يعدّ التراث الحساني الشعبي، أهم موروث شعبي لمجتمع اسمه مجتمع (البيظان) هذا الموروث الذي حوى خبايا تتطلب من الباحثين والدارسين الغوص في أعماقه، لفك شيفرة الكثير مما يكتنزه هذا الموروث الغني بالعبر والحكم، لأن الإهمال وقلة الدرس والنبش فيه سيجعله يندثر، لأجل بسطه بين يدي القارئ وإطلاع هذه الأجيال من المهتمين بما كان مخفيا من هذا التراث، الذي زاوج العربي بالأمازيغي والافريقي.
وعلى سبيل المثال، مفردة «الرفكة» الحسانية، (الكاف تنطق كالجيم المصرية) أو (الرفقة) هذا المفهوم يعد جزءا من حياة مجتمع (البيظان) حيث عليه مدار الحياة الاقتصادية، لمجتمع أسس طرقا وابتكر حيلا للعيش، فالرفقة، أو القافلة، أو العير، هي ذاك التجمع من الجمال الذي يقصد به السفر من مكان إلى مكان معين، وحمل ما يحتاجه أهل البلد من ميرة تنوعت أشكالها، واختلفت أنواعها، أي (المؤنة). وحسب المهتمين بهذا الموروث، فإن فعل الرفقة أصيل في التراث العربي، عليها انبنت الحياة وبسببها قامت حروب، وبها سادت أمم وبادت أخرى.
فالرفقة أو «الرفكة» كانت من ابتكار الأغنياء بمجتمع (البيظان) حيث كانت القوافل تجهز للذهاب إلى أماكن مقالع الملح لتشتري ما تستطيع حمله، ليتم تسويقه كتمبكتو في بلاد السودان، والمناطق الأخرى من افريقيا التي تعرف ممارسة التجارة التي كانت تعتمد في الغالب على المقايضة.
وللإشارة فإن الرفقة أو (الرفكة) تتألف من مجموعة كبيرة من الجمال، حسب ثراء صاحبها، فقد تصل إلى مئة جمل أو يزيد، وقد يشترك فيها البعض، حسبما يملك من الجمال؛ يترأسها أحد الأفراد ممن له خبرة في تضاريس المنطقة، وله حنكة في «الدبلوماسية» أي أن يكون شخصا رزينا له باع واسع يتحمل كل شيء، وبالمفهوم الحالي «سياسي» بالإضافة إلى هذا يكون شكله ومظهره يؤكدان على أنه قوي البنية الجسمانية، ويطلق على هذا الرجل اسم «آقديم» لأنه يتقدم القافلة ويحرسها ماديا ومعنويا.
الأحمال على الجمال تتكون من «ترافطن» تجعلان على ظهر الجمل لتقيه مما قد يصيب ظهره، ثم توضع الأحمال على ذلك، وهما «الشقوق» واحد عن اليمين والآخر عن اليسار في تعادل حتى لا يسقط أحدهما، ويزن الجميع ما قد يصل إلى ثلاثمئة كيلوغرام، وقد يضاف إلى ذلك ما يعرف بـ«علاي».
والغالب في هذا النوع أن يكون من أنواع من المواد حسب كل منطقة، التي تكون تجارة رابحة في تلك الأماكن يبيعون فيها ويشترون، خاصة المدن التي لا يوجد فيها ذلك النوع من البضاعة، ولذلك أتت مفردة «علاي» بمعني في علو البضاعة. أما في حمل الملح فتتكون الحمولة من اثنتي عشرة عديلة، أو ثمان، أو ست، يحملها الجمل، يضاف إلى ذلك بعض الأواني وغيرها، أما الماء فله جماله الخاصة به، يحملونه في «القرب» واستحدثت أوعية جديدة وهي»التنوات» أي براميل صغيرة الحجم، ينضاف إلى ذلك جمل «الزاد» المخصص لحمل ما يحتاجه أهل القافلة من مأكولات وأوان من الشاي والسكر.
يتجه أهل «الرفكة» أو الرفقة إلى المدن التجارية، باعتبارها أسواقا لبيع ما حمل من طرف أهل الرفقة (الرفكة) من مواد كالملح والتمر من أجل المقايضة، بمواد أخرى غير متوفرة في البلد الذي انطلقت منه «الرفكة» من زرع، وسكر وشاي، وأنواع الخنط مجموعة في ما يسمى باللهجة الحسانية «البيص».
وللإشارة فإن المدة التي يمكن أن تقضيها «الرفقة» لا يمكن تحديدها إلا بالمكان المقصود الذي يمكن أن تصله في ما بين الشهرين إلى الثلاثة أشهر؛ وحسب بعض الباحثين والمهتمين بالتراث الشعبي الحساني، فإن (الرفكة) تحيط بها خلال رحلتها مخاطر جمة، منها قطاع الطرق، ناهيك من الأحوال الجوية من أمطار وعواصف رملية وحرارة، وقلة الماء في بعض الأحيان، ونقص في الزاد، وهلاك بعض الجمال في الطريق، وحتى الأمراض التي قد تصيب بعض أفرادها، كل هذا يخلق عند أهل (الرفقة) معجزات، لأن «الحر» يعرف في الشدائد.
ويجمع العارفين بالموروث الشعبي الحساني أن يوم عودة «الرفقة» يعد عيدا عند أهل المكان الذي انطلقت منه، إذ يفرح الجميع بعودة الرجال الشجعان إلى بلدهم، وإلى أهليهم وذويهم، ثم يقومون بحفظ ما جاءت به القافلة من تجارة قد تكفي مدة سنة كاملة لتعود القافلة إلى ديدنها. ومن عاداتهم أن صاحب القافلة، أو أصحابها، يعطون الأهالي بعضا مما حملته القافلة، وهو المعروف عندهم «بالسهم» أي الحصة.
إن انتشار اللصوصية وقلة الأمن، يؤدي بأهل الرفقة، إلى أن يبنوا أبنية أمنية يحفظون فيها زادهم، فيبعدونه عن عيون المتربصين، وقد عرفت عندهم بـ«أكرن» يبنى تحت المساكن، ويموه بحيث لا يستطيع أن يكتشفه إلا من له علم بخريطة المنزل، ثم يغطونه وينشرون عليه الحصائر، وهو بذلك يكون المخبأ المفضل عندهم، وحسب التراث الثقافي الحساني، يكون بهذه الطريقة تأمين جزء كبير من الزاد، عن اللصوص، بل يمكن أيضا تأمين السلاح بتلك الطريقة من أجل الدفاع عن النفس والجهاد ضد المستعمر.
وحسب المعلومات المتوفرة من لدن العديد من الذين يهتمون بالأدب الشعبي الحساني وموروثه، فقد أكدوا أن رجالا ساهموا في إدامة ذهاب الرفقة وعودتها من حيث التمويل المادي لها، فمنهم من كان يمتلك أربعمئة من الجمال تشارك في الرفقة كل سنة، التي خصص جزءا منها للفقراء، الشيء الذي يؤكد أن هناك أيضا حق للسائل والمحروم في أنعام هؤلاء، كما أن الباحثين يؤكدون على أنه حتى من لم يساهم في (الرفكة) كان يساهم برأيه.
هذا الجزء من الموروث الشعبي الحساني الذي كان يحمل رمزية في التكافل الاجتماعي ويؤثث لمشهد تجاري، استخدم في مرحلة معينة من تاريخ مجتمع (البيظان) لم يعد موجودا إلا في ذاكرة البعض من المسنين، أو الروايات والقصص الشفهية التي أصبحت تحكى للأطفال، مترجمة شجاعة آبائهم وأجدادهم في ركوب الصعاب من أجل توفير سبل الحياة، وإدامتها في ظروف صعبة بالغة الخطورة، بينما يهمل الجوهر الذي يفند في فحواه أن «الآخر هو الجحيم».
٭ كاتب صحافي متخصص في التراث والثقافة الحسانية