هي رسائل وشذرات دُوّنت بين عامي 1888 ـ 1890 للّرسام الهولندي فنسنت فان جوخ. صدرت عن دار خطوة للكتاب العربي ـ تركيا، بعضها دُوَّن في تلك الأعوام، وبعضها في فترات سابقة من حياته، وبعضٌ قبيل وفاته، وفقا لتسلسلٍ زمني. احتل (ثيو) الشخصية المحورية فيها ليتفرع منها (جو) زوجة شقيقه ثيو وأُمه والأصدقاء. عنها يقول أحمد حسن مترجم الكتاب «لطالما كانت حياة فان جوخ تستهوي جميع من يحب لوحاته، هذا الفنان الذي كان قادرا على إيصال مشاعره لنا بوضوح وسلاسة، مستخدما ألوانه الخاصة (آكلو البطاطا، رصيف المقهى، الكرم الأحمر، ليلة النجوم، حقل القمح وشجرة السرو، وحقل القمح والغربان). كلها لوحات نجح فيها الفنان الهولندي باستخدام الألوان للتعبير عن حالته النفسيَّة، وعلى الرغم من أنه لم يلقَ الدعم والترحيب الكامل في حياته، لكنه وجد كل المجد بعد موته.
من الطبيعي جدا أنَّ يخيّم على الرسائل طابع التأثير الديني، الكثير من الأفكار المعروضة المرسلة مستشهدة باقتباسات من الكتاب المقدس «العهد القديم». كونه ابنا للقس ثيودوروس في الكنسية المصلحة الهولندية، فالأب كان يأمل أن يصبح ابنه واعظا ليحل مكانه. التحق فنست بالمدارس الداخلية ولم يستمر في ذلك. درَّس في مدرسة القس وليم بستوكس، وكان مسؤولا عن مجموعة من الأطفال، وكّرس حياته آنذاك لدراسة الإنجيل والأفكار الدينية. وعمل واعظا واستعد لتقديم امتحان القبول في كلية اللاهوت في جامعة أمستردام. وبعد عامٍ من المواظبة على قراءة اللاهوت رفض تقديم الامتحان واصفا اللغة اللاتينية بأنها لغة ميتة. بعدها عمل في التبشير وخدمة المرضى في مناجم الفحم في بلجيكا؛ المكان الذي يُرسل إليه الواعظ كعقوبة لهُ. وهناك رسم لوحاتٍ عن تفاصيل حياتهم المنجمية وأطلق على لوحته اسم (مسيح مناجم الفحم) لكن اللجنة الإنجيلية لم تكن راضية عن تصرفاته المتسمة بالزهد الشديد المبالغ فيه لحد الرمق الأخير، لذا رفضت تجديد عقده. وحتى في قضية قطع شحمة أذنه دلالة دينية وورعٌ بحت ممّا قاله المسيح: «فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنّك» ذلك لأن صديقه المقرّب بول غوغان قرر السفر إلى مدينة وترك فنسنت في مدينة أخرى، وهذا ما اعتبره فنسنت إساءة جلبتها إليه أذنه، لذا قطعها.
وفي عام1880 قرر الانتقال إلى بروكسل ليصبح فنانا ورائدا للمدرسة الانطباعية، في ما بعد، رغم أنهُ لم يحظَ بأي تدريب. تعلم الرّسم من تلقاء نفسه وقرأ كتاب Cours De Dessin لتشارلز بارغ، لكن الطابع الديني بقي مؤثرا عليه كما هو ملاحظ في رسائله وفي لوحاته، كما في لوحة «ما تزال الحياة مع الكتاب المقدس». ويعبر لشقيقته ويليميان عن سعادته لأنه قرأ الكتاب المقدس أفضل من كثير من الناس في الوقت الحاضر، ويؤكد لها أن وجود مثل هذه الأفكار النبيلة في الماضي يمنحه السلام.
من الصدمات الحادة إلى الإقامة في المصح
صدمته الأولى كانت أنهُ يحمل اسم أخيه المتوفى قبل ولادته بعام. بعدها نكسة عاطفية بسبب حبه لـ»كي» الأرملة التي تربطه بها روابط عائلية، والأم لطفل صغير السن، لكن رفضت التحدث إليه أو لقاءه، فقرر فنست مواجهتها في بيت أبيها فرفضت أيضا، فوضع يدهُ على لهب مصباح الزيت صارخا: «اجعلوني أراها قدر ما أستطيع وضع يدي في اللهب». ثم توالت صدماته، ذلك ما أثر في سلوكه النفساني، وفي رسالته إلى شقيقه ثيو يقول: «في الوقت الحالي أرغب بأن أبقى محدود الإقامة من أجل سلامتي العقلية وسلامة الآخرين، ما يريحني قليلا هو أنني بدأت أعتبر الجنون مرضا مثل أي مرض آخر، وأتقبل الشيء كما هو، بينما بدا لي خلال الأزمات الفعلية أن كل ما كنت أتخيله كان واقعيا، على أي حال، في الحقيقة، لا أريد أن أفكّر أو أتحدّث عن ذلك، أعتذر عن الاختصار، «وفي رسالته الأخرى المرسلة إلى شقيقته يشتكي فيها من سوء صحته واشتداد المرض عليه أثناء العلاج موضحا لويليميان نصيحة طبيبه غاشيه، وفي رسالة أخرى يصف أيامه كأنها أسابيع.
في الفقرة المعنونة بـ«اللغز الخالص للزهرة المعذبة» من كتاب «فان جوخ مُنتحر المجتمع» الصادر عن دار الرافدين يستوضح عيسى مخلوف مترجم ومقدم الكتاب، أن أنطونان آرتو، مؤلف الكتاب باللغة الفرنسية، حين زار متحف أورانغوري الكائن في حديقة تويلري عام 1947، كانت تعرض أعمال ولوحات ورسّومات فنست فان جوخ، وأنطونان هو أيضا رسام شاهدها بعين نافذة، آنذاك كانت مجلة «فنون» قد خصصت مقالة عن فنست فان جوخ تحتوي على فقرات من دراسة تحمل توقيع الطبيب فرانسوا خواكيم بير، تشير إلى أن هذا الفنان النابغة كان يعاني من اضطرابات نفسية ازدادت حدة مع مرور الوقت. بعد مرور فترة لا بأس بها من حادثة قطع شحمة أذنه، طالب أهالي حيٍ في مدينة آرل الذي يقطنه فنست بأن تُتخذ إجراءات بحقه بعد تصرفه الأخير، كطرده من المدينة أو الزج به في مصح عقلي عن طريق عريضة وقع عليها 30 شخصا تقدموا بطلبهم إلى عمدة المدينة، ونتيجة لذلك نُقل إلى طبيبٍ نفسي أكد تدهور صحته العقلية، وبناء على ذلك أُرسل إلى مصح عقلي، وفعلا تم الزج به في المصح العقلي.
نقرأ كتاب «المخلص دوما، فنست» الصادر عن دار الخان، من إعداد ليو بانسن ـ هانز لويتين ـ نيينكه باكر ترجمها عن الإنكليزية ياسر عبداللطيف و محمد مجدي. لأول مرة صدرت باللغتين الهولندية والإنكليزية، أغلبها كُتبت بالهولندية، والبعض منها بالفرنسية كونه استقر في سنواته الأخير في الريف الفرنسي. تعرضت إلى تحرير وتحقيقٍ شامل من قبل خبراء متحف فان جوخ في أمستردام بالتعاون مع معهد « كونستانتين هيجنز» للنصوص والتاريخ الفكري التابع للأكاديمية الملكية الهولندية للآداب والعلوم، نجد فيها أنه من خلال الرسم جسّد الواقع، كما في لوحة «مسيح مناجم الفحم» مستوحاة فكرتها من عمال المناجم في بلجيكا، فيقول عنهم إنهم بالكاد يعرفون ضوء النهار، وقلّما يستمتعون بأشعة الشمس باستثناء أيام الآحاد، وهم يعملون بصعوبة شديدة تحت ضوء فانوس شاحب، في حيّز شديد الضيق بجسد محني، وهم يضطرون أحيانا للزحف، وعملهم سحب من أحشاء الأرض تلك المادة التي نعرف فائدتها العظيمة، وهم يعملون هكذا وسط آلاف الأخطار التي تتكرر باستمرار. وانتقد «المقهى ـ لوحة المقهى الليلي» إذ قال عنها: حاولت أن أعبّر عن فكرة أن المقهى مكانٌ يمكنك أن تدّمر فيه نفسكَ، وأن تصاب بالجنون وترتكب الجرائم. تقول جو عن فنست فان جوخ التي تعرفت عليه عام 1880 بأنهُ «رجلٌ قوي، عريض الكتفين، يتمتع ببشرة صحية وتعبير مبتهج، قصير القامة بعينين خضراوتين ولحية حمراء، كان شعره بلون الزنجبيل مثل شعر أخيه ثيو. فنست فان جوخ المولود في هولندا عام 1855، مات في فرنسا عام 1890، عن عمرٍ 37 سنة، ورفضت الكنسية الكاثوليكية في أوفير سور السماح بدفنه في مقبرتها لأنه انتحر.
كاتب سوري