بعد وقت قصير من إعادة انتخاب ثاتشر بأغلبية كاسحة عام 1983، التأم شمل اليسار الاسكوتلندي لتضميد وعلاج جروحهم. كان الجو متوترا، سياسة الهوية أمام الوعي الطبقي. والسياسة الموحدة اللامركزية، التي وفّرت أرضا مشتركة للجميع تتعرض للضغط من جميع الجهات. لم يحبها أحد، ولم يذكرها أحد بكلمة طيبة واحدة. والعبارة الأخيرة مقتبسة من عمل بانورامي بعنوان «والأرض منبسطة بهدوء» لجيمس روبرتسون، وهي رواية عن اسكوتلندا في فترة ما بعد الحرب، وربما هي أوسع مشروع روائي تاريخي ظهر في بريطانيا في ذلك القرن. كان واجب روبرتسون أن يوسع مجال الساغا المحلية، لحكاية الحكم الذاتي، ويرسمها على لوحة اسكوتلندية نابضة بالحياة، تبدأ من «الأرض المشتركة» التي وفرها الدستور، وتصل حتى ضرورات الأمة الحديثة. ونتيجة هذه المحاولة لحياكة كل زوايا الصورة، بكل ما فيها من حقائق وخيال وكلام عن هوية البلد، للتعبير بشكل صحيح عن تاريخ اسكوتلندا وسرديتها، توفرت حساسية سياسية وعاطفية، شكلت العصر المعروف باسم عصر التحولات الودية. وكانت الحكاية غامضة، وفيها تعامل روبرتسون مع جميع أشكال المصاعب، لأنه لم يتمكن من الاعتماد على جماهير قرائه – حتى الاسكوتلنديين منهم – من أجل تحديد المفاصل التاريخية الأساسية، وليضفي معنى دراميا على الشخصيات.
وفي الرواية عدة أدوات معقدة ضمن إطار واحد، ولكن حتى الواقع الفني للحكاية الأساسية كان يبدو مبهما للقراء، ممن ليست لديهم معرفة بالتاريخ الاسكوتلندي المعاصر. وهذا جعل من تسييس التاريخ ضرورة، ولذلك لا تبدو «والأرض منبسطة بهدوء» رواية عن التاريخ، وإنما هي صناعة للتاريخ، إنتاج وإعادة ترتيب له بشكل قصة. ويمكن أن تقول إن الجزء الأكبر من رواية روبرتسون لا تضفي دراما أو تعيد رواية الأحداث المعروفة للقارئ، ولكنها تضيف لها وتفسرها بطريقة مبتكرة. بهذا الخصوص، تحمل الرواية في داخلها مشكلة استعادة التاريخ الوطني، الذي اعتمدته لتمثيله. ولذلك هي رواية معلومات عامة، تضع الظروف الداعمة للانفصال غير المرحب به والمسكوت عنه أمام جمهور عريض. ولكن طموح روبرتسون التاريخي بأبعاده الروائية المتوازنة، يجعل تفاصيل عمله، الشخصيات والوقائع، مشبعة بالمعاني والصور.
وفي مشهد مبكر، أمكن للشخصية المركزية أن تتكلم من أجل القارئ غير المقتنع بهذه المقاربة، كي ينظر لما يحيط به ويلاحظ أنه «مولع بنقاش سياسي لم يمر به من قبل، ولاسيما أن الموضوع حول الهوية الوطنية وتقرير المصير» كما قال روبرتسون، هذه الشبكة التي يتداخل خلالها، في بعض الأحيان، السياسة الاسكوتلندية والسرد، لها علاقة بلحظتنا التاريخية. وكما ورد في دراسات متفرقة، إن الرواية الاسكوتلندية المعاصرة واستقبال النقد لها، تأثرت بقوة بالظرف المرافق للمناقشات من أجل الدستور (هيمز، 2012 هيمز، 2013) وبالنظر للروابط، بين التطورات الأدبية والسياسة الاسكوتلندية، التي طبعت العقود الأخيرة القليلة، واجه الباحثون – مثل الروائيين الاسكوتلنديين – نطاقا من التحديات الصعبة التي تتخللها مساحات غامضة.
لم يكن هناك صوت دقات قوية تعلن عن وجود قلب أيديولوجي يحرك مشروع المطالبة بالحكم الذاتي، ولم يتحكم اللاهوت السياسي بالاتجاه البراغماتي لحركة إصلاح المؤسسات.
ويمكن القول إنهم واجهوا خطابا أدبيا نقديا مستقرا، يعمل على إنشاء روابط واضحة ومتينة عبر المساحات نفسها المشكوك بها، وذلك بخطوط يقودها بارادايم «اللامركزية الثقافية». وعن هذا البارادايم يقول كيرنس كريغ :»إن اقترعت اسكوتلندا لصالح الارتباط السياسي المحدود عام 1977، فقد بشرت في وقت سابق باللامركزية الثقافية، سواء في مقالات الأصوات الإسكوتلندية الراديكالية – من جيمس كيلمان وحتى ماثيو فيت، ومن جانيس غالواي حتى آلي سميث – أو بواسطة تدوين معطيات التاريخ الاسكوتلندي في الثمانينيات والتسعينيات. وفي كل الحالات كانت هناك إضافات جديدة لها معنى، تغني الثقافة الاسكوتلندية القديمة وتزيد من ثقتها بنفسها وإنجازاتها (كريغ) .
وعلى غلاف عدد عام 1999 من «إدنبرة ريفيو» يعلن الروائي دانكان ماكلين «هناك برلمان من الروايات منذ سنوات. بينما برلمان السياسيين فهو متخلف عنه بسنوات». وهذه السردية المعاكسة هي مكان تلتقي فيه اتجاهات النقد الأدبي الاسكوتلندي، ولكن من غير الواضح إن كانت أولوية الثقافة مسألة بمرتبة سبب أو انزياح أو حضانة – بمعنى أن الثقافة تقود السياسة، أو الثقافة تحل محل السياسة، أو أن الثقافة هي سياسة أيضا. ومن وقائع ورشة المعايير، بما تضمنته من بحوث مهمة ولقاءات مع الكتاب والمرجعيات الأكاديمية والسياسيين، نلاحظ اهتمام مشروع «سرد لامركزية إسكوتلندا» بالخط الأدبي وعلاقته بالحوار من أجل الدستور (الذي ركز منذ أواخر الستينيات على التمثيل والمشروعية و«الهوية»)، وفسر كيف أن لامركزية اسكوتلندا أدارت نفسها وتبلورت بشكل مشروع ثقافي.
السرديات المتنافسة
لم يكن هناك صوت دقات قوية تعلن عن وجود قلب أيديولوجي يحرك مشروع المطالبة بالحكم الذاتي، ولم يتحكم اللاهوت السياسي بالاتجاه البراغماتي لحركة إصلاح المؤسسات. وقد أضفى ذلك، على معنى اللامركزية، المرونة اللازمة، وإلى حد ما عدم الاستقرار، وتحول المشروع إلى سياسة معرفة وموضوع للمعرفة في الوقت نفسه. وكانت اللامركزية دائما عرضة لإعادة التوجيه والتعريف كي تعري السلطة المركزية وتحرمها من غطائها. وعملت على اكتشاف سردية أقوى والتخلي عن عمليات التبييض والترقيع. وواحد من أهم نقاط الإضاءة في هذا الاتجاه، الذي تحكم بخطابه، هو تباعد الجانبين «الثقافي» و«العلم – اجتماعي» اللذين يشكلان اللامركزية. إن اللامركزية في ثقافة الثمانينيات، بالنسبة لعدة نقاد أدبيين، كانت سباقة في تجديد الديمقراطية. وبكلمات روبرت كروفورد «اللامركزية وتمكين الأمة الأسكوتلندية هما موضوع تخيله الشعراء والكتاب قبل فترة طويلة من عناية السياسيين بهما». ويتجه مؤرخو السياسة وعلماء الاجتماع لتقديم مجموعة مختلفة من التفسيرات، والمتمركزة على سياسة انتخابية وآمال اقتصادية وآليات تعمل بالخفاء لإصلاح المؤسسات في أرجاء المملكة المتحدة (بوغاندور 2001- ميتشيل، 2012- ديفاين 2016 ) وباستثناءات قليلة، وبأدنى الحدود تضع أول مدرسة باعتبارها تقرير كيلبراندون لعام 1973 وهو ما تقدم رواية «لارناك» لألسدير غراي (1981) تفاصيل عنه. ولعل أول محاولة مناسبة وجادة لاستيعاب هذه الحكاية لم تكن لتأتي من التاريخ الأكاديمي، ولكن من رواية روبرتسون المشبعة بالحقائق. مع ذلك ليس الكتاب والنقاد الأدبيين وحدهم من أسهم في اللامركزية بالمعنى الثقافي. ولنأخذ حالة سام غالبريث -عضو مجلس نواب إسكوتلندا والمناصر للاتحاد. بمناسبة تعيينه أول وزير للثقافة في المجلس الإسكوتلندي التنفيذي عام 1999، أخبر غيان براون وشخصيات فنية أخرى معروفة أنه «يرى أن الفنانين جعلوا اللامركزية ممكنة». وبهذا المعنى هناك اتجاه واضح للانفصال، تايخيا وبنيويا، بين مؤسسة «الثقافة» ونشاط الأحزاب السياسية، والكتلة «المدنية» العريضة ومنها هيئة الدستور الاسكوتلندي. لقد بادر الكتاب والفنانون بالتصرف أولا «ورموا كراتهم»، كما يبدو، في حين أن السياسيين حاولوا اللحاق بهم داخل محيط دائرتهم المغلقة. ولكن في الحقيقة إن الانفصال أقرب للسراب. ويمكن أن تشاهد عدة أولويات ترتبط مع «اللامركزية الثقافية» – من ضمنها استعادة الهوية الوطنية الاسكوتلندية والاعتراف بمؤسساتها – وقد كان ذلك حاضرا بقوة في المناقشات المضجرة والتكنوقراطية التي دارت في الوايتهول. لقد أنتج البيروقراطيون عدة مشروعات من أجل اللامركزية، وتوحي بوضوح أنها سياسة.