الرواية والمؤثرون الجدد

حجم الخط
1

ربما نكون على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخ الأدب، وفي الرواية على وجه الخصوص، وقد يكون سعي هذه المقالة الاستشراف أكثر من أي شيء آخر، بناء على مشاهدات محددة في العالمين الحقيقي والافتراضي، وعليه قد تتبلور قواعد هذه المرحلة ورؤاها في السنوات القليلة المقبلة، فيظهر منظّرون وباحثون للخوض في الأسباب والآليّات والمحركات والنتائج، وتبرز نظرية التأثير الجديدة بأبعادها التكنولوجية والنفسيّة والاجتماعية وتصبح عملية التلقي التقليديّة كما نعرفها اليوم أثرا بعد عين.
ظهرت مدارس فنية وأدبيّة عديدة في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين كرد فعل لتغيرات كبيرة عصفت بالمنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية، ثم جاءت الحربان العالميتان وما نتج عنهما من موت ودمار غير مسبوقين، لتعميق هذا التوجه؛ فاختلفت نظرة الفرد لنفسه ولمحيطه، وما يمور به من تجاذبات وتناقضات جعلته يبحث عن معنى جديد لوجوده وموقعه في هذا الكون الشاسع فجاءت المذاهب الجديدة لتعبر عن هذ الاغتراب الذي يعيشه الفنان والمبدع بأدوات مبتكرة وخيال مختلف. في محصلة هذا الطرح نقول، إن هذا التغير جاء نتيجة وليس سببا، جاء كرد فعل وليس فعلا، وعند العودة إلى المرحلة الجديدة التي تحاول هذه المقالة استشرافها، نسأل سؤال المليون ونقول: ما هي نقطة الانعطاف التي هزت وجدان الجمهور، الذي اندفع بكل طاقته خلف هذا النوع من الكتابة؟ أصبحنا نشهد حالات إغماء وتدافع في معارض الكتب وطوابير طويلة في حفلات التوقيع، تحوّل الكاتب أو المؤثر الجديد إلى نجم كبير مثل نجوم السينما، لا يستطيع أن يتحرك من مكان إلى آخر، دون مرافقين وحرّاس. لا شك أنّ هذا أمر جيّد وله دور في ترسيخ فعل القراءة عند الناس، لكن هل ينتهي الأمر عند هذا الحد؟
الجمهور المستهدف
من خلال مشاهداتي في معرض عمان للكتاب واطلاعي على فيديوهات قصيرة لحفلات التوقيع في معارض كتب عربية أقول، إنّ جمهور المؤثرين الجدد هم في الأغلب شريحة واسعة من الشباب والمراهقين. ماذا يجدون في هذه الكتابة؟ وهل هو بالفعل أدب مؤثر، ولماذا أصرّ في هذا الطرح على نعته بالمؤثر؟ ببساطة أقول: إنْ يصل القارئ أو المتلقّي إلى هذا الحدّ من الانبهار والشغف والافتتان بكتاب ما، وإن يصل الجمهور إلى هذا الحدّ من الكثرة والعدد فإنه أدب مؤثر بالنسبة لي بغض النظر عن الحيثيات الأخرى.
محتوى الأدب المؤثر
وهذه نقطة أخرى تستحق الوقوف عندها: ما هي معايير المرحلة المقبلة؟ هل هناك أبعاد إنسانية، أو معرفيّة للأدب المؤثر؟ هل تخاطب العقل وتحترم ذكاء القارئ؟ هل اللغة جزء من العمل وتتفاعل معه صعودا ونزولا، أم هي مجرد وعاء جامد تنقصه المرونة والحيوية؟ هل هناك تكرار في المحتوى شكلا ومضمونا؟ وهل التركيز فقط على جانب التسلية على حساب الجوانب الأخرى؟ أسئلة كثيرة حول القيمة الأدبية والفنيّة لهذه الأعمال. وهنا لنفترض أنها لا تحقق أي شيء مما ذكر (مجرد افتراض تعسفي)، ماذا يمكن أن نقول عنها: تشغل الشباب بأمور بعيدة عن تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، تحاول فرض واقع ثقافي جديد، تجذّر مفهوم المجتمع الاستهلاكي، تسطّح فكرة الإنسانية والطاقة المعرفية.
هل الأدب المؤثر تقليعة عابرة؟
سمعت أحدهم يقول، إنّ الأدب المؤثر مجرد موجة عابرة ونزوة ستختفي بعد أن تزول أسباب ظهورها. لا أتفق تماما مع هذا الرأي؛ فكينونة الفعل الأدبي والثقافي نابعة من وجود جمهور من القراء يتابع ويقرأ ما يُنتج في هذا المجال أو ذاك، وكما يبدو فإنّ هذا الجمهور في ازدياد مستمر، قد تختفي أسماء بعض الكتّاب، لكن في المقابل ستظهر أسماء جديدة تتابع هذا النهج من الكتابة.
جوائز أدبيّة
ومع ظهور جوائز أدبيّة تركز على هذا النوع من الكتابة، فإننا ننتقل إلى المرحلة اللاحقة من حيث استقطاب كتاب جدد في هذا المجال، بحثا عن الشهرة والانتشار، وتشجيع المؤثرين على الاستمرار والبحث عن فضاءات أخرى تثير فضول جمهور القرّاء ونهمهم ورغبتهم بالاقتراب من هذه العوالم، التي يبحث فيها الأدب المؤثر مثل الجريمة والرعب والغموض والإثارة والسحر والشعوذة وعوالم الجن والأرواح.
البعد التكنولوجي
وهذا الأمر له وجهان: الأول وهو سهولة الوصول إلى مصادر المعلومات المتعلقة بمواضيع روايات المؤثرين الجدد، التي تذهب في الأغلب الأعم إلى منحى بات معروفا للجميع، والثاني هو سهولة الوصول إلى الجمهور والدعاية وإطلاق حملات التسويق، من خلال المنصات الاجتماعية التي لا تخطئ هدفها. فالبعد التكنولوجي له تأثير كبير في الانتشار وظهور جمهور من القراء الذين يتواصلون في ما بينهم ويشكّلون مجموعات تقوم بدورها في الترويج والدعاية.
التأثر بثقافات غربية
لم يسبق لي الاطلاع على هذا النوع من الكتابة، سوى في تجربة واحدة فقط، ولم أعرف بوجود مثل هذه الأعمال في كم الروايات الكبير الذي يصدر سنويّا في العالم العربي، سوى في الفترة الأخيرة، وهذا لا ينفي بأي حال من الأحوال جذور هذا الجنس من الفنتازيا في التراث العربي، كما في كتاب السيرة الشعبية لسيف بن ذي يزن، على سبيل المثال. لكنني أعرف من خلال متابعة السينما الغربية أنّ هذا الجنس الروائي حاضر وبقوة في ثقافات أخرى، لأنّ السينما تأخذ من الأدب الشائع في تلك الثقافة، والذي يمكن أن يحقق لها الأرباح. فهل ما نشهده اليوم من تكاثر وتناسل هذا الأدب يأتي من باب التأثر بالأدب الغربي؟ أم هو استحقاق ثقافي لسد النقص الحاصل في المكتبة العربية؟ أم هو تطور طبيعي لمواضيع الكتابة يفرضه الإيقاع الزمني للفعل الثقافي؟
وفي الختام أقول: نحن من نكتب الرواية بشكلها ومواضيعها التقليديّة، صرنا بين حجري الرحى: حجر الذكاء الاصطناعي وحجر المؤثرين الجدد. فالكتابة من خلال الذكاء الاصطناعي باتت أمرا واقعا، وكل من ينكر هذا الأمر- كما كنتُ أنا إلى عهد قريب – عليه أن يعيد النظر في قناعاته، ربما تكون الكتابة الاصطناعية بشكل جزئي في الوقت الحالي، لكنّها لن تراوح مكانها طويلا قبل أن تنتقل إلى المرحلة اللاحقة. ربما ينبغي علينا نحن الكلاسيكيين أن نبدأ البحث عن شغف آخر غير شغف الكتابة ولا أقول عن عمل آخر، لأن العمل يتضمن المردود المادي وليس هناك أيّ مردود ماديّ لغالبية الروائيين الذين أعرفهم. ربما يجب أن نتوقف وننظر للخلف أو ننظر لليمين أو لليسار، يجب أن نفعل شيئا ما قبل أن نجد أنفسنا خارج الزمن.

كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري (مجدي دعيبس) لخص رؤيته في تَخَصُصَّه، إلى مفهوم الوظيفة/العمل/الإنتاج/الراتب تحت عنوان (الرواية والمؤثرون الجدد) https://www.alquds.co.uk/?p=3429585

    وبخصوص واقع الوظيفة، هل يمكن مقارنة ما قام به (قيس سعيد) في تونس، مع ما قام به رئيس (كوريا)

    https://youtu.be/BNPKs2fNdPQ?si=uHL_Adom57nzNsZt

    من إعلان الأحكام العرفية، ولماذا (نجح) البرلمان (الكوري) في إلغاء ما قام به الرئيس، بينما (فشل) البرلمان (التونسي)؟!🫣🤣🤭

اشترك في قائمتنا البريدية