■ يبدو أن الكثير من النقّاد والدارسين – مثلما العامّة – يجدون ولعاً آسراً في الحديث عن نهاية الأشياء وموتها: موت الفلسفة، موت الرواية، موت المؤلّف، موت الإنسان العاقل، إلخ، ويتخذ الحديث في العادة نبرة مأساوية منذرة، ذات صبغة كهنوتية لعلّها تذكّرنا بقرب حلول كارثة بشرية ماحقة، تنفلت فيها كل الضوابط الحاكمة للحياة الإنسانية من عقالها، ويغدو فيها الناس مشتتين مسوقين بدفع عوامل كونية غامضة، أو سايكولوجية قاتلة، وربما يمكن مشابهة هذا الوضع البشري مع ما حصل في باكورة الألفية الثالثة، وما رافقها من التبشير بنهاية العالم، بسبب معضلة الأصفار الخاصة بسنة 2000.
لكن دعونا الآن نبقى في فضاء الرواية. ليس القول بموت الرواية (والأدب بعامة) موضوعا جديدا أو غير مطروق من قبل؛ فقد تواترت النبوءات المنذرة بموت الرواية منذ بواكير الحداثة الروائية، عقب الحرب العالمية الأولى، ثم تعاظمت تلك النبوءات وعلت نبرتها في العقود اللاحقة، وغدا في عداد المواضعات الشائعة، أن الرواية الحديثة فتحت بوابة الموت أمام الفن الروائي، الذي كان موطّد الأركان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. يمكن – مثلاً – قراءة العبارات الافتتاحية التالية التي كتبها الناقد الأدبي الراحل ذائع الصيت فرانك كيرمود، قبل ما يزيد على الخمسين سنة خلت، وهي منشورة في سياق مقالة بعـــنوان (حياة الرواية وموتها Life and Dath of the Novel ) في (مراجعة نيويورك للكتب) بتأريخ 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1965 :إن القدر الخاص للرواية – باعتبارها نوعاً أدبياً – هو أن تنتهي دوماً إلى حالة الإحتضار، والسبب الجوهري وراء هذا الأمر هو الإدراك الواعي والدائم للروائيين والقرّاء الأكثر ذكاءً بتلك الفجوة، المحشوةّ سخفاً، التي لا تنفكّ تتّسع بين العالم، على الشاكلة التي يبدو بها لنا، وبين ذلك العالم المفترض في الروايات.
بالطبع وحدهم الروائيون وقرّاؤهم الأكثر ذكاء هم من يتجرّأ على التصريح باحتضار الرواية؛ في حين تبدو الغالبية من العامة، سعيدة بما يُتاحُ لها قراءته من الروايات التي تحوز الرؤى والمثابات الرئيسية للفن الروائي – تلك المعالم الجوهرية للفن الروائي التي دعاها سكوت (المقصود هو السير والتر سكوت Walter Scott، المترجمة) بأنها (موطـــن الرواية) في سياق حديثه عن الرواية الإنكليزية في القرن الثامن عشر.
كان هذا حديثاً قبل ما يزيد على النصف قرن من الزمان؛ ولكن الرواية لم تحتضر ولم تمت، بل ازدهرت وتنوعت أنماطها، ولا أحسبها ستموت أبداً.
يحصل دوماً عقب كل انعطافة في الشكل الروائي، التبشير باحتضار الرواية وموتها الوشيك، في توهّم واضح بأن الشكل الروائي المستجد سيكون نوعاً فنياً متمايزاً عن الرواية السابقة، إلى حدّ يكفي لإعادة توصيفه بوصف جديد مختلف عن الرواية؛ وهو الأمر الذي أثبت دوماً أنه محض هوس عابر باجتراح المخالفة، والخروج على السياقات الفنية المعتمدة، بتأثير دافع نفسيّ يرى في المخالفة نوعاً من الانغماس في روح التغيير الحداثي الثوري.
إن المآل الذي انتهت إليه الرواية المعاصرة، هو البرهان الأعظم على خطل القول بموت الرواية؛ إذ تبدو الرواية المعاصرة أقرب إلى تأكيد الشكل الكلاسيكي في الرواية، مع تطعيمه بأشكال سردية حداثية فرضتها التغيرات التقنية التي جاءت بها الثورة الرقمية، وكذلك المعضلات الإشكالية غير المسبوقة في الوضع البشري بتأثير تلك الإشكاليات.
الرواية حيّة باقية لن تموت، وليس هذا ضرباً من التفكير الرغائبي، بقدر ما هو تأكيد لحاجات بشرية لها جوانبها البراغماتية، وإن كانت تتطلّع إلى مثابات مثالية ضرورية لبقاء الجنس البشري، واستدامته وسط ظروف صراعية معقّدة تعاكس ارتقاء حياة الكائن البشري في الجوانب العقلية والنفسية والروحية.
الروائي المعاصر في القرن الحادي والعشرين بخاصة، لم يَعُد يماثل الحاوي الذي لا يجيد سوى ملاعبة اللغة والشكلانيات السردية، التي تتقنّع بقناع المستحدثات السردية الزائفة، بقدر ما صار هذا الروائي قارئاً منقّباً في المستحدثات العلمية والتقنية، والفتوحات الثورية التي جاءت بها الثورة الرقمية.
تمثّل الرواية المعاصرة (وهي رواية القرن الحادي والعشرين بالضرورة) انعطافة في فنون السرد يمكن وصفها بأنها ثورية؛ فقد جاءت هذه الرواية في أعقاب حقبة ملتبسة سادت فيها رواية ما بعد الحداثة، ولم يتورّع الروائيون في تجريب كلّ أسلحتهم السردية في المضمار «ما بعد الحداثي»، وتوظيف كلّ المبتدعات الفكرية التي جاءت بها المدارس الأدبية التي استحالت في ما بعدُ إلى أصوليات راسخة على شاكلة (البنيوية الفرنسية، الشكلانية، التفكيكية وما بعد التفكيك، السيميوطيقا، مستغلقات الهرمنيوطيقا وملاعباتها اللغوية)، والغريب في أمر هذه المستحدثات، أن نجمها راح يتطاول ويطغى في ساحتنا العربية، في الوقت الذي طالها خفوت كبح من جذوتها وتغوّلها في ديارها الأصلية، حيث منابعها التي انبثقت منها، وترتّب الأمر لاحقاً بأنّ صارت «مواريث ما بعد الحداثة الروائية» تتشكّل في خلاصة تشير إلى أن الرواية المعاصرة تشهد نوعاً من انزياح نحو التقاليد الكلاسيكية لرواية القرن التاسع عشر، وبعض أنماط الرواية الحديثة، التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين، مع تطعيم محسوب للجسم الروائي الكلاسيكي بكتلة معرفية مغلّفة بنوع من أنواع السرد.
الخلاصة هنا هي أن الروائي المعاصر في القرن الحادي والعشرين بخاصة، لم يَعُد يماثل الحاوي الذي لا يجيد سوى ملاعبة اللغة والشكلانيات السردية، التي تتقنّع بقناع المستحدثات السردية الزائفة، بقدر ما صار هذا الروائي قارئاً منقّباً في المستحدثات العلمية والتقنية، والفتوحات الثورية التي جاءت بها الثورة الرقمية. إن دراسة الرواية المعاصرة نشاط مدهش بمثل ما هو فعالية تبعث على التحدي، بخاصة أن الرواية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين صارت لها ظلالها المنعكسة على مجمل الثقافة الشعبية، ووسائل الإعلام، والهياكل المؤسساتية، والهياكل التعليمية (حيث أصبحت الروايات المعاصرة تدرج بصورة مستديمة في المناهج الدراسية في المدارس والجامعات)، ولم تعُد الرواية المعاصرة محض اشتغال نخبوي كلاسيكي. هناك سؤال جوهري يقع في قلب أي مبحث يتناول رواية القرن العشرين: ما الذي نعنيه بمفردة (المعاصرة ؟)، وكيف يمكننا تتبّع مسار الانزياحات الثقافية التي ترافقت مع هذه الرواية؟
يمثل كتاب «دليل راوتليدج المرجعي إلى الرواية الأدبية في القرن الحادي والعشرين» إصداراً مميزاً، فهو يتخلى غالبا عن الرطانة المعهودة في المباحث الأدبية الأكاديمية؛ إذ يتناول الكتاب مباحثه العديدة بطريقة ممتعة، تجعله قريباً من الباحث الأكاديمي والطالب الجامعي، والقارئ الشغوف بالرواية. يتشكّل هيكل الكتاب من مقدّمة شاملة كتبها محرّرا الكتاب، تليها أربعة أقسام مميزة: يتناول القسم الأول الموسوم بعنوان (الأشكال الروائية) كلاً من المباحث التالية: الرواية الرقمية (المتداولة على الشبكة الإلكترونية)، العولمة، رواية السيرة الذاتية، التجريب الروائي، الملهاة (الكوميديا)، الميتافكشن، الرواية الرعوية، الواقعيات الروائية، الرواية الغرافيكية. أما القسم الثاني الذي جاء بعنوان (الهويات الروائية) فقد ضمّ المباحث التالية: رواية البريطانيين السود، العائلة، الدين، الشتات (الدياسبورا)، الرواية الهندية المكتوبة بالإنكليزية، الرواية الأيرلندية الشمالية، الحيوانات. جاء القسم الثالث من الكتاب بعنوان (تشظيات روائية) وتناول المباحث التالية: العالم الرقمي، الفضاء الإنساني، الانزياح، المنفى، التمويل، رواية 11 سبتمبر، الحرب على الإرهاب، الماضي، الأمل؛ أما الفصل الأخير فقد ضمّ (دراسة حالات) محدّدة لروائيين معاصرين ذاع صيتهم في القرن الحادي والعشرين، وهؤلاء هم: أفضل الروائيين البريطانيين الشباب، هاري كونزرو، جينيفر إيغان، ديفيد ميتشيل، جوناثان ليثيم، آلي سميث، أي. إل. كينيدي، هيلاري مانتل، مارلين روبنسون، كولسون وايتهد.
يبدو واضحاً من سياق المباحث التي تناولها الكتاب، أنه ابتعد عن الدراسات الأدبية الكلاسيكية، التي ترى في الرواية منطقة قائمة بذاتها ومكتفية بذاتها؛ إذ نلمح في هذه العناوين أنها صارت أقرب إلى المباحث التي تتناولها الدراسات الثقافية، إلى جانب تأريخ الأفكار، ويمكن الكشف عن هذا الملمح المميز في الكتاب عبر الإشارة إلى المباحث التالية:
– الهوية، وبضمنها الدراسات الخاصة بالعِرق، والجنسانية، والطبقة، والدين في القرن الحادي والعشرين.
– تأثير كلّ من التقنية، والإرهاب، والحراك الإنساني، والاقتصاد المعولم على العالم المعاصر، وبالتبعية على الأدب المعاصر (والرواية المعاصرة بخاصة).
– تناول شكل وصيغة الأشكال المستحدثة (أو المعدّلة) في الرواية الأدبية السائدة في القرن الحادي والعشرين، وكذلك تحليل الأنواع الروائية الراسخة مثل الرواية الرعوية، الرواية الغرافيكية، ورواية الكتابة الفكاهية (الكوميدية)، فضلاً عن بيان الكيفية التي تمّ بها تعديل شكل هذه الروايات في السنوات الأخيرة.
ما عادت الرواية المعاصرة للقرن الحادي والعشرين هيكلاً أدبياً يتأثر بالمستجدات الحاصلة في العالم على كلّ الأصعدة بعد فترة طويلة؛ بل صار تأثير هذه المستجدات على الرواية المعاصرة أقرب إلى التأثير المتزامن الذي نشهده منعكساً فيها، وليست الأمثلة على هذه الحقيقة قليلة؛ فالانعطافات الثورية الحاصلة في ميدان الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي – على سبيل المثال – باتت تلقى صداها السريع في الأعمال الروائية التي يكتبها البعض من أبرز روائيي العالم (إيان ماك إيوان مثالاً)، وقد أشار محررا الكتاب إلى هذه الحقيقة فكتبا في تقديمهم له:
إن تحرير كتاب على هذه الشاكلة، تجربة يتعلّم منها المرء الكثير؛ فقد اكتشفنا أفكاراً جديدة مثلما اكتشفنا نصوصاً ونظريات وتوجهاتٍ أدبية جديدة، ونحن نعمل على تحرير هذه الفصول المدهشة. استغرق العمل على مشروع هذا الكتاب وقتاً ليس قصيرا، وفي الفسحة الزمنية الفاصلة بين تحرير الكتاب ونشره شهدت الخريطة الأدبية تحولات جذرية، وبطرق جديدة تبعث على الدهشة، وقد بذل المشاركون في هذا الكتاب أعظم الجهود الممكنة للتنبه إلى هذه التغيرات وتعديل مخطوطاتهم بما يكفل استجابتها لهذه التغيرات الحاصلة في الميدان الروائي.
يوفّر هذا الكتاب خريطة من الموضوعات النقدية ذات الأهمية الجوهرية، لفهم رواية القرن الحادي والعشرين، كما يكشف الكتاب النقاب عن جوانب واتجاهات حديثة في تطوّر هذا الحقل الأدبي، الذي بات أقرب للحقل الثقافي العام؛ إذ تشتبك فيه الاهتمامات العلمية والأدبية والتقنية والفكرية، بكلّ ألوانها ومناشطها، حتى ليصحّ القول بأن الرواية باتت تصلح لقول (أي شيء وكلّ شيء) على حدّ تعبير روبرت إيغلستون أحد محرّري الكتاب.
من المفيد هنا الإشارة إلى أن روبرت إيغلستون، هو مؤلف كتب عديدة منها الكتاب المهم «الرواية المعاصرة: مقدّمة وجيزة» الذي صدر عن جامعة أكسفورد ضمن سلسلتها الشهيرة المعروفة بِـ (مقدّمات وجيزة)، وكان الكتاب قد صدر مترجماً إلى اللغة العربية ضمن مترجمات دار (المدى) العراقية عام 2016.
عنوان الكتاب: «دليل راوتليدج المرجعي للرواية الأدبية
في القرن الحادي والعشرين»
The Routledge Companion to Twenty – First
Literary Fiction
تحرير : روبرت إيغلستون
Robert Eaglestone
الناشر : دار نشر راوتليدج
عدد الصفحات : 474
سنة النشر : 2018
٭ كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن
بورك قلمك ياسيدة المقال العربي الرصين..
مقال رائع يستحق القراءة
واشكرك على كتاب قد أكملت قراءته منذ أيام بعنوان فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة وقد استمتعت به كثيرا
تمنيت لو أضفت بعض الأسماء الذين لهم ثقل مثل إبراهيم الكوني وواسيني الأعرج ودان براون
وبارك الله فيك على مجهودك الرائع
وننتظر منك المزيد
تقول السيدة الكاتبة بثقة واضحة:
(بالطبع وحدهم الروائيون وقرّاؤهم الأكثر ذكاء هم من يتجرّأ على التصريح باحتضار الرواية)…
على الخلاف ممن ليس لديهم سوى المديح الأعمى، هذا القول الذي يطفح بفكرة “الاحتكارية المتعالية” ليس صحيحا إطلاقا… أهم شاعرين معاصرين في العالم العربي، الغائب محمود درويش والحاضر أدونيس (رغم اختلافي الشديد معه في قضايا السياسة والثورة)، كانا قد صرحا في أكثر من مناسبة بأن الرواية مآلها الاندثار لأنها مجرد ضياع وقت وهدر للطاقة… !!!