الرواية والتجريب والإدهاش

يتوجه الكاتب الروائي عادة إلى جمهور محدد، محاولا تلبية رغباته، ويظهر توجه الكاتب نحو هذا الجمهور أو ذاك -على تفاوت فعاليته أو نجاحه – من خلال أدلة معبرة مثل مستوى اللغة، والمفردات الشائعة أو المتخصصة. كما توجد مؤثرات أخرى، منها نوعية الجمهور المستهدف، هل هو النخبوي أم الشعبي، والنوع الأدبي المستخدم، فالرواية البوليسية أكثر شعبية وقبولا من الروايات الفلسفية، وأيضا تساهم عتبات النص في توصيل الرسالة مثل العنوان والغلاف. ولكن مهما كان الطابع الافتراضي للمرسل إليه (الجمهور)، وحجم التغير الذي يمكن أن يتعرض له مع الزمن، فإن المرسل إليه يبقى كائنا حقيقيا مكوَّنا من جمهور قابل فعلا لقراءة الكتاب، ويمكن معرفة ذلك من خلال الأبحاث الحديثة في تحليل عادات الناس وتوجهاتهم في القراءة، وغالبية الكتّاب يتوخون جمهورا افتراضيا، يعرفون ما يريد منهم، والكاتب الواعي هو الذي يمتلك توجها فكريا وفنيا، يطمح إلى توصيله، لا أن يغازل عواطف المراهقين، أو يثير غرائز القارئ، أو يحصر نفسه في الموضوعات المألوفة، غير ساع إلى تنوير القارئ، ولا إضافة الجديد له، أو جعله يطرح الأسئلة، وينظر للحياة والقضايا بشكل مختلف، أو على الأقل يستطيع قراءة العلاقات بين الناس بفهم أعمق، ويتجاوز مرحلة الانفعالية، ويكتسب المزيد من الخبرات الاجتماعية.
وقد ينقلب اتجاه الاتصال فالمرسل إليه أو المتلقي يمكن أن يصبح بدوره مرسلا، في عملية أشبه بالارتجاع، عندما يعلق القارئ أو الناقد، أو يدخل في حوار مباشر مع القراء، عندما يلتقيهم، أو يراسلونه، مما يفيد طرفي الاتصال: الكاتب والقارئ.
وستظل الرواية ـ وفقا لعلم الاتصال- حاملة لرسائل عديدة، يمكن استكناه أبرزها في القراءة الأولى، وقد تحتاج إلى قراءات أخرى من أجل مزيد من الفهم، وكما أشير في الاقتباس السابق، فإن الرسائل تكون مبثوثة في البنية ذاتها: الشخصية، الموقف، الحوار، إلخ، ما يستدعي التأويل والتفسير، وهناك نصوص روائية تستدعي دراسات عديدة، ولا يكفيها مدخل واحد أو منهجية واحدة لفهمها، وقد يعكف عليها النقاد، كلٌ يقرأها من زاويته، ويكتشف المزيد من الرسائل في متنها.

ويمكن للروائي أن يعمد إلى تعديل البنية السردية، مستفيدا من الأجناس الأدبية الأخرى، فالتجريب حق مشروع له، ويتوقف نجاحه على قدرته على تكوين بنية جديدة تحل محل البنى القديمة (المعلومة والمنتشرة)، على أن تتميز بكفاءة مثلها، أو أعلى منها، في نقل الرسالة النصية، أو تقديم بيان جمالي جديد. وهنا يكون مناط النص المفتوح والنص المغلق، فالأخير كلما كان مغلقا، كان أيسر في التكوين والتلقي، أو في التشفير وفك الشيفرة. فالنموذج الجمالي الماثل في وعي المؤلف يمكن أن يصبح مثل العملة المستهلكة، التي فقدت رصيدها الذهبي في الوعي الجمالي للمتلقين، ما يستلزم البحث عن شكل أدبي جديد، وهذا يتوقف على ضرورة اجتماعية وتداولية، في ما يسمى نقديا «التحرر من الآلية»، فالرواية تستخدم منطق الحياة، وتفتته، وتفككه، لتقيم منه عجينة جديدة، تدهشنا بما يمكن أن تصل إليه من أعماق، لا يتأتى بلوغها بالحكي المعتاد. وقد شهدت الرواية العالمية – والرواية العربية أيضا- تجريبا واسعا، في الشكل والمضمون، فمن تقليدية البناء إلى البنية المفككة زمنيا فابتدأت روايات بالخاتمة، ثم عادت بنا الأحداث إلى البداية، وثمة روايات بهتت فيها الشخصيات أمام هيمنة المكان الذي فرض سطوته على الجميع، كما في روايات الصحراء الجافة القاسية، حيث لا يمكن تحدي البيئة، وإنما الرضوخ لها، والتكيف مع أجوائها، وإلا سيكون الموت متربصا بمن لا يفهم منطقها. وشهدت الرواية تنوعا كبيرا في المضامين، فصارت هناك رؤى عديدة لقراءة السرديات التراثية وإعادة توظيفها بدلالات جديدة، كما عبّرت الروايات عن مجتمعات مختلفة: ريفية وحضرية، واتجاهات فكرية وفلسفية عديدة.
ويمكن أن تمتاح الرواية من علوم أخرى، مثل الفلسفة والتاريخ وتاريخ الأفكار وعلم النفس والمجتمع، وساعتها سيكون سياق المعرفة في نطاق سردي، يبدو في سلوك الشخصيات، والفكر المؤطر والمنبث في ثنايا المتن. وهناك روايات عربية وأجنبية قدمت لنا أفكارا وفلسفات – كانت جافة في مصادرها العلمية- فلما صيغت روائيا تحولت إلى معلومات واضحة، بسياق ورؤية خلاقة مبدعة، مثل روايات الخيال العلمي، والروايات النفسية، والروايات السياسية، والاجتماعية، والرواية الذاتية، وكلها تضيف الجديد إلى القارئ، وتفتح آفاقا للوشائج بين الرواية والعلوم والمعارف الأخرى.

فالعلاقة بين الرواية والمعرفة والخطاب، تتأتى من الانطلاق في دراسة الرواية من نصها المدوّن، والوقوف على مضمونه وطروحاته، وتحليل بنيته على مستوى الشخصيات والمكان والزمان، وحركة الشخصيات في فضائها، وتتابع الأحداث في تراكمها، ومن ثم إعمال التأويل للوصول إلى الدلالات، التي لا يمكن اكتمالها، إلا من خلال التطلع إلى ما هو خارج النص، على المستوى الإنساني وهموم البشر وقضاياهم، ما يعني ولوج منهجيات النقد الثقافي والاجتماعي، وإعمال منهج النقد النفسي، بدراسة للشخصيات، وما تنطوي عليه من مشكلات نفسية، وكل هذا يثري القارئ، عندما يقرأ نقدا يرشده ويكشف مساحات غابت عنه في الرواية. ومن المهم إدراك أن الرواية -في المبتغى والنهاية- نص أدبي تخييلي، يتجاوز سائر الخطابات العلمية والمعرفية، بطابعها المباشر، ويقدم المعرفة في إطار من التخييل والبلاغة السردية، وعلى القارئ أن يضع بين قوسين ما يعرفه عن الحقيقي في العالم العملي، بمساعدة علامات تفرض عليه كشف هوية التخييل وتبني الموقف المناسب. ولا شك أن التواصل التخييلي، فالقارئ يدرك قواعد اللعبة التخييلية، حتى لا يسقط في إشكالية المفارقة بين الحقيقة والخيال، وفق نظام الإحالة الخاص في كل نوع من الرواية، من أجل تمييز كل نوع أدبي.
فمثلا الرواية العجائبية تختلف عن الرواية الواقعية، والرواية الاجتماعية تخالف في قواعدها الرواية الرومانسية، ولكن في إطار قراءة الرواية وفق المنحى الإنساني، سنجد أن مختلف اتجاهات الرواية يصب في ما هو إنساني، لأنها تعبر عن ذوات، وعوالم، ومشكلات، وقضايا إنسانية، حتى لو كانت رواية عجائبية تتناول الجن أو الكائنات الخرافية، أو الرحلات الأسطورية، فكلها جزء من خيالات الإنسان، وبعضها له نصيب من الواقع والحقيقة وإن لم ندركه. أما مفهوم قواعد اللعبة فهو ذلك الاتفاق الإيهامي الذي يقيمه الروائي مع القارئ، منذ الأسطر الأولى في الرواية، وربما منذ غلافها، بغية جذب القارئ وإدخاله في عالم الرواية منذ البدء. فالروائي يتظاهر بتصديق ما يرويه؛ ويطلب من القارئ أن يقرأ قصته متظاهرا نسيان أن الأمر متعلق بحكاية خيالية، وحينما يطلب من القارئ أن يقرأ قصته وفقا للعرف المقر باعتبارها قصة متخيلة حقيقية، فإنه يعطيه الصلاحية ويشجعه على أن يُدخِل إلى القصة الافتراضات المسبقة التي ينغمس فيها في الحياة، كما يدخل رؤيته اليومية.
فنحن هنا بصدد حاكٍ يستغل كل مهاراته في البناء السردي، ويزعم للقارئ أن الصدق في ما يرويه، والقارئ يتلقى المبثوث في الرواية ، ثم يقارنه بخبراته المتراكمة وفي الحياة اليومية؛ مدركا أنه إزاء عمل نابع من خيال المؤلف، وتكمن براعة المؤلف في قدرته على تحقيق أعلى درجات الإيهام، من أجل إقناع القارئ بصدقية ما يقول، على الرغم من أن اللعبة الروائية من أولها إلى آخرها هي خيال، ربما يلامس الحقيقة كما في الروايات الواقعية والاجتماعية، وربما ينأى عنها تماما كما في روايات الخيال العلمي، والأسطوري.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية