها، واعتماده عليهم في تشييد قصوره الفخمة، التي يروي المؤرخون الأوروبيون أنهم لم يشهدوا جمالا مثلها. الكتاب يكشف أيضا عن معاناة العبيد وأساليب تعذيبهم وإجبارهم على اعتناق الإسلام، ومنهم من رضخ ومنهم من بقي على دينه متحملا تبعات رفضه. توماس بيلو تعلم العربية وأصبح يتحدثها بطلاقة أهل البلد، كونه وقع أسيرا في سن صغيرة، وخدم في القصر الملكي لسنوات قبل أن يلتحق بصفوف الجيش، وارتقى إلى رتبة قائد فرقة قادها في معارك لإخماد ثورات قبلية ضد السلطان، وقد روى تفاصيل بعضها بدقة في جبال الأطلس. بيلو تزوج سيدة مغربية أنجبت له طفلة هلكتا لاحقا بسبب المرض، دون أن يذكر في مدوناته لا اسم الزوجة ولا الطفلة. قليل من أولئك المئات من الآلاف الذين وقعوا في شباك القرصنة عاد إلى بلاده، ذلك ان الأغلبية، إما أصبحوا مسلمين قضوا بقية حياتهم في خدمة الأمراء والأثرياء، ومنهم من تسلق السلم الاجتماعي والعسكري، وبعضهم هلك في غياهب السجون مرضا وجوعا، وقلة قليلة أفلحوا في الهروب والعودة إلى بلدانهم أو من كان محظوظا رضي السلطان بفديتهم والهدايا السخية التي كان يرسلها ملوك إنكلترا. توماس بيلو نفسه أفلح في الهروب في سنة 1738، بعد محاولة أولى فاشلة، والعودة إلى إنكلترا عبر جبل طارق، التي كانت وماتزال طبعا تحت الحكم البريطاني. بيلو عاد إلى المسيحية لدى عودته إلى أهله في مقاطعة كورنويل.
حظيرة العبيد
في أحد فصول الكتاب وعنوانه «في حظيرة العبيد» يروي الكاتب تفاصيل مروعة عن معاملة العبيد في مكناس، التي كان بين جدرانها ما لا يقل عن خمسة آلاف من الرقيق البيض، حسب شهادات الأوروبيين، أما المؤرخون العرب مثل أحمد الزياني (1734 ـ 1833) فذكر أن العدد كان أضعاف ذلك. كان العبيد يُرمون في المطامر الباردة الضيقة، مكبلين بالقيود لا يرون الضوء، وهو ما رواه توماس بيلو، بعد عودته إلى بلاده، وقد سجن في هذه المطامر رفقة عمه القبطان وبقية بحارة «فرانسيس» الذين هلكوا جميعا ولم ينج إلا هو.
القرن السابع عشر بلغت فيه الغارات البحرية لقراصنة الجزائر ذروتها، وكانت مدن وقرى جنوب إنكلترا وويلز وأيرلندا تعيش في رعب مستمر، ومن بين الغارات التي يذكرنا بها الكتاب، تلك التي قام بها قبطان البحر مراد رايس الأصغر (تقليدا للأميرال العثماني مراد رايس الذي سبقه بسنوات) على رأس مئتي بحار، حين هاجم على حين غرة قرية بلتيمور في أيرلندا الجنوبية في 1631 ليعودوا ومعهم 238 رجلا وامرأة وصبيا إلى الجزائر عاصمة البلاد، لينتهوا في سوق النخاسة، وفي ملكية أثرياء القوم. الصفقات عادة ما تكون عبارة عن مزاد علني، حيث يدفع الأغنى الثمن الذي يرغب مقابل البضاعة التي تروق له. ولأن الكاتب اعتمد على روايات من عايش هذه التجارب، ينقل إلينا ما دوّنه مثلا قسيس فرنسي سمحت له سلطات الجزائر بتفقد رعايا ديانته من المسيحيين، وقد شهد عملية البيع وكيف أن عائلة تقاسمها الأثرياء وفرقت بين الزوج والزوجة والأولاد. مراد رايس بلغ سمعة أسطورية بصولاته وجولاته في عرض البحار ضاربا أوروبا في العمقن ففي سنة 1622 رست بواخره الثلاث في مدينة ريكيافيك الأيسلندية، التي هاجمها وعاث فيها فسادا، وعاد هذه المرة إلى سلا محملا بأربعمئة من العبيد الأيسلنديين. مراد رايس مواطن هولندي اسمه يان يانسزون، واحد من عشرات المرتدين، كما كان الأوروبيون يدعونهم التحقوا بشمال افريقيا، وقدموا لأمرائها وسلاطينها الولاء من الجزائر، مرورا بتونس إلى سلا بحثا عن المال والسلطة والمغامرة. وكان مراد يلقى الترحاب أينما حل في هذه المدن الشمال افريقية.
نهاية الرق الأبيض
قصة توماس بيلو لها مغزى تاريخي أيضا، ذلك أنه بعد قرابة قرن من عودته إلى قريته الصغيرة قرب «فلاتموث» في مقاطعة كورنويل، قام السير إدوارد بيلو، أحد اقارب توماس، بالتوجه ببواخر حربية نحو السواحل الجزائرية سنة 1816 بأمر من الحكومة البريطانية، ليمطر الجزائر بمدفعيته الفتاكة ويخلف آلاف الضحايا والجرحى ويدمر أجزاء كبيرة من المدينة، ليرضخ ويستسلم حاكمها عمر باشا ويفرج عن جميع السجناء الأوروبيين والأمريكيين، وكان عددهم حسب ما يذكر الكاتب 1642 سجينا، وتكون بذلك بداية نهاية ما يقارب ثلاثة قرون من الرق الأبيض. بقية الأسواق في المغرب وليبيا وتونس، سرعان ما أدركت أنها النهاية ليعلن ملوكها وسلاطينها وأمراء أساطيلها، أنها نهاية سوق الرق الأبيض. قصف الجزائر من قبل البحرية البريطانية، ترك آثارا عميقة، حيث ضعضعت القدرات العسكرية للبلاد، وبتدمير أسطولها العثماني ربما كان لهذا دور غير مباشر في احتلال فرنسا بعد خمس عشرة سنة.
رقيق هنا وهناك
في الفترة نفسها التي كان فيها الأوروبيون يقعون في شباك القراصنة المسلمين يباعون في سوق النخاسة، كانت بواخر إنكلترا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال على الخصوص، تتوغل في غرب افريقيا لتعود محملة بآلاف الأفارقة، الذين بيعوا في مختلف الأسواق الأوروبية والأمريكية، مع توسع مستعمراتها في العالم الجديد. ملوك إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا وغيرهم كانوا يرسلون الرسل يحملون الذهب والفضة فدية لتحرير مواطنيهم، لكنهم لم يرحموا الرجال والنساء والأطفال، الذين قيدوهم بالأغلال ليبيعونهم في أسواقهم. وإذا كانت آثار الرق الأبيض قد اندثرت، فإن آثار الرق الافريقي ما تزال قائمة إلى يومنا، خاصة في المجتمع الأمريكي، الذي ما يزال فيه السود إلى اليوم يطالبون بحقوقهم المدنية والاجتماعية، رغم أن الدستور يضمنها، لكن تجذُر العنصرية في الطبقة السياسية والاقتصادية يحرمهم من هذه الحقوق.
كاتب جزائري
لكن للاسف ارجعوا لنا الصاع صاعين