وأنت مار بشارع «موسى بن نصير» وسط مدينة طنجة، على بعد خطوات قليلة من شقة الروائي الراحل محمد شكري، لا بد أن يستوقفك مُلصقٌ مثير على واجهة أحد محلات الحلاقة.. المُلصق، على خلاف المنتظر، لا يحاول إغراءك بتجريب صرعة حديثة في قص الشعر، ولا هو إشهار لمنتج تجميلي جديد.. وإنما دعوة، كُتبت بخط كبير مضغوط، للقراءة!
المحل للقاص أحمد الخشين؛ حلاق محترف في عقده السابع، كاتب عصامي في حوزته سبعة أعمال حكائية هي: أربعُ مجموعات قصصية «الدنيا في معجم الحلاق، أيام من دنيا الحياة، في رحاب الناس، شيوخ الطريقة المبجلين»، وروايتان «من المسؤول عن فَطْمَة»، و»جعلوني لقيطا»، وسيرة ذاتية في طبعتها الثانية «اليتيم». وهو إلى جانب ذلك آلة تسجيل ثمينة تحتفظ، في ذاكرتها، بأرشيف نادر من أحاديث أجيال من المثقفين، الذين مرّوا بمحله وبَاحُوا له على «كرسي الاعتراف» بكثير من أسرارهم ومشاكلهم الشخصية، وهم يسلمون ناصيتهم بطواعية لمقصه الحاذق، مروياتٌ وأحاديثٌ كانت محور المتن لكثير من قصصه الاجتماعية.
من «ريف الأندلس» كان البدء
روى لي أحمد الخشين أن رحلته مع الحرف لم تكن هينة، وأن القلم لم يهب نفسه إليه إلا بعد تمنُّعٍ وعناد طويلين، فقد استعصى عليه في البداية الالتحاق بالمدرسة النظامية، كباقي أقرانه في مدينة شفشاون، بسبب قلة ما في اليد بعد وفاة أبيه.. وعوض ذلك سلمته أمه إلى معلمِ الحياكة ليلقنه صنعة تقوي من خلالها الأسرة مصادر رزقها الشحيحة.. ونتيجة إلحاحه على الدرس قبلت أمه بأن يلتحق بالكُتّاب «هوايةً» موازاة مع عمله الرسمي في الورشة.. لكن عنف المعلم كاد يذهب بما كان في قلبه من حب للقراءة والكتابة.. ليفرَّ الصغيرُ سريعا بجلده الغض وهو بالكاد قد تعلم فك الحروف والتهجي بأصواتها. غير أن القدر، كما يقول أحمد الخشين، كان قد هيأ له مفاجأة سارة لم تكن في الحسبان؛ فقد اتفق أن كان في زيارة مع أمه إلى مدينة القصر الكبير (120 كلم جنوب مدينة طنجة) في مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث تقطن أخته الكبرى مع زوجها الحلاق، ولما لم يرزق الله هذه الزيجة الطيبة، على حد وصف الأستاذ أحمد، أولادا فقد اشتد إلحاحها على مكوثه الدائم بجانبها في مقابل تلقينه حرفة الحلاقة بدل الحياكة، والسعي لدى أحد زبائن الزوج، الذي كان مديرا لإحدى المدارس النظامية، لإلحاقه بصفوفها… فكان ما أراده القدر.
لماذا تكتب؟ ومن يقرأ لك؟ أكتبُ، يقول الخشين، لأنني أجد نفسي مُمتلئا وفي جوفي عشرات الحكايات من دنيا الناس.. بين يدي الحلاق يستسلم رأس اللقيط، والمجرم والضحية، والمثقف والأمي.. ومن أفواه هؤلاء يمكن أن أصنع لك، كشهرزاد، ألف حكاية وحكاية.
يروي الخشين كيف كانت فرحته عظيمة، وهو يعانق لأول مرة، في سن الرابعة عشرة، فضاء المدرسة، وكيف فتح له رصيده المعرفي المكتسب من تجربة الكُتّاب القصيرة، بالإضافة إلى عمره الناضج نسبيا مدارج التعلم السريع، فكان يطوي فصلين في سنة واحدة.. كما يذكر فضل حرفته التي كان يزاولها وقت فراغه، فقد مكنته من الاندماج في أجواء الحركة الثقافية لمدينة القصر الكبير، من خلال ما يتلقفه من أخبار يلتقطها من أفواه زبائنه المتعلمين. كما أن راتبه الأسبوعي أتاح له، من جهة أخرى، إمكانية اقتناء بعض المطبوعات الواردة من الشرق العربي آنذاك، وعلى رأسها إصدارات طه حسين، وجبران خليل جبران بالإضافة إلى مجلة «العربي» التي يعتبر نفسه مدينا لأبوابها الثقافية، التي أمدته بمعارف متنوعة ثرية. ويتوقف أحمد الخشين طويلا عند شخصية طه حسين التي يعتبرها صورته الوجدانية، ومثله الأعلى في الكفاح الاجتماعي، «لذلك التهمتُ كتبه معيدا قراءتها مرات ومرات.. خاصة مروياته الحكائية بدءاً بـ»الأيام»، و»دعاء الكروان»، و»أديب»، و»هامش السيرة».. محاولا النسج على أسلوبها في السرد والموضوع» يقول أحمد الخشين.
الفرحة التي لم تكتمل
مسيرةُ حلاقِنا الصغير الدراسية ستتوقف اضطرارا مرة أخرى عند السنة الأولى من التعليم الثانوي؛ فقد كان مجبرا على مغادرة مدينة القصر الكبير والالتحاق بأمه في بلدته شفشاون، بعد أن قرر صهره السفر إلى مكة لقضاء مناسك الحج، وهو السفر الذي كان يأخذ آنذاك من صاحبه شهورا ذهابا وإيابا.. وإذا كان صاحبنا قد نسي بألم مع توالي الأيام، شيئا فشيئا، فصول الدراسة وأجواءها، مندمجا بجدية في حرفته، التي أصبحت مصدر رزقه، فإنه لم يقوَ، كما يقول، على مفارقة الكتاب.. فقد خصص دوما في محله مكتبة يرجع إليها وقت استراحته من مداعبة المقص.. ويرى الخشين أنه كان محظوظا بانتقاله إلى مدينة طنجة أواسط السبعينيات، واقتنائه لمحله الجديد في هذا الشارع الشهير في وسط المدينة، فبفضله تعرف على مجموعة من الوجوه التي ساهمت في المشهد الثقافي المغربي، أمثال قيدوم الإعلام والصحافة المرحوم خالد مشبال، والمرحومين المؤرخ عبد العزيز خلوق التمسماني، والروائي الشهير محمد شكري.. وعن علاقته بالأخير اعتبر الخشين أن علاقته بشكري لم تتجاوز حدود الجيرة، وأنه، ما مرة، استدعي من قبل بعض الأصدقاء المشتركين إلى جلساته الأدبية التي كان يقيمها في منزله، ويحضرها بعض مشاهير الفن والنقد.. إلا أنه كان دوما يتهرب من أجوائها بعلل مختلفة. كما أن الخشين لا يعتبر نفسه من طينة الحكواتيين الذين تحملقوا حول الكاتب الأمريكي الشهير المقيم في طنجة بول بولز (كمحمد المرابط، والعربي العياشي، ومحمد شكري نفسه) مادين إياه بمسرود الحياة الخلفية، المختلقة في كثير من الأحيان، للطبقات الفقيرة، وبمرويات فانتازية مداعبةً لأفق انتظارٍ استشراقيٍ للقارئ الغربي، الذي كان يكتب له بول بولز. «فيما الاختيار الذي انحزتُ إليه، يقول أحمد الخشين، هو الحكاية الاجتماعية الواقعية ببعدها النقدي، الذي لا يتوسل «لغة العري» بالضرورة منهجا لهذه النوع من الكتابة».
الكتابة وإشكال القراءة
لماذا تكتب؟ ومن يقرأ لك؟ أكتبُ، يقول الخشين، لأنني أجد نفسي مُمتلئا وفي جوفي عشرات الحكايات من دنيا الناس.. بين يدي الحلاق يستسلم رأس اللقيط، والمجرم والضحية، والمثقف والأمي.. ومن أفواه هؤلاء يمكن أن أصنع لك، كشهرزاد، ألف حكاية وحكاية.. أما من يقرأني؟ فهو زبوني بالدرجة الأولى.. يأتي ليقص شعره وحينما يعلم أنني كاتب يأخذه الإعجاب المشوب بالحماس، فيقتني نسخته ويطلب توقيعي علي صفحتها الأولى، فيما يشتري الآخر نسختين أو أكثر على سبيل التشجيع.. طبعا قد يقضي كتاب سنوات حتى ينفد، وهي مسألة عادية في مجتمع لا يقرأ حتى لكبار مثقفيه، فمعدل المقروء السنوي في المغرب لا يتعدى نصف صفحة! ومع استشراء وسائل التواصل الإلكتروني بين المتعلمين زادت الأزمة استفحالا! وإذا أضيف إلى كل ذلك وضع الحركة النقدية الموازية للإبداع، التي تتحكم فيها الصداقات والمجاملات والعلاقات الحزبية والأيديولوجية، قدرنا حجم المأساة أكثر.
٭ كاتب من المغرب
استمتعت بأحداث قصة حياة صديقنا الحلاق من خلال روايتكم وكأنها نسخة من مايشبه سيرة حياة الرعيل الأول من شباب ما بعد الاستقلال حيث كان الحب أقوى للتعلم عكس ما هو عليه اليوم. فأنا وانت وكثير من شباب ذلك العهد تحمل المسؤولية مبكرا بوعي وطموح .
شكرا على اشتراكي معكم فقد استمتعت بقراءة روايتكم.