الذوبان الدرامي في منحوتات أورس فيشر

في عالم يغوص بالغرابة والتناقض، في عالم الصراع الدائم بين وعي الإنسان وعقلانيته من جهة، وعدم خضوعه لهذه المعايير من جهة أخرى، يقود الإنسان إلى الفشل في البحث عن معنى الحياة وجوهرها.
أستعيد مع تجهيز فيشر قول الفيلسوف أوشو «عِش بكثافة قدر الإمكان، إحرق شمعة الحياة الخاصة بك من كلا الطرفين». لكن المفارقة أن فيشر أحرق شمعته من طرف واحد، فهو لا يريد العيش بكثافة إنما الذوبان للوصول إلى نهايات أخرى.
البدايات المحيّرة هي بداية إطلاق شعلتنا الخاصة، بحيث لا نستطيع توقع شكل الخاتمة. ربما من خلال العبثية نستشعر نجاتنا في هذا الزمن المُقلق، أو تقودنا إلى الاستمتاع في مرحلة الذوبان كراقص يتمايل على دروب الحياة. كل هذا وأنا أدور وسط تجهيز من المنحوتات الشمعية المنسوخة بالحجم الكامل وكأنني أبدأ من الصفر، كطفل يحبو ليتعلّم المشي ثم يركض فيتزحلق بين الأسئلة المعقّدة.
من أنا؟ بل من نحن؟ وهل العمر يتهادى على بصيص شُعلة؟ ومن يحدّد سرعة الاشتعال؟ هل الذوبان البطيء يحتّم علينا الصمود، أم التمايل بعبثية بُغية النجاة؟
«دون عنوان» هو عنوان أشهر تجهيز لمنحوتات شمعية واقعية للفنان أورس فيشر Urs Fischer الفنان السويسري المعاصر، والمعروض حاليًا في القاعة المستديرة التي تمّ تجديدها في مبنى البورصة Bourse de Commerce في باريس، حيث سيقضي هذا التجهيز فصلي الخريف والشتاء ليذوب ببطء في برك من الشمع. أعاد فيشر تصميمه لهذا العمل الفني بعد عرضه خلال بينالي البندقية 2011 بشكل يتناسب مع نطاق الموقع، في قلب مبنى البورصة الضخم، المغطى بقبة يصل ارتفاعها إلى 40 مترا تقريبا مع أيقونة هي عبارة عن لوحة قماشية كبيرة مثبتة على القبة، تبرز حركة التجارة بين القارات في نهاية القرن التاسع عشر، التي تميزت بالأيديولوجية الاستعمارية وثقافة الفولكلور في عصرهم.
فتحاكي في طلتها رموز العولمة المعاصرة، أي المجموعة الكبيرة المنحوتة والمركبة تحت هذه القبة التاريخية العملاقة. في الوسط نسخة طبق الأصل من رخام منحوتة جيامبولونياGiambologna’s «اختطاف نساء سابين» التي تعود إلى القرن السادس عشر (1579-1582) على قاعدة مستوحاة من تلك الموجودة في الساحات العامة الإيطالية. مع تمثال لصديق فيشر وزميله الفنان رودولف ستينجل، وهو تمثال لرجل «عادي» يقف في مواجهة المنحوتة الضخمة. كلاهما يحترق ببطء على الأرض، يذوب دقيقة بدقيقة.

لخصت هذه المجموعة الشمعية المنحوتة قبل أن تضاء، الإتقان والواقعية والبراعة، لكن على مدار المعرض، عندما تحترق فتائل الشموع، ستنقلب هذه القيم بفعل أعمال الصدفة والعشوائية أو الفوضى، إلى نحت غير واقعي من خلال انهياراته المتتالية.

تُحيط بالأعمال الشمعية سبعة مقاعد، أربعة منها مصممة على غرار مقاعد من مالي وغانا وبوركينا فاسو وإثيوبيا، التي تعد جزءاً من مجموعة متحف كواي برانلي جاك شيراك Musée du Quai Branly Jacques Chirac مع إقرانها بمقعد طيران وكرسي مكتب دوار ومقعد حديقة، تتحدث هذه المجموعة الانتقائية عن التأثيرات المستمرة للاستعمار والعولمة.
تدريجيا سوف يدمر هذا التجهيز الجميل نفسه في كتلة شمعية خلال العرض الذي يستمر لعدة أشهر، في حالة من العبثية والإحساس بالدهشة والانبهار من الوجود المحيط به، لكنه انبهار مشوب بالقلق والحيرة.
أورس فيشر (مواليد 1973) فنان صادم، يخلق عالما عبثيا ومثيرا للسخرية، من أجل استكشاف الاحتمالات اللانهائية للمادة. فاستخدم مواد قابلة للتغيير، تحترق أو تنتهي صلاحيتها، أو تتغير مثل الخبز أو الشمع في طريقة إنتاج عضوية وتجريبية، يحاور الاختلافات ليستكشف من خلالها عمليات الولادة والتدمير.
لخصت هذه المجموعة الشمعية المنحوتة قبل أن تضاء، الإتقان والواقعية والبراعة، لكن على مدار المعرض، عندما تحترق فتائل الشموع، ستنقلب هذه القيم بفعل أعمال الصدفة والعشوائية أو الفوضى، إلى نحت غير واقعي من خلال انهياراته المتتالية. فالشمع وإن بدا معمرا وحقيقيا، كتمثال صخري في قلب ساحة إيطالية يتضح مع مرور الوقت أنه هش وخيالي.
«دون عنوان» سيحترق يوميا حتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2021، طالما أن فتائل الشموع تستمر في الاحتراق، فالجمال الناري في عبثيته يفكك العمل تدريجيا في استمرارية متحولة بين سحر الفضاء والمشاهد ومرور الوقت الحتمي. هو تجهيز مركب للمتناقضات، للثبات والتحول، لجماد المادة وهروب الزمن، الإبداع والتدمير الخلاّق.
والأكثر إثارة للاهتمام قد يشعر الناس بالرعب من مجرد فكرة أن منحوتة جيامبولونيا الشهيرة «اغتصاب نساء سابين” قد تم تشويهها، لكن النحات أورس فيشر لن يفعل ذلك في مثل هذه التحفة الفنية، بل ابتكر نسخة طبق الأصل من الشمع بالحجم الكامل للتمثال. وأرفقها بتمثال رجل عصري يزور المعرض، وهو نسخة عن صديقه ليذوب كلا التمثالين أمام أعين الجمهور الحقيقي. هذا الذوبان الدرامي، لا يوحي بإعطائنا الضوء، بل ربما التقاط نار القوة التي نمتلكها في الداخل. هي أعمال غير مستقرة مكسورة، مشوّهة، أو خاضعة للتحول والاضمحلال، فالحزن على الذوبان وانهيار الأجزاء التي تناثرت لا يحل المشاكل، بل يجعلنا نفكر في مرور سهم الوقت القاتل. وهذا ما أكده جوناثان جونز، الكاتب في صحيفة «الغارديان» فيقول «لقد طاردني رجل الشموع لفيشر في ما بعد عندما كنت أسير في شوارع البندقية. وسوف يطاردني لفترة طويلة. إنه شعار جميل ومضحك ومخيف لسهم الوقت القاتل».
أفرغ الفنان الواقع من إطاره المألوف وألقى به في لعبة مدوخة من الروابط غير المتوقعة، من خلال أسلوب التهكم الذي يعتبر موقفا أخلاقيا أو تعبيرا عن تمرد. فاستحالت سخافات الحياة إلى سخرية بتحطيم المظهر المألوف من خلال إقامة عالم جديد من الفن العبثي، فيحدث لدينا صدام بين الشكل والمفهوم، ويكتفي بالتعبير عن القلق والحيرة التي يحسها الفنان تجاه الحقائق البكماء المطلقة.

أكاديمية وتشكيلية لبنانية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية