الزمن الطقوسي واحتفالية الثورة الجزائرية

تعتبر الثورة مهما اختلفت طبيعتها من أهم العناصر التي تكشف طبيعة الإنسان المجبولة على التغيير ورفض الهيمنة، ولذلك كانت الثورات ضد ظلم المستعمِر وهيمنته من أرقى فصول التغيير في تاريخ الإنسان، فهي حينذاك تعتبر عودة إلى الأصل في وجودية الإنسان الحر والمرتجع إلى ذاته ومبادئه وتقرير مصيره.
التحرير ومغامرة الثورة:
تعود ذكرى الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني وتعود معها الذاكرة محملة بحنين جارف إلى مواعيد الرفض الوطني للاستعمار بكل أشكاله، والإسراع ما أمكن للتخلص من الظاهرة الاستعمارية، وهو ما تترجمه حركة مجموعة الستة الشبابية التاريخية، الذين اجتمعوا في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1954 لدراسة كيفية تفجير الثورة، وقرروا أول نوفمبر تاريخ اندلاع الثورة، مفاجئين بذلك المناضل مصالي الحاج أب الوطنية الجزائرية، الذي أعلن خلال مؤتمر هورنو في يوليو/تموز 1954 أن أول يناير/كانون الثاني 1955 سيكون تاريخ تفجير الثورة حسب المؤرخ عبد القادر هني، ولهذا سماهم المغامرين. الثورة مغامرة كبرى لأنها لا تحسب حسابات القوة، بل كل حساباتها تتركز حول التحرير، وهذا لا ينفي عنها التخطيط والتفكير، فالثائر يُنظَر إليه باعتباره نائبا عن كل من لم تتوفر لديه فكرة الحركة من أجل فعل دفع الظلم بالقوة، ولا يَفترض في الجماعة الوطنية التي ينتمي إليها ويقاسمها الخضوع للمستعمِر التقاعس عن فعل الثورة، أي إن الكتلة الاجتماعية مشمولة بفعل التفكير في التحرير، وجاء التقسيم النضالي للثورة موحيا بتحالف قوى اجتماعية وسياسية وعسكرية لتحقيق الحرية، فكان الفدائي والمسبل والعسكري، أي هناك من التحق بالجبل وهناك من أدى دوره الثوري داخل المدن والمسبل هو من «قام بأعمال فيها مخاطرة بالنفس».

الزمن الطقوسي واحتفالية الثورة:
تمارس الذاكرة غواية العودة إلى اللحظة الثورية في زمنيتها التاريخية، كلما تقدم الزمن الوجودي في محور الكينونة، مستلهمة ذاكرة الزمن الطفولي على عتبات يتحول فيها الوعي بالتاريخ من مستوى التلقي للاستيعاب إلى مستوى التلقي للتفكير.
كان الزمن الطفولي لحظة طقوسية تنتظر استعادات احتفالية بالثورة، فليلة الفاتح من نوفمبر هي موعد لإقامة منصات إطلاق الألعاب النارية، مع الرصاصة الأولى التي أعلنت تفجير معركة التحرير الفاصلة، تكرار هذا الفعل الاحتفالي كرّس الارتباط بين الحرية والابتهاج في نطاق الاستمرارية الثورية، لأن نوفمبر نقل الذات المستكينة المتابعة إلى مستوى دينامية الذات الحركية. اليوم النوفمبري كان مساحة زمنية لكل التمثلات المرجعية للذات الوطنية، كما كان استهلالا للتبشير بالفرح الثوري الغنائي، المصاحب للشخصية الوطنية التي تعيش زمن الاستعادة وفق أنغام الأجواء الثورية المدمغة بالرصاص، فانخلقت أصداء صورية تجعل التاريخ شريطا إنتاجيا لآثاره في واقع الزمن الوطني المغاير والمتغير في شكله عن «ساعة الصفر» التاريخية.
لم تتأخر الشاشة في تلوين وعي الأطفال بالبطولات التاريخية للشخصيات التي مارست التضحية، فانغرس في وعينا آنذاك التلازم المنطقي بين التاريخ والحلم، التاريخ باعتباره الحدث الماضوي المؤثر والواقعي، والحلم باعتباره تجليا مدهشا للبطولة. فالمعنى في الفيلم الثوري لم يكن فقط الحركة، بل كان سيناريو لاستعادة الوهج والرومانسية الثوريين واقتناص لحظة هاربة من زمن الخاوة (الإخوة) باعتباره المقابل الموضوعي للوحدة (الهبة على قلب رجل واحد)، وهو ما تحقق في انضواء جل الفصائل الوطنية تحت لواء جبهة التحرير الوطني، والجبل باعتباره فضاء ممارسة الحرية والإنسانية الرافضة للعبودية، والجبل يمثل في الوعي الثوري المعادل الموضوعي للوطن المحرر.
شيئا فشيئا وعبر سيرورة الزمن وتلاحق الأجيال، جيل الثورة وجيل الاستقلال وجيل الحلم الذي نشأ مؤثثا بوعي ما بين الجيلين الأولين وأحلامهما في وطن تسوده العدالة والحرية ورفض الهيمنة، ثم جيل الواقع، قلت شيئا فشيئا بدأ لمع الثورة يجد مجده في بقايا الذاكرة للأجيال الثلاثة الأولى، وخفت وميضه في وعي الجيل الرابع، ليس لنقص في الوطنية التي أعتبرُها شعورا بالانتماء لوطن تتشاركه الجماعة الوطنية، ولكن للتحول الزمني والتطور الذي لا محالة يؤثر في اهتمامات الناس ووعيهم، فالعصر الرقمي يختلف جذريا عما قبله.

فلسفة الثورة:
للثورة فلسفتها التي تقوم على الوعي العام الذي يشمل الجماعة الوطنية، الذي تشكله عقيدة الشعب، وهو ما يمكن تسميته بالروح العامة التي تتحكم في مسار الثورة، وثورة التحرير الجزائرية لا يمكن أن تكون بدعا في تاريخ الثورات، إذ كان الملهم لها هو روح الإسلام الشعبي، أي الدين في بساطاته التي تربط الشعور العام وتكثف من الشعور بالوحدة، ويذكر توفيق المدني في مذكراته «حياة كفاح» في الجزء الثاني، أنه في نادي الترقي عندما اعتزموا إنشاء «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»، اتفقوا على «أن تكون صورة من روح الشعب وقبسا من يقينه وإيمانه»، وأن تشمل جميع الطوائف والمذاهب «حتى تمثل وحدة وطنية صميمة». إن روح الثورة تنشأ حين تكون وفية لمبادئها غير مبتورة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والدينية، وإلا فقدت هويتها التي تحقق فكرة الانتماء، فالعمل باعتباره التحقق الواقعي للفكرة يسنده مُرتَكز الانتماء، حتى تستطيع الثورة أن تقدم ذاتها للعالم عميقة الجذور متواصلة مع الآخر، ضمن منظومة ذاتية وإنسانية، وأن تضمن لنفسها القوة الروحية في مواجهة الاستعمار الإحلالي /الاستيطاني، ففي «أرض الإسلام، وأكثر من أي مكان آخر، يعتبر الدين الإسمنت، الذي يوحد الشعوب ضد الوجود الأجنبي، أيضا يمثل أساس الوعي الوطني» حسب آلان روسيو في كتابه «الشيوعيون والجزائر/من النشأة إلى حرب الاستقلال 1920-1962».

في الأوساط الحزبية، نشأ الشيوعيون الجزائريون ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي الفرنسي ثم انفصلوا عنه، وكانت هناك اختلافات أيديولوجية نابعة من الاختلاف الجوهري في الانتماء والعلاقة مستعمَر/ مستعمِر، ولعل ما يرويه صادق هجرس في مذكراته، فيما ورد في الكتاب آنف الذكر أنه في 1943 (كان حينها مناضلا شابا في صفوف حزب الشعب الجزائري)، انخرط في نقاش مع غاشلان، مناضل أوروبي شيوعي، متعاطف وفاعل، سأله: لماذا تبدو غير متحمس لمطلب الاستقلال؟ رد غاشلان: هل تظن أن الاستقلال مهم بالنسبة إليكم؟ ستتمتعون بحريات أكثر ضمن فرنسا اشتراكية، وفي جميع الأحوال أنتم ـ المسلمين ـ لن تصلوا، لماذا إذن؟ لأن نساءكم محجبات.
فالاختلاف الأيديولوجي في الانتماء وليس السياسي، يكون حجر عثرة أمام أي اندماج، ولهذا قال الشيخ البشير الإبراهيمي: «علموا أولادكم أن كره فرنسا عقيدة»، لأنه في جميع الأحوال، مخرجات الاستعمار تصب في خانة التبعية والهيمنة واستغلال الثروات والإنسان ومصادرة إرادته، حتى يكون قابلا للاستعمار بمفهوم بن نبي. والشيوعيون الجزائريون، حسبما أورده آلان روسيو، كانوا على وعي بهذه الإشكالية، ولذلك كان تفاعل عبد القادر حاج علي في مواجهة الحزب الشيوعي الفرنسي في موقفه اتجاه الاستقلال حاسما: «المستعمَرون المحمديون لا يعارضون منظمة اجتماعية جديدة وتعاطفهم يتجه نحو الشيوعية لما يجدوا فيها المنقذ من الاستغلال الإمبريالي». إن حاج علي يعرف أن الحزب الشيوعي الفرنسي لا تجمعه إليه سوى الأيديولوجيا في انفصالها عن الانتماء، لأن انتماء الشيوعي الفرنسي لمصالح وطنه، ومن جهة أخرى هو يدين نفسه من حيث إنه يعترف بطريقة أو بأخرى بأنهم، أي الشيوعيين الجزائريين، لن يفوزوا بثقة الشعب ما داموا مرتبطين بحزب أهدافه المعلنة ضد توجهات الشعب الجزائري في التحرر من الاستعمار الفرنسي والاستقلال التام.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اغراس:

    لقد انتهى زمن ثورة التحرير ودفت ودفن معها رجال ونساء ضحوا بالغالي والنفيس من اجل الحرية والانعتاق وجاء قوم من بعدهم واستولوا على كل سلطات البلاد فأقاموا دولة الظلم والطغيان واستحوذوا على كل خيرات البلاد وامتلأت السجون بكل من سولت له نفسه ان يستعمل حقه في حرية التعبير بل وحتى حرية التنفس وهكذا استبدلنا استعمارا باستعمار من هم من جلدتنا ولم يبق اي أمل للعيش في دولة تبعد كل يوم عن بلد الحق والقانون بل اصبح الامل الوحيد في بلد يعد من أغنى البلدان هو ارتماء الشباب في البحر كوسيلة للبحث عن بلد بديل فكرهوا حياتهم وفضلوا الإنتحار …..
    ماذا بقي من ثورات التحرير ؟ بقيت تلك الشعارات الجوفاء والكلمات الرنانة التي لم تعد لها اي قيمة طالما الحكام الظالمون انتهكوا الحرمات وافسدوا الحياة وجعلوها مستحيلة لأنها وبكل صراحة بلا أمل ….
    وللحديث بقية

    1. يقول لاعق اليد:

      بدل التهجم على الجزائر احيلك على المنظمات العالمية في تصنيف الدول الافريقية من حيث الرعاية الصحة و نوعية التعليم و الامن الغذائي…اما البقية فكل العالم لاحظ من يرمي شبابه في البحر مقابل وعود سياسية وهمية و دنيئة.

  2. يقول اغراس:

    يا من يسمي نفسه لاعق اليد ، العق ما شئت فأنت وامثالك من شجعوا هذا الاستبداد ولم يحلموا ولو يوما واحداً ان للشعوب حق الحلم الجميل الذي يضمن للناس الحرية والعيش الكريم ولكن هيهات هيهات فالظالمون فرحون بأمثالك لأنهم لا يغيرون شيئا ولو مات نصف شعوبهم …
    الحرية لا تهدى لاحد لإنها توخذ لمن يحبها ويستحقها وكما يقول الشاعر إلا ليث المجاهدين يعودوا يوما لنخبرهم بما فعل الكبرانات دوي الضمائر الميتة …ولكم في زبانية بشار عبرة لمن يعتبر. .لك الله يا شعوب العرب ….وللحديث بقية

اشترك في قائمتنا البريدية