الزهرة تُدهشني منذ كنت طفلاً هارباً من المدرسة إلى براري «بيصور»

حجم الخط
0

بيروت – «القدس العربي»: في زمن الموت الجماعي والدمار، الذي أنتجه جنون الأرض، قدّم الفنان اللبناني المخضرم جميل ملاعب عطاءات مغايرة وجميلة منها. إنها الأزهار من عطاءات الأرض نفسها، التي نعيش ريبة حيال نواياها منذ السادس من هذا الشهر.
لجميل ملاعب معرض يستمر حتى 25 الشهر الجاري، يقتصر موضوعه على الأزهار البرية في «غاليري جنين ربيز». إذ يرى في ما تقدمه الأرض من أزهار واحدة من العطاءات «وهدية الأرض في فضاء الطبيعة البكر، هدية الربيع للفصل الجديد. أقحوانة الحديقة، صديقة البيت العتيق، وعلامة الذهاب الى حقل الدار». هذا الغرام البكر بالأزهار دفع الفنان للملمتها، وهندستها على طريقته. منها المنثور بجمال، ومنها المنتوف بحب، ومنها ما قرر ترتيبه في إناء، ومنها المربوط بلين ولطف. ومن ثمّ راح يبتكر جمالاً وفكراً وألواناً.
إلى «غاليري جنين ربيز» وافى جميل ملاعب مجموعة من هواة الفن التشكيلي الراغبين بمعرفة المزيد عن عالم الزهرة، بدعوة من «أجاندا الثقافية». يُعرف أن لملاعب معارض سابقة عن الأزهار، فهو رسمها مراراً مبدعاً وغير مكرر. ففي بوحه عن بدايات اندهاشه بالأزهار في صغره، حيث كان لبراري بلدته بيصور فعل السحر في حياته، يقول: حين كنّا نهرب من المدرسة، ونتوه في الحقول نلتقط الخُزام والشُقَيْق والجرندس ودويكي الجبل، وعرف الديك، كان السحر رفيقنا. نباتات حقولنا أدهشتني. كنت أنسقها في مزهرية، انظر إليها وأرسمها في عمر السبع والثماني سنوات. وفي الجامعة علّمني أمين الباشا رسم الزهور، وسنة 1971 سررت جداً حين قال لي «صارت لوحتك فنية». ففي الجامعة صارت الرسمة جدية، وصار للزهرة خلفية وموقع ثابت في اللوحة.
واستشهد الفنان بزهرة دوّار الشمس، التي رسمها فان جوخ بطريقة أدهشت غوغان، وأثارت غيرته. وبرأيه «اللون وكيفية وضعه يتصدّر في أهميته على الموضوع».
ولفت إلى أهمية السرعة في وضع اللون قبل أي طارئ قد يُبدّل الرأي. وأعطى مثالاً عن بول غيراغوسيان، المتميز بسرعة تنفيذ أفكاره. وكذلك عارف الريّس المتميز جداً برسم الأزهار، وخاصة من الطبيعة الإفريقية، حيث عاش لزمن. واستطرد «افتخر أن عارف الريّس كان استاذي». وكشف أن الريّس تأثر بهزيمة سنة 1967 فعبّر عن مشاعره بمعرض أزهار أقيم في بيروت، بيعت جميع لوحاته خلال حفل الافتتاح.
كيف بنى جميل ملاعب أفكار معرضه عن الأزهار؟ يقول: أعتبر كل لوحة هي نتيجة لتجربة العمر المهني جميعه. التزمت بموضوع الزهور وأن تكون ذات أهمية. نوّعت الأزهار تماماً كما هي في الطبيعة. فربيع لبنان يتميز بفيض من عطاءات الطبيعة وجمالها. وكذلك الحال في الفصول الأخرى، فثمة زهرة بيضاء لها جمال عجيب، تطل من بين الصخور في شهر تشرين الأول/أكتوبر حين يكون الجفاف في أوجه.
نعم حتى الآن أبحث عن الأزهار في الطبيعة يقول ملاعب. وتؤلمني عقدة الذنب إن قطفتها. فقط أقطف واحدة حين تكون المجموعة كبيرة، وأترك لغيري فرصة التمتع بالنظر إليها.
ويتابع: ليست الطبيعة فقط مصدر تمتعي بالأزهار، لكني أيضاً أزرعها في منزلي، إلى جانب عنايتي بأشجار حديقتي. كذلك زرعت عشرات الأشجار منها الصنوبر. وعائلتي كانت تبيع عشرات صناديق التفاح وقناطير من العنب، ومردودها شكّل مصدر عيشنا. حينها كنّا نعيش بتصالح وتلاق مع الأرض والتراب والماء.
كيف ينقل جمال الزهرة من الطبيعة إلى لوحته؟ يقول: صعب جداً الحفاظ على جمال الزهرة وعلى نقائها وصفائها. ومهما فعلنا ستبقى الزهرة هي الأجمل بلونها من أية رسمة. قدر المستطاع أحاول تقريب الزهرة للواقع. زهرة الواقع لا يمكنها أن تكون فناً، بل يجب أن تمر على معالجة هندسية فكرية وفنية، وحسية وتشكيلية، وتجبل بطريقة جديدة، وتالياً تصبح لوحة فنية.
لوحاته عن الزهور ضاعفت من حالتها البرية. نسأله لماذا؟ الجمال الحقيقي ليس في الطبيعة، بل هو الموجود في اللوحات، بحسب قول أندريه مارلو. الطبيعة حلوة واللوحة التي رسمها الفنان عن الطبيعة هي الجمال. جمال الطبيعة إلهي. كل ما هو جمال يجب أن يكون ذا صلة بالإنسان، وبإرادته، وإحساسه، وفكره وفلسفته. زهرة دوّار الشمس جميلة في الطبيعة وصارت أجمل حين رسمها فان غوغ. الفن يحوّل الموضوع الذي نرسمه إلى بعد إنساني عميق جداً.
يؤكد أنه لم يرسم أزهاره من عقله. يقول: ليس للإنسان أن يرسم دون أن ينقل عن شيء ما. ليس لفنان أن يرسم يده حتى وإن عاش معها لمئة سنة دون النظر إليها. الخيال يختلف عن الواقع. الفن واقع، ورسم شخص موجود أمامنا يختلف عن الصورة التي من شأنها تغييب الوقائع. جميعنا يتأثر بفنان آخر، بالواقع، بأستاذنا وووو. الفن هو نقل الواقع بطريقة فنية شخصية وخاصة.
إنها الزهرة التي معها اختصر جميل ملاعب أحلامه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية