الراوي والمكان في «حقائب الترحال» للتونسي أبو بكر العيادي

تهيمن ثيمة المكان على المجموعة القصصية «حقائب الترحال» للكاتب التونسي أبو بكر العيادي. يركز الكاتب، في أغلب القصص، على علاقة الراوي بالمكان، وما يثيره المكان من أحاسيس لديه، يسترجع الراوي تجاربه وذكرياته في الأمكنة ويبرز تأثير كل تجربة مكان في ذاته.

1 ـ المكان الأول تونس:
أ ـ الريف:

تجربة الراوي مع الريف ثنائية، يمثل الريف حياة الطفولة والانتماء للجذور. يستمتع بهواياته الطفولية، كالاستماع ﺇلى خرافات جدته، «عندما كان يستلقي في حِجر جدّته فاطمة.. وتحكي له حكايات غريبة». ترمز جدته للأمان والعطف. يعيش بين أقربائه وأناس يعرفهم منذ ولادته. يشعر بالانتماء إلى بيئة تربى فيها، ويتذكر الراوي انسجامه مع الطبيعة، فهو يعرف جميع الأمكنة والنباتات وكل الأشياء، «أمكنة رأى فيها النور، وتعلم في ثنياتها تسمية أشيائها ونباتها ودواجنها». تربطه بالريف مشاعر الحنين إلى فترة الطفولة التي كان يقضيها في اللعب وصيد العصافير، «وتلك الحقول المترامية التي نصب فيها الفخاخ مرارا لصيد القبّر».
لكن علاقته بالريف تتغير بعد مدة من الزمن، بعد أربعين سنة من الغياب، يفقد الراوي انسجامه مع الريف. يعود الراوي لاسترجاع ذكرياته وإعادة الوصل مع جذوره، فيجد نفسه يعيش أزمة غربة، «عندما عاد إلى تربته الأولى بعد غياب جاوز الأربعين عاما، لم يفهم ما الذي تغير»، رغم وجود تلك الأماكن وخصوصيتها، تغيرت أشياء أخرى، «لكأنه جاء يبحث في ماضيه عن نفسه، فلم يجدها فيه». ينقطع ذالك الرابط الذي كان يجمعه مع أتراب الطفولة، «حتى لدَاتُه ممّن جمعه بهم عبر الدروب لهو وعبث، لم يجد في حكاياتهم عن الماضي البعيد ما يجعله يأنس إلى ماضيه». يفشل في استرجاع التفاصيل التي كان يحبها في طفولته. يصاب الراوي بخيبة لوجود هوة تفصله عن أصدقاء طفولته. فشله في استرجاع ذكرياته في الريف يثير في نفسه الإحساس بأنه أصبح غريبا بين أهله، «كان يبدو لمن ينظر إليه غريبا، كأن لم تكن له في هذه التربة جذور».

ب ـ مدينة تونس العاصمة:

تجربة الراوي مع المدينة ثنائية أيضا، يعتبرها في طفولته سبب فراقه عن الأهل الأحبة، وافتقاد الجدة وحكاياتها التي تركها في الريف، لم يقبل الراوي مغادرة بيئته الأليفة والذهاب ﺇلى المدينة، لأنها مكان غريب ومجهول، «في ذلك اليوم تعلّم معنى أن يفقد المرء شيئا عزيزا، وانتابه إحساس بأنه ممزق بين مهد طفولته وصباه، ومهبط مجهول نزلت به العائلة واستقرت». كما أن تجربته مع المدينة متعبة، ما اضطره لمغادرتها للغربة». المدينة التي غادرها في ليل سُخام، كالمطارد، طمعا في عيش أرحم وأفق أرحب». لكن المدينة تتحول لمصدر سعادة ودفء بعد سنوات الغربة، «هنا السماء أليفة، والديار أليفة ووجوه الناس، وإن مرّت به في صمت، أليفة». تصبح المدينة رمز الأمان لوجود أمه العطوف، التي تخفف قسوة تجربة العيش في فرنسا، «عندما تساءل أيّ ملاذ يقيه البرد والخوف وألواء الغربة، لم يبد له آمن من صدر أمه». يعود ﺇليها، من فرنسا، محملا بالحنين ليبحث عن ذكرياته وأصدقائه، «أين الرفاق وأين اليوم مجلسهم».

يعاني الراوي في الغربة من الوحدة والتيه والطقس الثقيل، لذلك يعود لبلده تونس. يعتبر تونس مكانا للدفء والرفقة والأنس.

2 ـ المكان الثاني خارج تونس:
أ ـ فرنسا:

تمثل فرنسا الوحدة وافتقاد العلاقات الإنسانية، ويواجه الرفض والنبذ من الفرنسيين، «رجل لم يبادله من قبل غير التحية في رواق العمارة، طوال سنة أو تزيد»، كما لم يتحمل طقس باريس، لأنه يسبب الكآبة. يربط الراوي وصف الطقس بمشاعر سلبية، «والجوّ يزفر رائحة الوحدة الخانقة، وسمـاء باريس، في ذلك اليوم الخريفيّ العابس، رماد قاتم ينزرع في الصدر همّا كالرصاص، ويورث في النفس كآبة مطلقة». يضاعف الطقس إحساسه بالغربة، «في ذلك المساء الشتوي الحزين، عندما عاد إلى شقته الخاوية، منهرسا بألواء الغربة والوحدة».

يعرف الراوي الضياع والفشل في باريس، «ودّ أن يعرف، وكم من ليلة ودّ أن يعرف، سرّ هذا التيه… كالساعي في طريق بلا صُوًى نحو أفق لا يلوح فيه غير سراب يُسلِم إلى سراب». تولد الغربة مشاعر الخوف والتشاؤم عند بلوغه سن الخمسين، «تَملّى في المرآة شعره المشتهب الذي يلتمّ على جبين أجرد… وأيقن أنه بلغ الذروة، ذروة العمر، كما يبلغ المكتشف قمّة الجبل التي ليس بعدها إلاّ الانحدار، وأنّ التّمام لن يعقبه سوى النقصان». يتملك الراوي الحنين لبلده تونس، ليهرب من الغربة مكان الحزن والبرد والوحدة، «تمنّى لو يرحل كالطير إلى ربوعه الحالمة، حيث الدفء والأنس والضياء».

ب ـ ليبيا:

تمثل تجربة ليبيا خيبة أمل للراوي، رغم رفع الشعارات السياسية التي تؤكد على العلاقات الجيدة بين الدول العربية، يمر الراوي بتجربة قاسية في ليبيا. بتأزم العلاقات بين تونس وليبيا، يواجه الراوي اﻹهانة والظلم في ليبيا، «دوّت الشتيمة في رأسه كطلقـــة رصــــاص، ووجــــد نفسه، بعد لحظة غامت فيها الأشياء والموجودات أمام ناظريه، يمضغ المهانة في صمت، عاجزا عن التفوّه بكلمة». تجبر العلاقات السياسية السيئة الراوي على مغادرة ليبيا، لأنه غريب ومهدد بالسجن إن بقي، «ومهلة بقائه محدّدة بشهر، إذا تجاوزها عُدّ من المتسللين الذين يطاردهم البوليس، وتُنسَب إليهم الجرائم والسرقة».

ج ـ إسبانيا:

تحرك زيارة إسبانيا في الراوي، الرغبة في البحث عن الجذور وتاريخ العرب، «ليلتها ودّ لو يبيت في تلك الغرفة، يقلب أسفار العهد البائد، يبحث في تلافيفها عن أمجاد الزمن الضائع». عبر زيارة المدن الأندلسية، يقتفي آثار ماض قديم، «عندما حلّ بتلك الديار، كان كمن جاء ينبش ماضيه بعد غياب. إشبيلية، بلنثية، قرطبة، مالقة، مرثية، شاطبة، وغرناطة… تشهد على حضور لم تمحه من الذاكرة الأعوام».

3 ـء الراوي بين هنا وهناك:

يعاني الراوي في الغربة من الوحدة والتيه والطقس الثقيل، لذلك يعود لبلده تونس. يعتبر تونس مكانا للدفء والرفقة والأنس. بدل تحقيق بالتوازن والطمأنينة، يتملكه القلق والحيرة لأنه عاجز عن اختيار مكان واحد للعيش فيه، «لكم خال إنه واجد في العودة بردا وسلاما وسكينة تنسيه سنوات التيه عبر المدن الغريبة، والمنافي البعيدة والغربة القاسية، فإذا هو حرد قلق لا يهنأ بليلٍ ولا يأنس بنهار»، إذ يكتشف أن قدره الترحال، «كأنه أدرك منذ البدء أن الرحيل قدَره». تردد الراوي بين اختيار مكان يفقده التوازن والراحة، «ودّ أن يحوز كلّيانية الآلهة حتى يكون قادرا على العيش بين الضفتين، لعله يجد التوازن».

٭ كاتبة من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية