الرواية بما هي بحثٌ في الهوية: استلهام سيرة أبي العباس السبتي في ضوء حاجيات الوعي الحاضر

زمن الوباء

تدور أحداث رواية عبد الإله البريكي المُسماة «دفاتر ليلى المنسية» في فترة جائحة كورونا (كوفيد 19)؛ فالقائم بالسرد يعيش معزولا في غرفة في المستشفى تحت قيود الحَجْر الصحي حتى تظهر النتائج المخبرية، مستأنسا بالذكريات والهواجس والأفكار التي تُلح على عقله ووجدانه بصورة مطردة ومخيفة، وبالمخطوطة التي حصل عليها من ليلى، وقلبت منظوره لنفسه وللحياة حوله، وللعالم الذي توقف فجأة عن الحركة بعد الجائحة. كانت أحداث الواقع تتدفق في فكر السارد بطريق الاسترجاع والتأمل، وأحداث المخطوطة بذريعة الفهم والبحث عن الخلاص، وهو ما يزال مُعلقا في غرفة الحجر والتباعد والصمت وانتظار الذي يأتي ولا يأتي في غياب دواء أو مصل ناجع. بيد أنه يجعل من كل ذلك سانحة حقيقية للتعلم والإصغاء، والمراجعة والتحرر من سلطة امتلاك الأشياء، لأنه هو ما يُحدث المرض، إلى ما به يمكن أن يكون الشفاء منه: عيناه على إحداثيات الواقع الذي انقطع عن الجريان في زمن الوباء، وعقله ساربٌ في سطور المخطوطة وشيفراتها السرية، باحثا ـ كما يقول- عن «القوة القادرة على إحداث المرض والشفاء منه»: هل هي سلطة العلم، أم قوة الروح التي تتغذى منه وتتجاوزه في آن؟

حكاية داخل حكاية

يستعيد سعيد، سارد الرواية، صداقته مع مراد الذي تَعرف عليه في أحداث فاس إبان حرب الخليج الثانية، وتوطدت العلاقة بينهما وحصل التقارب بين فكريهما، إذ كان يجالسه في مقهى أو يتردد على زيارته في بيت عائلته في المدينة القديمة التي افتتن بعمارتها ومجرى الحياة فيها. نشأ مراد يتيما مع أمه، مُجاوِرا لبيت «أبا ميلود» الذي كان يتصرف كأب، ويحرص على أداء المسؤوليات حتى موته، وبيت «مباركة» التي كانت تقرأ طالع نساء الحي، ثم ترملت في ظروف صعبة. داخل البيت كان توجد مدافن العائلة من آل الشرفاء، كما توجد خلوة فيها محراب ومكتبة تضم كنزا من الكتب والمخطوطات القديمة، ومن بينها مخطوطة مسعود وصيف أبي العباس السبتي، التي عثر عليها سعيد في إحدى زياراته لصديقه مراد، بين مجموع مراسيم سلطانية تعود إلى الحقبة الموحدية. لم تكن مخطوطة عادية، بل كانت تكتنفها أسرار وملابسات غامضة؛ ومن ذلك ـ على حد قول الجدة التي قرأتها مراتٍ وفقهت ما فيها- «سر القوة التي بإمكانها إحداث المرض والشفاء منه»، ففي ثنايا هذه المخطوطة ثمة إشاراتٌ إلى «علل الذات ودوائها»، ولكن ساردها مسعود أخفاها في أحداث حكايته، لأنه لم يرد أن يسرد الحكاية لكي تُروى، بل لكي تُعاش.
يحصل أن ينشغل سعيد ومراد عن المخطوطة، ولا يعيرانها اهتماما، في خضم دراستهما الجامعية وما قادتهما إليه أو تعرفا فيها من اصطفافات فئوية أيديولوجية متناحرة ونقاش فكري وسياسي لاهب في مطلع التسعينيات، تأثرت به الساحة الطلابية في الجامعة المغربية، ولاسيما بين تيار يساري تقدمي يدعو إلى الثورة على الوضع السائد (يمثله أبو شعيب) وتيار سلفي محافظ يناصر المجاهدين في أفغانستان (يمثله المهدي)، بموازاة مع ظهور ما سُمي بـ»الكتلة الديمقراطية» التي أطلقتها مجموعة من الأحزاب الوطنية، وكان الهدف المعلن من تأسيسها توحيد جهودها في نضالها الموحد من أجل تحقيق مطلب الإصلاح، واستعدادها للتعاقد مع الملكية ضد الفقر والبطالة واحترام حقوق الإنسان. بعد تخرجهما من الجامعة وحصولهما على الوظيفة، انتقل مراد وسعيد إلى العيش في الرباط. انساق الأول مع شهوة المال والجسد وخبا حماسه النضالي، وبقي الثاني في انشداده إلى الواقع، يحاول أن يفهم بحدسه وقلقه ما يجري حوله من تبدلات مجتمعية وقيمية متسارعة (استشراء الاستهلاك، الطلاق، زنا المحارم، القتل، البغاء، التطرف..).

ثم دخلت ليلى، الطالبة الجامعية النبيهة، في حياتهما مثل إعصار ناعم، فقلبت منظور مراد جوهريا للمرأة والأشياء والعالم رأسا على عقب، مثلما أثرت على سعيد الذي كان يغار عليها من مراد، وغيرت زاوية نظره إلى جوهر المعرفة بالأشياء وإلى العالم، وما فيه من زيف وتفاهة. لم تكن ليلى صاحبة شخصية قوية وفكر حر، أو كانت تصدر في آرائها عن خلفية صوفية نافذة وحسب، بل حتى توجهها الأكاديمي كان ينصب على الربط بين معطيات الماضي ومستلزمات الحاضر؛ بحيث تريد من مشروع بحثها الجامعي أن يكشف عن «العطاءات الذاتية الفاعلة في التراث التي استطاعت أن تتحرر من رقابة المجتمع والفكر السائد، والتي تحمل تطلعات ذاتية واستشرافات حرة ومتميزة». وبما أن أبا العباس السبتي يمثل ـ في نظرها- نموذج هذه العطاءات في التراث، فقد وقع اختيار ليلى على هذه الشخصية في مشروع بحثها؛ لأن «قوة اعتقاده انطبعت على سلوكه»، ولأنه «واجه تصلب المعنى الفقهي وتحجره في عهد المرابطين، وفق تصور يتأسس انطلاقا من الواقع لا يكاد يغادره إلى السماء حتى يعود إليه». ومن هنا، تريد ليلى أن تعيد قراءة هذه الشخصية وفق إشكالات الراهن.

تحت هذا الحافز الذي أخذ يطبع الأحداث، تَذكر سعيد ومراد مخطوطة مسعود وصيف أبي العباس السبتي، التي عثرا عليها في سرداب البيت القديم، وانشغلا عنها لسنوات؛ فطارا إلى فاس للبحث عنها، لكنهما وجدا البيت قد بِيع لسيدة فرنسية وتحول إلى «رياض الأنس»، ومعه ضاعت المخطوطة، التي وُجِدت في مزاد علني في باريس. أرشدتهما ليلى إلى البحث عن نسخة حجرية من المخطوطة في إحدى الخزانات الخاصة في سلا، إلى أن عثرا على شبيهة بها في الخزانة الوطنية في الرباط. حين أكب السارد على قراءة المخطوطة في عزلة الحجر الصحي، كانت تُلح عليه عبارة المرأة العجوز في أول الأمر، إذ أشارت بشكل ملغز إلى «علل الذات ودوائها» في ثنايا هذه المخطوطة، أو بالأحرى السيرة كما دونها مسعود وصيف أبي العباس السبتي الذي كان «مسلوبا بالعطاء حتى آخر ممتلكاته»، وكان يقول له حين هم بتدوينها: «لم أبُحْ بما بُحتُ به إلا لأتخلص من سطوة أنوار العشق، وأنا الآن أتبرأ منه، فكل ميراثي عطاء، فلا تلتفت إلى الكلمات فيتهمك الناس بالكفر».

يشطر السارد نص الرواية، ابتداء من هذه اللحظة، إلى حكايتين متراكبتين؛ حكايته الخاصة التي بدأها ثم أخذ يضفرها مع حكايات صغرى طارئة لشخصيات من محيطه الواقعي (مراد، لبنى، ليلى، مباركة، ابا ميلود وابنه وليد الذي هاجر إلى فرنسا)، أو يضيء أبعادها على ضوء ما يرد في المخطوطة، وحكاية مسعود الذي أخذ يسرد ـ تزامنا مع الأولى وتبئيرا لها- سيرة أبي العباس السبتي، الذي صحبه فترة طويلة، منذ خروجه من سبتة وما عايشاه من أحداث في الطريق إلى فاس، ثم مراكش حيث لجأ إلى جبل «جيليز» الذي تعلم منه العطاء، وذاعت شهرته بين الناس الذين فتح أمامهم باب الصدقات، إلى أن أصدر الخليفة يعقوب المنصور الموحدي مرسوم تعيينه على الحسبة، قبل أن يعزله وزيره ابن جامع، تاركا مال اليتامى دَيْنا في رقبة مسعود. وقد أراد هذا الأخير من تدوين سيرة أبي العباس أن يتعمق في فهم حياة هذه الشخصية بأبعادها الغنية، وأن يبقيها حية في ضمير الناس. فالسيرة كما وردت في المخطوطة، تتعرض لطفولة السبتي ويتمه، واكتسابه العلم على يد شيخه عبد الله الفخار، وتدرجه في مراتبه بطريق العرفان والزهد والمحبة والذكر والعطاء، حتى وفاته في مراكش. وعلى هذا الأثر، يقتدي مسعود بأستاذه الإمام ويتشرب تلك المعاني من سيرته في جميع الأطوار الصعبة التي عاشها في صحبته أو واجهتهما معا. كما تنقل السيرة عادات الناس في تلك الحواضر وإيقاع حياتهم وأسواقهم وأوضاعهم المادية، التي لم تكن في أحسن حال، وتنقل أصداء قضايا وآراء فقهية وفلسفية في أوج الصراع بين فقهاء المرابطين وخصومهم من أهل الكلام والصوفية (يمثلهم أبو الحسن بن حرزهم)، الذي أفضى إلى حرق كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي؛ أو بين علماء الرسوم والنقل ونظرائهم من أهل العقل (ابن رشد) وأهل المعرفة بالقلب (السبتي، ابن عربي).

تخييل وإعادة بناء

من تداخل الحكايتين بين الحاضر والماضي بوساطة الانشطار المرآوي، وما يحتملانه من إعمال فهم وشرود ذهن أثناء البحث عن المعنى وشكل الخلاص، يدخل سعيد في لحظة حُمى وصداع وهو يهذي ويتوهم وتختلط عليه صور الشخصيات وتتقافز بين عينيه، بل يتمثل الفيروس بتيجانه العديدة وعينيه الصفراوين، كأنه يتعقبه ويتهدد إنسانيته النازفة وراء وهم امتلاك العالم، وغير المتضامنة بسبب غياب العدالة والحرية والأمان: «تظنون أن بإمكانكم محاربتي بالمصل والعقاقير الطبية، وأنتم أعجز من أن تحاربوا الجشع القابع في نفوسكم. غادر المستشفى بعد امتثاله للشفاء، فيما صديقه مراد لم يصمد أمام الفيروس. وفي خضم محنته مع المرض، ومع بحث المعنى، استلهم سعيد معاني كثيرة من قيمة العطاء من سيرة أبي العباس، الذي لم ينقطع بموته؛ إذ ما زالت نظريته حول «الوجود ينفعل بالجود» تجد لها صدى في الأوساط الاجتماعية المغربية. كما أصغى إلى الطبيعة ونواميسها، وتَعلم أن تغيير الواقع يكون بطريق الاندماج في ذرات الكون، وأن التحرر من قوى النفس يكون بقوة الروح، وأن الحب ليس أنانية بل هو إيثار وعطاء، وأن «القوة القادرة على إحداث المرض والشفاء منه تُدرك بالمعايشة لا بالقراءة»، بل انتهى إلى أن الوباء (كوفيد 19) الذي جثم على الأرض وحير ألباب علمائها، هو إيذان لبداية تاريخ جدي يستدعي إعادة النظر في القيم والمواضعات وأنماط التفكير السائدة التي تقود العالم إلى الهاوية.

تعيد الرواية بناء أحداث الواقع كما الماضي، ويصير كل منهما مُتطلبا للآخر، السرد الوقائعي جنب السرد التاريخي أو العجائبي، الذي تخترقه كرامات وخوارق ونصوص عرفانية؛ فلا يكون هم الروائي، عبر المظهر البلاغي والتمثيلي لخطابه، أن يصف ما جرى وحسب، وإنما يبنيه بطريقته الخاصة، وفق ما تتيحه فاعلية التخييل، محفوزا بمطلب البحث عن المعنى في ضوء الراهن. كان السرد محدودا وجاريا على وقع آثار الجائحة، قبل أن يتم استدعاء المخطوطة كحافز خطابي رئيس، أعاد تمثيل الواقعة المسرودة ومنحها إمكانات نصية ساهمت في إثراء رهان الرواية، وفي توسيع مجالها التعبيري بأجناس ونصوص وشذرات معرفية متنوعة (القرآن، الحديث، الشعر، الخطبة، الكرامات، الرسائل والمذكرات، مسائل الفقه والفلسفة، قصص العشق). وبدلا من اعتبار الكتابة الروائية نتاج الوقائع المسرودة بوجه أو آخر نحو غائية معينة، فإنها بمجرد انفتاحها على المخطوطة المتخيلة وترهينها، تتشكل اللحظة الأساسية التي يجري عبرها تكوين الهوية والسيرورة التي تتدفق بمعاني الحياة، رغم ما في الخارج من خوف وانقطاع؛ أي أن مواد الماضي التي تحملها المخطوطة بما هي عناصر ذاكرة وأنماط نظر وعيش وسلوك، قد تمثلت في شخصيات نموذجية ملهمة وباتت مَرْجعا لا زمنيا يستوعب في ديمومته الماضي والمستقبل، بوسعها أن تعيد توجيه أحداث الرواية على نحو يفيد حاجيات الوعي الحاضر. ومن هنا، فإن الرواية لا تتحدد طبيعتها وبنيتها النوعية، إلا بالقياس إلى آليات اشتغال خطابها الداخلي، وبالتالي لا يهم ماذا تحكي هذه الرواية، ولكن كيف تحكيه بشكلٍ يصنع اختلافها ويعرض رؤيتها المغايرة للعالم، وكيف يكون شكل تسريدها معرفة في حد ذاتها تُؤْتى بالتجربة والاعتبار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية