الرماد

لم يكن طلب السيدة ليزا غريبا عليّ قط، فهي تعرف علاقتي بزوجها الذي توفي قبل أشهر. كنا صديقين منذ أكثر من ثلاثين عاما، نعمل على حاملة الطائرات البريطانية. باترك مهندس للكهرباء وأنا المهندس الميكانيكي. لقد جبنا بلادا ورأينا ما لم يره أحد مثلنا. وبدا أن هذا التنقل الطويل جعلنا نقترب أكثر وأكثر وتتوطد الصداقة بيننا. باترك أحيل على التقاعد قبلي بسنة، والحق إني شعرت بفراغ هائل بعده حتى أحلت على التقاعد. ومن خلال تلك العلاقة عرفت كم من الودّ تكنّه ليزا لزوجها، ويوم نعته كتبت لي رسالة على إيميلي تقول فيها إنها فقدت أعز صديق لها هو باترك وقد عرفت منذ زواجهما الذي حضرته مراسمه في مبنى البلدية قبل ربع قرن، أنها كانت مخطوبة قبله لشاب اتفقا على الزواج ويوم الزفاف غاب من غير ما سبب، الأمر الذي دفعها إلى أن تنقِع بدلة الزفاف بالبانيو المليء بسائل أحمر. بدت تلك صدمة لا تقدر أن تتفاداها. هكذا ظنّت لكن ظهور باترك غيّر حياتها رأسا على عقب. اتفقا على الزواج واشترطت عليه أن تُزَفّ إليه من دون بدلة بيضاء، أو إن كان ولا بدّ فستختار بدلة زرقاء بلون سماويّ شفاف، لذلك حين اتصلت بي عن طريق الهاتف النقّال ظننت أن هناك أمرا ما يخص ابنتها المتزوّجة، أو ابنها الذي يسكن في مدينة أخرى. استقبلتها في منزلي ..
ووقعت تحت تأثيرا المفاجأة…
قالت إنها ستذهب مع ابنتها وابنها وصهرها إلى بلاي موث، المدينة الساحلية التي اعتادوا أن يسافروا إليها كل صيف.. هناك ستستقلّ زورقا لترمي في البحر ما بقي لها من رماد باترك الذي تضعه في إناء داخل صندوق مخصص لكلب مدلل من كلابها الأربعة، وتود لو أكون معها فأنا أقرب ألأصدقاء إلى زوجها الراحلّ! الواقع إني حضرت مراسم الجنازة في الكنيسة وتحدّثت على خشبة الاستعراض عن صفات صديقي ومغامراتنا في مدن كثيرة، رست عند سواحلها الحاملة. ليس هذا فحسب، بل حضرت حفلا تأبينيا مهيبا أقامته له البحريّة الملكيّة بعد أسبوع من وفاته. كلّ شيء بدا طبيعيا لي، ليزا تزف بالبدلة الزرقاء وتحب الكلاب حدّ الوله، إلى درجة أنها وضعت عبوة الرماد في صندوق كلب، أما الشيء الذي فاجأني فهو إنها تعرف أني مسلم، وكثيرا ما احترمت خصوصيتي، وأكدت لي في أثناء حضوري الدعوات، أنها ابتاعت لي لحما حلالا وشعرت بالرضا أكثر يوم وجدتهما يتحولان إلى نباتيين، أما الشيء الذي أثار دهشتي فهو الحرق.. آخر مشهد لاح لعيني يوم حضرت مراسم التوديع فوقع بصري على التابوت ينحدر من المسرح حتى تلاشى فأغْلِقت البوابة. مع ذلك وافقت فبدت السعادة على وجه السيدة ليزا التي بدت لحظتها مثل طفلة وجدت لعبتها المفقودة.
وقد فضلت أن أذهب إلى بلاي موث بسيارتي، فلو رافقت ليزا بسيارة الكرفان الكبيرة لكنت أجتمع بكلابها الأربعة المدللة، التي وضعت في صندوق أصغرها رماد زوجها. فأنا أساسا لا أحب الكلاب. أقرف منها. تلك عقدة تعود إلى زمن الطفولة يوم ابتاع والدي كلبا شرسا يحمي بستاننا الكبير في قرية الدعيجي. صباح أحد الأيام وجدت الكلب نائما فأحببت أن أرحب به على طرقتي الخاصة.. صرخت هاي وقفزت فوقة في الوقت نفسه أطلق عواء شرسا ووقعت أسنانه الحادة على وجهي ومازلت على الرغم من كل تلك السنين أحمل أثر نابين فوق حاجبيّ. وأظنّ أنّه لا شيء أزعجني حين وصلت بريطانيا منتصف ستّينيّات القرن الماضي سوى الكلاب. وعدت ليزا أني سألتحق بهم وقت الضحى فنؤدي نشر الرماد على الماء. وأعود في اليوم نفسه مع ذلك فإني لم أحك قصة الأثر على وجهي لأي أحد. ولم تنتبه ليزا أو زوجها لامتعاض يبدو على وجهي حين أزورهم فيقترب مني أحد كلابها، خاصة الكلب الألماني الضخم.
وصلت في الوعد المحدد فوجدت الجميع في انتظاري. صعدنا الزورق الذي انطلق بنا في عرض البحر. أخرجت ليزا حفنة لابنتها وأخرى لصهرها ثم سلمتني حفنة واحتفظت لنفسها ببقية القارورة..
ارتجفت يدي…
شعرت بانقباض.
في الهند رميت في الهواء قطعة حلوى إلى قرد فطار إليها في الهواء اختطفها بيد واحتضن بيده الأخرى شجرة عملاقة. دائما أخرج وحدي أو مع باترك أرمي الشص في البحر. أصيد سمكة ثم أعيدها إلى الماء. قال لي ذات يوم لم لا تتزوّج؟ يا سيدي أنا الآن جاوزت الخمسين ولن أجد امرأة تحبني مثلما تحب كلبها ضحكت ليزا. كنت أكرر عبارتها التي تقولها أمامي لزوجها باترك أحبك مثل كلابي، أما أنا وإن كنت لم أتزوج فقد حسبت أني ربحت حين لم أعد إلى العراق، وإن حزن والدي الذي بعثني لأدرس وأعود، أو بكت أمي وهي تعدني من الأحياء الأموات. لا أنكر أنهم أغروني هنا. راتب ومواطنة وبعد حصولي على الدكتوراه عملت مهندسا على متن حاملة الطائرات.
منصب كبير حقا..
لكن خيل إليّ ماذا بعد..
أظن أن كل شيء تحول إلى رماد ..مجرّد رماد أقبض عليه بيدي لأنثره على البحر.
هل أتحول إلى رماد؟
تساءلت وأقنعت نفسي أن السنين ستتكفل بفعل تحولي، الزمن وحده وليس النار كما فعل صديقي باترك، لعلّ جثتي تقاوم سنين وعقودا.. صديقي اختصر الطريق فشطر جسمه شطرين بعض من رماده دُفِنَ في مقبرة المدينة هناك أستطيع أنا وعائلته أن نزوره وقتما نشاء. ننثر فوقه الورد..نتأمل ثم نغادر فماذا عن البحر؟ من حسن الحظ أننا في يوم مشمس ساكن وصوت ليزا يحثنا..لحظة مهيبة مهابة البحر. ابتسامة على وجه ابنته جينا، وغبطة تلوح على شفتي الصهر، أما ليزا فرأيت ابتسامتها تشع من خلال حزن شفاف واسع سعة البحر. لم أتردد رحت أنفض ما في يدي، وكأنني أنفض نفسي بعد سنوات في قبر ما في مقبرة ما وأنتظره يتحلل بفارغ الصبر، وقد تلاشت آخر ذرّة من يدي في الهواء وغابت عن عينيّ قبل أن تهبط مثل شمس الغروب في البحر.
ملاحظة: كل شخصيّات هذه الرواية حقيقيّة ماعدا شخصيّة الراوي.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية