الرّوشكة

الطريقة التي يستعمل بها العامة الكلمات البسيطة قد تكون لمن يشتغل باللسانيات مثار تأمل وتدبر، فعلى الرغم ممّا يقال إنّ الأسماء والكلمات لا شيء وراءها غير أن تسمّي وتعيّن؛ الحقيقة أن وراءها حكمة وتدبرا يمكن أن يوصلاك إلى أعمق النتائج اللسانية، ولم لا الفكرية.
كنت أقف أنتظر دوري لشراء بعض قطع غيار سيارتي، التي أتمت بالعَنَت عقدها الأول؛ وكنت أستمع إلى محاورة بين البائع وزبون بدا أنه لا يفقه من أسماء الآلات شيئا، وكان قد رافقه الميكانيكي ليعينه على تأكيد أنّ القطعة التي يبحثان عنها هي فعلا المطلوبة، فالعِيان للناسي وغير العارف أقوى وسيلة تأكّد.
خرج الميكانيكي وترك صاحبنا لوحده يصارع التعرف على هوية ما سيشتريه. كان البائع قد جلب له قطعة اعتقدها المعنية، لكن صاحبنا قال في حزم: لا يا رجل ليست هذهǃ بل «الرُّوشْكة» التي تتصل بها. فأدرك التاجر المقصود. كلمة روشكة هذه كانت تستعملها جدّتي، رحمة الله عليها، وعرفت من فرط استعمالها أنها كانت تطلقها على كلّ شيء إلكتروني أو كهربائي، كانت بالطبع لا تعرف اسمه الأجنبي، ولا تعرف نطقه حتى بالتحريف كما يفعل كثيرون. كنت أدخل عليها فتقول لي: أيّ ريح طيبة حملتك إليّ يا كبديǃ جئت في موعدك.. تعال.. لقد أرسلك الله في الوقت المناسب.. تقودني من يدي إلى الغرفة التي تضع فيها التلفزيون.. تشير بيدها قائلة: لي روشكة معطوبة من يومين في هذا الجهاز الذي بات أخرس.. ثمّ تقسم بأغلظ الأيمان أنها لا تشاهدها، لكنها حريصة من أجل جدي الذي لا يجد ما يشاهد.. ثم تقول لي: هلاّ أصلحتها.. وتغرقني في لطيف الدعاء.. كان عليّ أن استرشد من جدتي عن العطب حتى أعرف ما تكون الروشكة، وهل أنا قادر حقا على إصلاحها.. ربما اعتقدت جدتي أنّ تعلمي في المعهد، أو في الجامعة يسمحان لي بأن أعرف الأسماء الأعجمية، وما دمت أعرف الأسماء فأنا قادر على إصلاح أيّ عطب في الآلات التي تعينها الأسماء.
إلى حيث الآلة لكي أفهم الروشكة التي بها.. كانت الروشكة مثلا عطبا في زرّ الإنارة أو في جهاز التلفزيون الأبيض والأسود، أو في شيء آخر له علاقة بالكهرباء أو التلفزيون، ولم يكن لجدتي ثلاجة.. ولا مكيّف ولا آلة غاسلة ولو كان لها ذلك، لسمّت كلّ عطب في كلّ شيء منها روشكة.
الرابط بين صاحب السيارة وجدتي أنّهما يستعملان عبارة «روشكة» في تسمية كل قطعة ميكانيكية أو كهربائية مستحدثة، مشغلها آلي أو كهربائي. من الناحية الفلسفية تدخل الروشكة في هذا الاستعمال ضمن ثنائية Type- token التي يكون فيها type معينا للمتصورات المجردة، أو العامة بينما تعين token الأشياء الفعلية الموجودة في الكون، التي تكون عينات من تلك المتصورات. فالروشكة مثلا هي type وتطلق عند جدتي على كثير من الأنواع، يمكن أن تكون زر الكهرباء، أو محول المحطة في التلفزيون القديمة، ويمكن أن يكون عند صاحبنا في مغازة تاجر قطع الغيار قطعة يجهل اسمها المخصوص، فلن تكون الفرامل أو المصابيح أو البلور، بل تكون آلة لها اسم غريب لم يألفه ولم يفهمه فلم يحفظه. الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بيرس يعتبر أنّ مخطوطا ما يحسب بالكلمات الخصوصية Word tokens القابلة للعدّ؛ بينما يحسب رصيد البشر المعجمي بالكلمات العامة Word types القابلة بدورها للعدّ. معنى ذلك أنّ الكلمات التي كتبت في مخطوطة، أو في نصّ كهذا الذي بين يديك الكلمات فيه عينات محققة من معجم يمكن أن نراها في الزاوية اليمنى من أي حاسوب، تحسب الكلمات بقطع النظر عن أنواعها العامة وعن حقولها الدلالية الكبرى. ما يحسب هو «الأشكال الدالة « significant forms للألفاظ العينية Tokens. بينما يحسب الرصيد الذهني للكلام الذي يمتلكه كلّ منّا حسب شبكة خطاطية من الكلم العامة التي خزنّاها على أنّها خطاطية، فنحن لا نخزن في معجمنا الذهني تفاصيل حول الآلات الكهربائية أو الميكانيكية، بل نخزن أشكالا خطاطية عامة عنها ثمّ حين ننشطها لكي نستعملها عند الكلام تنشط على أنّها خطاطات عامة، وإن شئت قلت أنواعا عامة. ليست لجدّتي أنواع خاصة من التسميات التي تتعلق بمكونات التلفزيون وآلاتها وليس للرجل صاحب السيارة علم أيضا بأسماء القطع، حتى يشتريها، هناك عدم اصطلاحي أو معجمي، هو الذي ألجأ جدتي والباحث عن قطع الغيار إلى استعمال هذه العبارة العامة التي تعين كلّ شيء في جهاز التلفزيون وكل شيء في السيارة إنّه لا يمكن أن يعتبر اسم جنس لأنّ اسم الجنس يقع على الأشياء المشتركة من جهة حقائقها العامة وقطع غيار السيارة لا تنتمي كلها إلى حقيقة واحدة. والروشكة ليست اسما للآلة لأنّ أسماء الآلات تشتق على صيغ معلومة لتعين آلة معلومة.

الروشكة شكل بدائي في التسمية والتصور يمكن من خلاله لدارس المعجم أو اللغة أن يعرف كيف كان الإنسان البدائي لا يحتاج إلا كلمات قليلة يسمي بها أشياء كثيرة، لكنه حين شعر بالدعة توسع في الكلمات واكتشف سحرا بهيا هو كرم التعيين: أن تسمي الأشياء كلها بالأسماء الكثيرة بل يمكن أن تسمي الشيء الواحد بتسميات مختلفة هذا إمكان ساحر تتيحه لك الترجمة والانتقال بين الأسماء في كثير من اللغات.

يقول الميكانيكي حين يستمع إلى الزبون وهو يسمي القطعة روشكة: أي روكشة.. لدينا نطقان لكلمة واحدة صارت عبارة روشكة الآن لا نوعا عاما، بل نوعا خاصا فقد بات لها تحققان صوتيان أحدهما فيه تغيير لترتيب أصوات الثاني. لكن من أين جاءت الروشكة هذه؟
الروشكة rosca تعني في الاسبانية اللولب ومنه ربما سميت البراغي الملولبة روشكة وهو الشكل الأكثر استعمالا في الميكانيكا، ومن الممكن أنه انتقل إلى العربية من الإسبانية أو البرتغالية، أو كان مع المورسكيين الذين طوروا عبر التاريخ الفلاحة وتقنياتها في بلادنا. المهمّ أن هجرة العبارة من مواطنها الأصلية لم يحدث بلا تغيير وبلا استمرار، بل اشتق منه التونسيون عبارات تدل على التجويد والحذق (روشكها) بمعنى جودها وفي المعنى المجرد والجمالي (تو نروشكلك أمورك» سوف أرتب لك وضعيتك. ويبدو أنّ البرتغالية تستعمل الاسم في مجال التقنيات الأولى لأنه يطلق على البريمة وسن اللولب.
فهمنا أن الروشكة كانت تغطي تسميات لأشياء تقنية بسيطة، وأنّ استعمالها يعكس لدى مستعمليها تصورا أوليا بسيطا غير معقد للآلات التي هو مضطر للتعامل معها. المسألة التصورية يمكن أن تنعكس على صعيد الاستعمال الهش للتسميات. حين يريد المتكلم أن يختصر أسماء كثيرة في عبارة واحدة فليس في ذلك اقتصاد إنما يظهر أنّ حفظ الأسماء ليس مجرد خزن لها في الذاكرة بقطع النظر عن معرفة صاحبها لكنهها. إنّ الروشكة هي تسمية مجردة مغرقة في الخطاطية تشبه مثلا شيئا، لكنّها أكثر تخصيصا منها فهي شيء ينتمي إلى مجال قطع الغيار، أو شيء ينتمي إلى مجال الكهرباء مثلا لكنّه لا ينتمي إلى مجالات أخرى غير المجالات التي تستعمل فيها البراغي وفكاكاتها.
لكن أن تقول لي جدتي روشكة فأفهم فهما عاما فهذا يعني أنّي واضعتها على القليل الذي بيننا ويواصل التواصل والتفاهم. هذه المواضعة الدنيا بيني وبين جدتي هي التي جعلتني أفهم ما تريد، وأنّها مثلا تريدني أن أصلح جهاز التلفزيون وليس مثلا أنبوب الماء في الخارج، على الرغم من أنّ العبارة الإسبانية الأصلية يمكن أن تطلق على جزء منها. التصور الخطاطي الذي لي والذي لجدتي عن الروشكة مختلف لكنّه ليس مواضعة تامة. في ذهني حين أسمع الروشكة هي شيء مبهم أحتاج بيانه بأن تريني جدتي موقعه. لكن ما في ذهن جدتي شيء لا إبهام فيه ولا غموض، هي تعرف أنّ آلة ما في التلفزيون هي التي تعطل عملها وأنّ تلك الآلة مهما كانت لا تخرج عن أن تسمى روشكة فوعيها بالآلات الإلكترونية في التلفزيون أو الكهرباء وأنّها في رأيها متشابهة لها وظيفة واحدة الإشعال أو تشغيل التلفزيون والدليل على تشابهها وحدة وظيفتها لديها. الأمر نفسه ليس في ذهن الرجل الباحث مع الميكانيكي عن الآلة لأنّه يحملها بين يديه فهي من حيث هي وجود عيني خارجي، أو عينة معلومة وقد يعرف مكانها ووظيفتها لكنها بما هي تسمية مخصوصة مرتبطة بنظام اشتغال السيارة تظل مبهمة لذلك يميل الرجل إلى تسمية عامة.
الروشكة شكل بدائي في التسمية والتصور يمكن من خلاله لدارس المعجم أو اللغة أن يعرف كيف كان الإنسان البدائي لا يحتاج إلا كلمات قليلة يسمي بها أشياء كثيرة، لكنه حين شعر بالدعة توسع في الكلمات واكتشف سحرا بهيا هو كرم التعيين: أن تسمي الأشياء كلها بالأسماء الكثيرة بل يمكن أن تسمي الشيء الواحد بتسميات مختلفة هذا إمكان ساحر تتيحه لك الترجمة والانتقال بين الأسماء في كثير من اللغات.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية