تدور أحداث رواية «وجوه في الزحام» للكاتبة فاليريا لويزلي حول شابة تسعى إلى كتابة رواية صامتة لا توقظ أحدا، لكنها تدرك أن الروايات تحتاج إلى نفس ثابت مستدام، بينما هي لها نفس قصير، تضطر أن تكتب بهِ على دفعات قصيرة وسريعة.. كما أنها مسؤولة عن الترجمة في ثقافة انعزالية تُعامل بنوعٍ من الارتياب والإهمال البليد. تُحسن مُحاكاة الأشباح بغية أن تكتبَ بالطريقة التي يتحدثون بها، أي دون صخب أو ضجيج عالٍ، تروي أخيلتها وأوهامها ثمَّ تمضي قدما بخطواتٍ هادئة غير مرئية؛ وهذا أحد الأسباب الذي يجعل الكاتبة تستهل الصفحات الأولى من روايتها بعبارة: «حذارِ! إذا ما لعبتَ مع الأشباح أن تغدو واحدا منهم» ما يدلّ على ترابط الوقائع والجمل ارتباطا وثيقا مُنسجما لا عيب فيه. تنشغل الشخصية الرئيسة في الرواية بمفاهيم لُغوية عدّة أهمها: مفهوم المحو والإيجاز، حيث لا تكتب أكثر ممّا يلزم ولا تضيف حشوا أو زخرفة مُبالغة لئلا تدفع القارئ إلى الملل والضياع الهجين؛ لذلك تعد هذهِ الميزة، أحد أبرز بلاغات اللّغة وبيانها آنذاك وحتّى الآن. من المؤكد أن مثل هذهِ الشخصيات تحترق بشدّة حين تكتب، إضافة إلى استعانتها الدائمة بالأدب الكلاسيكيّ الرفيع.
تستحضر المؤلفة «فاليريا» فكرة العيش في محاورة الموتى، بمعنى أن يحيا المرء وهو يحبّ المقابر، ويستمرّ في حالة من التواصل والتشارك مع الموتى، مسوغة الفكرة بالدناءة المُحيطة بها وبأن من حولها سفلة أخساء، إذ التردد على مقبرة صغيرة لا تبعد عن شقّة العيش سوى بضعة شوارع للقراءة والتفكير دونما إزعاج أو مقاطعة من الأشخاص، أفضل بكثير من أيّ شيء آخر لاحق.
تأثرت بالشاعر الإسبانيّ فرانشيسكو دي كيفيدو، الذي قالَ ذات مرّة في إحدى قصائده الزاهدة المُميزة: «في القبر إياه حيث يكون مرقدي/في الجهة الأخرى، جهة الموت القاسي/ستعيش في ظلّي اهتماماتي/وما وراء نهر الموت ستبقى ذاكرتي../الحذر من التلهّي، فالموت يفاجئ/إنّما العيش مسيرة يوم قصير/وحياتنا، يا ليكو، موتٌ ذو حياة». لقد كانت مع نظرية الميتات المُتعددة على مدى حياة المرء، ونظرية أن الناس يتركون وراءهم أشباحا عن أنفسهم تحوم هُنا وهُناك، ومن ثمَّ يتابع الأصل وشبحه في العيش، تقول إن كُلّ كينونة قائمة بحدِّ ذاتها.
كان ثمّة تناغم غريب بين أفكارها اللُّغوية والحياتيّة بلا ريب، هذه حقيقة نلتمسها من خلال القراءة المُتأنيّة والمُتمعّنة، وهي ليست مُجرّد صيغ وأوهام شِعريّة. ألقت إيميلي ديكنسون بظلّها على الكتاب أيضا، فإن مُعظم سردها يحمل روح الشاعرة، لاسيّما ما ذكرته في إحدى الصفحات: «الهواجسُ ظلٌّ مديدٌ على مرجةٍ خضراء/دلالةٌ على شمسٍ غاربة/إنذارٌ للعشب المرعوب/أنّ العتمة آتية». تناولت الروائية موضوعات الحياة، من وجهة نظر فلسفيّة واضحة ليست ضبابية، أو مُلتبسة، مُنبهة إلى أن العالم في الوقت الراهن يستلزم الحنوّ والعاطفة، بما أنها تشعر بالذنب عندما ترى بعض الأوراق الذاوية على الأرض حينما تتنزّه في أرجاء المدينة أو تذهب إلى المكتبة التي تعمل فيها، فضلا عن أنها تتمنى ليلة طيّبة للشجر قبل أن تودعه برفق، فما بالك بتعاملها مع البشر؟ إنها إنسانة ذات إحساس وهدف؛ يتجلى الأمر في شخصيتها الأنثوية (بطلة الرواية) كثيرا، وغالبا ما يعتقد الفرد الذي يتأمل قراءة مؤلفاتها، أن الكاتبة سردت قصتها وطبيعتها بطريقةٍ شاعريّة، فريدة من نوعها في كتابها الروائيّ، المُحمّل بالمعاني العميقة والأفكار الرشيدة، وهو شيءٌ ما عاد يفعله الجميع حتى لو حققه أحدهم فيكون على نحوٍ رتيب وبارد لا شكّ.
كتبت ديبورا ليفي: «كي أصبح كاتبة، كان عليّ أن أتعلم المقاطعة، والتحدث بصوتٍ أعلى قليلا، ثمَّ بصوتٍ أعلى، ثمَّ التحدث بصوتي الذي ليس مرتفعا على الإطلاق». وهو ما اتبعته لويزيلي في الكتابة الذكية، المعنية بمستويات صوت الكاتب.
تكون وتيرة الوقائع حزينة وتائهة كأوراق الخريف عندما تبدأ بالتساقط أوّلا، والتلاشي ثانيا، تقول الكاتبة على لسان بطلتها الشابة الآتي: «الصبي يغني. لديه صوت عذب رخيم: أوراق الخريف تتساقط، تتساقط، تتساقط.. أوراقُ الخريف تتساقط وأُمي تبكي».
ترصد الرواية حال امرأة مسكونة بالشُّعراء، تتمنى أن تتوارى عن الأنظار أو أن تمحو نفسها؛ لذا نقرأ ما يلي: ينبغي أن يكون الراوي في هذه الرواية مثل إيميلي ديكنسون، امرأة تبقى حبيسة منزلها أبدا، أو في عربة قطار أنفاق، لا فرق، امرأة تُخاطب أشباحها وتحاول ضمّ سلسلة من الأفكار المُحطّمة. يمكن أن يكون المغزى من كتابة «وجوه في الزحام» هو تعريف بعض الأفراد في العالم بالشخصيّة النسائيّة المنسيّة، التي تتكلّم عن ماضيها وزواجها المُضطرب مع طفليهما، ذلك الزوج الذي لا تستطيع إكمال لعبتها معه ولا التخلي عنه نهائيا من أجل الاستسلام واللجوء للغرباء. إنها شخصية أنثويّة مهووسة بشكلٍ مخيف بشُعراء معروفين ومغمورين لا حصر لهم على الإطلاق. يشتبك الواقع مع الخيال لينتج حبكة أدبيّة رائعة بعنوان «وجوه في الزحام» والقصد هو تصوير زحام الذكريات، إلا إذا ما كان زحام الدموع هو من يولّد هذهِ التخيلات والحكايات.
أظنها لم تكن لتكتب لو حاولت تغليف نفسها ضدّ ضجيج العالم وزحامه، لكنها تفتح النوافذ وتواجه زحمة الحياة اليوميّة بين حين وثانٍ، أرادت أن تظهر الأرواح التي لم يُكتب عنها قط. تعد فاليريا لويزلي واحدة من أعلى الأصوات المكسيكيّة وأكثرها حماسة وإثارة للاهتمام، حصلت على مُختلف الجوائز الأدبيّة، وكرست نفسها لتدريس الأدب والكتابة الإبداعيّة في إحدى جامعات نيويورك بعدما نالت الدكتوراه في الأدب المقارن. سخرت من البقاء الدائم وأمرت الأشخاص بالترحال في قطار الأنفاق؛ كوّنها تؤمن أن الإنسان ما إن يألف حضوره الآخر يحطمه ويجعله ينهار، فكتبت مصرّة على رأيها بضرورة المُجازفة والاختفاء قبل تصدع القلب عن طريق استخدام أفعال الأمر وإزالة شبهة المجاز: «ارتحلْ عن حياةٍ تحياها. انسف كلّ شيء. لا، ليس كلّ شيء: انسف حيّز المتر المربع الذي تَشغله بين الناس أو من الأحسن أن تتركَ مقاعد خاوية على الطاولات التي تشاركتها حينا مع الأصدقاء، ليس مجازا، إنما حقيقة، تخلَّ عن كرسيّ، كن لأصدقائك فجوة، دَع دائرة الصمت من حولك تَتضخّم وتمتلئ بالتخمينات. وما سيتفهمه قلّة من الأشخاص حينذاك هو أنك تهجرُ حياة لتبدأ حياة غيرها».
اعتبرت السخرية ضمن تأثيرات الضحك الهدّامة وتعني الضحك على الناس والأشياء القابلة أن تكون يوما قاسية وجدّية أكثر ممّا يجب، قالت: «إن تأثيرات الضحك هدّامة، فهي قادرة على تدمير أي شيء يظهر نفسه على أنه جدّي، إذ تقلبه رأسا على عقب وتُظهِر جانبه السخيف». يمكن لديها الحقّ في هذا المنظور المُتلاعب الذي يقوم على النظر الجيّد لمَن حولنا إضافة إلى قلقها من هشاشة العالم المُتزايدة. لم تشعر بالأمل، ظلت تراه أمرا سياسيا للغاية؛ لأنهُ يجبرها على الانتظار والتطلّع إلى الأمام وتخيّل عالم صالح للعيش، رُبّما من غير المُمكن إصلاحه في المُستقبل وإن تمّ توجيه أعمالنا إزاء ذلك. طمحت لويزيلي إلى أن تصبح كاتبة وفعلت ما أرادت أن توثقه بجدارة، إذ منحتها الكتابة أعمق أشكال المتعة الفكريّة والعاطفيّة وغيرها من المشاعر المتناقضة، خاصّة أنها تتحدث الإسبانية والإنكليزيّة. عاشت حياتها باللُّغة الإنكليزيّة واتخذتها ملاذا مهمّا لها.
كتبت ديبورا ليفي: «كي أصبح كاتبة، كان عليّ أن أتعلم المقاطعة، والتحدث بصوتٍ أعلى قليلا، ثمَّ بصوتٍ أعلى، ثمَّ التحدث بصوتي الذي ليس مرتفعا على الإطلاق». وهو ما اتبعته لويزيلي في الكتابة الذكية، المعنية بمستويات صوت الكاتب.
يبدو أن سمعة التدوين أصبحت مبتذلة هذه الأيام، لكنها ستستمر في قيادتنا إلى جواهر الكُتَّاب المجتهدين الذين لا يمكننا استبدالهم بسهولةٍ بعد الآن.
لاقت رواياتها الشِّعريّة استحسانا كبيرا بترجمة عبير عبد الواحد الجميلة والغنائيّة، وهي ترجمة مُريحة، لا علاقة لها بانعدام الثقة أو التعقيد اللُّغويّ. تميّزت هذه الروايات بتقنية السرد الإبداعيّ الفنيّ المُسمى بـ»بشِعريّة السرد» التي تؤثر في المشاعر وتُشير إلى صدق اللحظات ودقّة التفاصيل العابرة، التي اِلتقطتها كاتبة كانت تفكر في الأشياء لتعبر عنها باللُّغة لاحقا.
كاتبة عراقية