بادئ ذي بدءٍ ينبغي أن أقدم التحيةَ والتقديرَ للباحثينَ في المركز الدولي لدراسات الفرجة في طنجة المغربية، على المجهودات الجبارة التي يقدمونها كل سنة للرفع من وعي المتلقي بأهمية المسرح، في تقديم المعرفة في قالب فرجوي، من خلال البحوث القيمة التي تحفر عميقا في المسرح وفن الفرجة، وسأركز هنا على الإضافة النوعية التي ركز عليها حسن يوسفي، وهي ما يسمى بـ(الرابسودية Rhapsodisme).
من الروائية والملحمية إلى الرابسودية
إن المسرحَ عموما يقوم على ثُنائية (الحكي والمحاكاة) ويتصف الحكيُ بأنه ساكنٌ، مرتبطٌ بالزمن الماضي، يعتمدُ في سرده على صوت الحاكي. أما المحاكاةُ فهي في الزمن الحاضر، وتعتمد على حركة الممثلين وتعبيراتِهم الجسديةِ، وهذه الثنائية هي التي اعتمد عليها المسرح الغربي منذ (شعرية) أرسطو إلى يومنا الحاضر. غير أن التحولاتِ والتعقيداتِ التي عرفتها الحياةُ الاجتماعيةُ في العصور الحديثة، استدعت التفكيرَ في أشكال تعبيرية جديدة، تستوعب هذه التحولات، وتجاوزت شعريةَ أرسطو إلى شعريةِ الدراما الحديثةِ التي سماها سارازاك، اللادرامية Dedramatisation، وهي شكل تعبيريٌّ انفتح على أشكال سرديةٍ متعددةٍ ومنها الرواية، كما استفادت من المسرح الملحمي عند بريشت، وهو الذي بات يعرف عند سارازاك بـ(الرابسودية).
والرابسودية تنطلق من مبدأ أن الروايةَ نموذجٌ يُحتذى من أجل تحرير الأجناسِ الأخرى ومنها الدراما، بمعنى أن الرواية تُعطي للمسرح ما يسمى بالروائية Romanisation، أي إضفاءُ نوعٍ من المرونةِ على الكتابة الدرامية، مما يعطي للكاتب أُفقا للحكي الحرِّ. وقد ساعد في انتشار الرابسودية الهزة الكبيرة التي أحدثها بريشت في شعريةِ أرسطو، عندما حوَّل الكتابةَ المسرحيةَ من العناصر الدرامية إلى العناصر السردية، إذ إنه يقدم الحكايةَ باعتبارها نسقا سرديا يقوم على أساس نزعة حكائية خطية (Fablisme lineaire).
والرابسودية تتحقق عبر صيغٍ في الكتابة والحكي تتجاوزُ المحبوكَ نحو المُتَشظِّي، وتفتح مساحاتٍ أكبرَ للكاتب كي يخرج من التَّوَارِي إلى الظهورِ، وتعطي للمونولوج مجالا لكي يتحول إلى ما يُشبهُ البوحَ المسترسَلَ، الذي يسمح للشخصية الدرامية بأن تكون شاهدا على وجودها وعلى عصرها. كما أنها تقدم تنويعاتٍ لمحكياتٍ حياتية داخلَ سياقٍ حميميٍّ، يتم إيصالُها عبر أصواتٍ متنوعةٍ وحكاياتٍ متعددةٍ، وتقوم كذلك بالمزج بين أشكال مسرحيةٍ متعددةٍ وغير متجانسة، عبر آلية التفكيك وإعادة البناء؛ وتقوم بنوع من التهجينِ الشكلي، باستحضارها للأشكال (خارج – مسرحية) كالرواية والسيرة الذاتية والمحكي الشخصي داخلَ الكتابة الدرامية.
المسرح من الجاهز إلى الخفة
لقد حررت الرابسودية المسرحَ من السياساتِ الجاهزة والرُّؤَى المسبقةِ، وأفرزتْ في المقابل مسرحًا جديدا يقوم على خاصيةٍ أساسيةٍ سماها باتريس بافيس «الخفة Legerete» وهو مسرحٌ يتأقلم مع متطلباتِ اللحظة ويتجدد باستمرار ويُسائلُ نفسَه؛ وليس لديه الوقتَ للانغلاقِ في أشكال ثقيلةٍ، وفي وصفات بديهيَّة. يؤمن باللامركزية والانتقال من الأشكال الثقيلة نحو التجارب الأكثرَ خفةً وحركيةً. كما أنه مسرحٌ شعبيٌّ، يؤمن بصوت من لا صوتَ له، أي أنه يؤمن بأصوات الفئات الهامشية، ويَحنُّ إلى الأزمنة الجميلة الماضية، وهو قابلٌ للنقلِ والتكييف مع التحولاتِ السوسيو- اقتصادية، وبهذه الميزات استطاع فَكَّ ارتباطه مع المسرح الرسمي التقليدي.
كاتب من المغرب