الرحلة إلى الداخل في ديوان «الغرف المغلقة»

ينتمي ديوان «الغرف المغلقة» للشاعرة المصرية فاتن متولي إلى إيقاع قصيدة النثر، وهو ديوان فائز بجائزة النشر الإقليمي في الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2023، ويتكون من سبع وعشرين غرفة/ قصيدة، حيث تطلق الذات الشاعرة اسم غرفة على القصيدة، وتجعل لكل غرفة رقما، وكان مجموع الغرف في هذا الديوان سبعا وعشرين غرفة.
وقد جاء في الإهداء «إليك حبيبي.. (أبي) وإلى جميع من رحلوا دون موعد، فباغتنا الفقد والدمع والحزن الموسد بالقلب». وقد ترك هذا الإهداء بصمته على قصائد الديوان، لأنه جعل ثيمة الحزن هي المهيمنة على قصائده، مما تواءم مع العنوان الذي يشير إلى حالة من الحزن والركود العام موجودة في الغرف المغلقة، حيث كانت هذه الغرف المغلقة غرفا داخل الذات الشاعرة مغلقة على أسرارها، ومن هنا فإن رحلة الشاعرة إلى داخل ذاتها أكثر من خارجها، وإن أطلت صور من خارج الذات فإنها جاءت في إطار تأثيرها على نفسها، ومن ثم انفعالها بها، ومن هنا فإنها تفتح مغاليق أسرارها عبر سبع وعشرين غرفة مغلقة. وقد سجل الموت ومتعلقاته حضورا كبيرا جدا عبر قصائد هذا الديوان، حتى وصل الأمر إلى مصادقته فتقول في الغرفة 8:
«أيا أنت تشبث
قاوم..
فالغد آت بمفرده وحيدا يتكسر
يترقب
والموت صديق جاء يضحك»
أما العلاقات بين الكلمات في هذا الديوان، فقد كان هناك توسع في المجاز بصورة واضحة، من خلال العلاقات اللغوية، فوجدنا علاقة مدهشة بين المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، والصفة والموصوف، والمضاف والمضاف إليه، وهذه العلاقات رغم جدتها وطرافتها فإنها تقع في المنطقة المأمونة، ولا تصل إلى حد نسف الدلالة أو تفجير اللغة، وإنما كانت حريصة على فائض المعنى الذي يتحقق من خلال عمليات الإسناد الجريئة.
تقول في الغرفة رقم 2:
الأوجاع عنكبوت يفترش أضرحة الكلمات
يهيئ النفس لموت بارد وصامت
في ارتعاشة الوحدة.. وارتجافة اليتم
صار البعيد سحيقا..
والممكن قيداً وهماً
تمنعت عناقيد الفرح أن تهم بنا
فهم بنا الحزن متسعاً
تسجل العلاقات اللغوية في المقطع السابق نموذجا لعمليات الانزياح الكثيرة في هذا الديوان، فالمبتدأ «الأوجاع» تجعل الذات الشاعرة خبره كلمة «عنكبوت» وهذه علاقة جاءت من حقل دلالي بعيد، وعلاقة المضاف «أضرحة» علاقة بعيدة دلاليا بالمضاف إليه «الكلمات»ومثلها ارتعاشة الوحدة وارتجافة اليتم، وعناقيد الفرح، كذلك علاقات الفعل والفاعل والمفعول مثل «يهيئ النفس لموت بارد» و»تمنعت عناقيد الفرح أن تهم بنا» و»فهم بنا الحزن» فالعنكبوت تجعله الذات الشاعرة يهيئ النفس لموت بارد، وعناقيد الفرح تجعلها الذات الشاعرة تتمنع عليها فلا تهم بها، والحزن بما يمثله من ثقل ضاغط هو الذي يهم. كل هذه العلاقات اللغوية بها جدة وطرافة في الاستخدام، لكن المعنى يستطيع المتلقي أن ينتجه، فقد حافظت الذات الشاعرة على الدلالة ولم تنسفها. ولا تخفي بطبيعة الحال الإشارات التراثية لقصة سيدنا يوسف عليه السلام، حيث ذكر القرآن الكريم عن امرأة العزيز التي شغفها يوسف حبا قوله: «ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه».
ويلفت النظر بقوة في هذا الديوان تشكيل الصورة، وكثيرا ما تنتزع الذات الشاعرة صورها من البيئة، تقول في الغرفة رقم 12:
«سمكة تجاهد الاصطياد
هي روحي المعلقة»
وهذه الصورة تتكرر عبر غرفتين أخريين، وهي صورة منتزعة من طبيعة البيئة التي تعيشها الذات الشاعرة، فهي من مدينة بور سعيد الساحلية، والمقام بها مشروع للثروة السمكية، وصورة اصطياد سمكة لها حضورها الواضح في ما تشاهده عينها. وقد تميز هذا الديوان بحضور الاستعانة بحاسة البصر في تشكيل الصورة، وهذه الاستعانة تعد في غاية الأهمية، لأنها تعبر عن رؤية الشاعر وتفاعله مع ما يوجد من مفردات في بيئته، وضخه من روحه في هذه المفردات ما يجعلها خالدة، والملاحظ أن البيئة ومفرداتها ربما تنحسر في شعر الفصحى في الإبداع العربي المعاصر، فالكثير من مفردات الحياة المعاصرة التي يتفاعل معها الشاعر ليل نهار غائبة عن شعره، وهنا نجد الذات الشاعرة تقول في الغرفة رقم 6:
أرتب دولابي
أقفز بتهور فوق التحرر
فألقي بملابسي من الشرفة
أفتح الثلاجة
لألتهم بنهم
آخر قطعة من الجبن الرومي
الذي شاركني فيها
قطي الحبيب»
فالدولاب والثلاجة والجبن الرومي والقط، كل هذه المفردات يتعامل معها إنسان هذا العصر ليل نهار، ومع ذلك نرى انحسارا واضحا لحضورهما في الشعر المعاصر، وهنا الذات الشاعرة تتفاعل معها مكرسة لأهمية ما يبصره الشاعر في واقعه. كما تستحضر مفردات هذا العصر كما جاء في الغرفة رقم 12، حيث تقول:
يتبادل فيسبوكيون التحية
والسؤال ما حالك؟
أجيب بخير»
وهنا تتحقق التداولية، حيث يتم التفاعل مع مفردات نتداولها كثيرا في حياتنا، مثل فيسبوك وهي مفردة خاصة بعصرنا وما نشاهده، ومثل: ما حالك؟
بخير، التي تتكرر على الألسنة ليل نهار، فيتم بث روح الشعر في الأشياء المعتادة، وإكسابها الخلود. وعلى الرغم من هيمنة الواقع وما فيه من مفردات وصور فإن التراث كان له حضوره أيضا عبر جنبات هذا الديوان «الغرف المغلقة» للشاعرة المصرية فاتن متولي، ومن هذا التراث التراث الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي، فوجدنا حضورا ليهوذا والمسيح، كما وجدنا اقتباسات لآيات قرآنية كريمة وتناصا معها عبر غرف هذا الديوان. وهناك حضور للتراث الإغريقي القديم، حيث وجدنا إشارات تراثية لبروتس وغيره. أما الميثولوجيا الشعبية فقد كان لها حضورها هي الأخرى، تقول الذات الشاعرة في الغرفة رقم 27:
بنات الحور يعقدن صفقة مع النجوم
ونساء الحي والأطفال
يعدون خطة لاغتيال القمر
ذئب
يستعد لعراك غير متكافئ
مع ثعالب تنتهج دوغمائية الحياة
فهناك أسطورة شعبية في منطقتنا يرددها الأطفال عبر الشوارع، حينما يحدث خسوف للقمر، وهذه الأسطورة الشعبية ترى أن القمر مخنوق ويطلب الأطفال في غناء موقع مرتفع ـ وسط قرع الطبول القاصف ـ من بنات الحور أن يفككن القمر من هذا الخنق. أما عن الإيقاع في هذا الديوان فإنه ينتمي إلى الإيقاع الهارب لقصيدة النثر، فلم تكن هناك جلجلة موسيقية، لكن يستطيع الدارس أن يتلمس الإيقاع عبر تقنيات معينة اعتمدتها الذات الشاعرة، مثل تقنية الشكل الكتابي، وهنا يبدو توزيع الكلمات على الصفحة له خصوصية، كما يبدو استخدام عملية التوازن بوضوح من خلال توازن الكلمات وتوازن الصيغ، ويبدو الإيقاع الناتج عن تقطيع الكلمة، فكلمة لربما تكتبها الذات الشاعرة
ل
ر
ب
م
ا
كما يبدو دور الحرفية الواضح في تشكيل الإيقاع، حيث يتم تكرار بعض الحروف بصورة كثيفة، على نحو ما نجد في الغرفة رقم 4، حيث تقول:
جرذان الأفكار تسبب فوضى في دماغي
فقد تكرر حرف الفاء ثلاث مرات في الجملة السابقة، مما كان له دور في بث دلالة الضيق الشديد والتأفف من الجرذان التي تسبب فوضى عارمة في دماغها، كما تكررت حروف اللين بكثرة، مما تواءم مع حالة الأنين والألم من هذه الفوضى.
كما يبدو إيقاع الدلالة العامة عبر الغرف منفردة والغرف ككل. كما نجد في هذا الديوان الحس الاجتماعي المرتفع، مثل قولها في الغرفة رقم 15:
المدينة تبتهج على أضواء نار تشتعل
صراخ الفقراء يزعج أصحاب الياقات البيضاء.
ومن هنا فإن هذا الديوان للشاعرة المصرية فاتن متولي جعل نصب عينيه التحرك في رحلة إلى داخل الذات الشاعرة ليفض مغاليق غرفها المغلقة، ويكشف لنا عن أثر العالم الخارجي عليها.

أستاذ الأدب والنقد ـ جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية