تعوّدنا في بعض أحوال الاستعمال أن نجمع بين زوج من الكلام جمعا، أحدهما يقتضي الثاني لأنّهما من المتلازمات، وهي أنواع كثيرة في اللغة أشهرها الكنايات التي تجمع بين عبارتين متشابهتين من نوع (كيْتَ كيْتَ) التي هي كناية عن الحديث أو (بيْتَ بيْتَ) في قولك هو جاري (بيْتَ بيْتَ) وهذه الأزواج من الألفاظ لا يجوز حذف أحدها، لأنّ العنصر الواحد منها هو بمثابة جزء الكلمة، كالقاف من (قلم) أو السين من (رسالة). لكنّ التلازم بين الألفاظ التي تعنيها في هذا السياق هي عبارات غالبا ما لا يذكر عنصر منهما دون أن يذكر الثاني لاقتضاء أحدهما الثاني، فلا بد وأنت تقول (سارق) أن تدفعني إلى أن أفكر في فعل السرقة وفي المسروق فهذا التلازم والاقتضاء، نابع من سببٍ إدراكي مهمٍّ أنّ فاعل الشيء لا بدّ له من فعل ومفعول من جنسه. فأبسط معاني الاقتضاء أن يطلب اللفظ المنطوق به لفظا آخر غير منطوق به حتى لكأنّه مذكور. فذكر أحدهما أو وجوده يقتضي بالضرورة الآخر.
لكنّ علاقة الاقتضاء ليست علاقة دلالية فقط، بل لها عناصر إدراكية وثقافية تبررها. قد يتوقف الناس عند علاقة الاقتضاء التي تربط بين الأسماء والأفعال ارتباطا وجوديا، ذلك أنّ الفاعل يقتضي وجود فعل فالسارق يقتضي وجود فعل سرقة والعاشق يقتضي وجود فعل عشق، وهكذا دواليك. هذه العلاقة الاقتضائية بين الفعل والفاعل هي في الأصل اقتضاء إدراكي في بناء الكون، استمددناه من تجربتنا الثقافية مع الأعمال والصفات، التي يتصف بها الفاعلون، أو الواقع عليهم الفعل. عادة ما تدرس علاقة الاقتضاء في القضايا أو الجمل بأن يقال إنّ جملة معينة لها معنى صريح أو موضوع، ويرتبط بها في تأويلها معنى آخر؛ فلو قلت على سبيل المثال: (زوج أختي طويل القامة)، فهذا يقتضي أنّ لك أختا وهي متزوجة.
الاقتضاء من وجهة نظر عرفانية مسألة إدراكية تنعكس على صعيد القول، وهي غير مرتبطة بالوحدات الرمزية الكبرى التي هي الأقوال، بل هي شأن متأصل في الأشياء المفردة والكلمات المفردة من نوع فاعل ومفعول. في تجربتنا اليومية، فإنّ رؤيتنا لخيال قط منعكس على حائط مجاور، يدفعنا إلى أن نتمثل فضلا عن ذلك الخيال أنّ هناك قطا حقيقيا يمشي على الجدار المقابل هو الذي يمثل مصدر انعكاس الخيال. فبناؤنا للمشهد لا يكون فقط بالاستفادة من عناصره المرئية المباشرة، بل يمكّننا من أن نبني تصوّرات أخرى، أو ممكنة لا علاقة لها بالمشهد المدرك.
لقد بني الذكاء البشري على الاستفادة من التصورات التي تترابط في ما بينها. في التصوّر اللغوي الموضوعي للمعاني المقتضاة عنصر يسمّى القادح وهو عنصر لغوي، به يفهم المعنى المقتضى ففي قولك: (اكتشفت هند أن زيدا يخونها)، فإن العبارة القادح هي الفعل والفاعل (اكتشفت) لأنها كانت معبرا لكي نفهم منها أن زيدا كان يخون هندا وهي في غفلة عنه. الحقيقة أن هذه العبارات ليست هي القوادح الفعلية لفهمنا المعنى المقتضى، بل هو بناؤنا التجريبي للكون من أنّ الرجال يمكن أن يخونوا زوجاتهم، بحكم أنّ الخيانة تمثل لوضع ثقافي مخصوص يتمثل في مواعدة رجل متزوج امرأة أخرى أو معاشرتها سرا، والعرف يقضي ألاّ يفعل ذلك لأنه شرعا وقانونا على ذمة امرأة أخرى هي الزوجة بحكم عقد زواج. العادة الثقافية هي التي تجعلنا نربط أحيانا بين أشياء لا ترابط بينها منطقيا ونقرن بينها فلولا العادة الثقافية ما قرنا بين المواعدة بين رجل وامرأة والخيانة.
في مجال آخر مجال تجارة الخضر، يمكن للمرء أن يلحظ أنّ ابتياعها يمر أحيانا عبر الجمع بين بعضها في شكل زوج، فالبطاطا تجمع مع البصل، واللفت يجمع مع الجزر، والفلفل يجمع مع الطماطم، وهذا الاقتران الزوجي يمكن أن يلحظ بسهولة في الجمع بينهما عند الشراء، أو البيع، أو في المطبخ. هناك عناصر إدراكية وأخرى ثقافية تقف وراء هذا التقارن، صحيح أن اللفت يشبه في إنباته وفي قلعه وفي تكوينه الجزر، لكن ما الجامع بين الفلفل والطماطم، وبين البطاطا والبصل حتى يؤلفا زوجا؟
تصنع علاقة الاقتضاء بحافز ثقافي يرتبط بالتجربة الفلاحية، أو التجربة الغذائية. ففي المطبخ التونسي يجمع بين الفلفل والطماطم في أكلة شعبية اسمها الشكشوكة التي تطبخ بالأساس بهذين النوعين من الخضر، وعادة ما يكون ذلك صيفا. فهذا التقارن جاء في اللغة من التقارن في تجربة الطبخ، ولكن لا نريد أن نسأل أكثر: لماذا بدأ هذا الاقتران ببداية الطبيخ الذي هو الشكشوكة؟ الفلفل مذكر والطماطم مؤنث؛ ولا شكّ أنّ وراء هذا التقسيم تعليلا مرتبطا أحيانا بشكل كل غلال منهما ولونه وما يمكن أن يوحي به. هذا التوزيع للمؤنث المذكر نجده أيضا في زوجي الخضر المذكورين فالبطاطا مؤنث والبصل مذكر، واللفت مذكر والجزر مؤنث وفي هذا الزوج قلب عجيب لرموز اللون الذي تحمله الطماطم والفلفل. إنّ توزيع العناصر توزيعا مرجعيا إلى مذكر يعامل كالذكر وإلى مؤنث يعامل كالأنثى، فيه ما يبرر هذا الاقتضاء في الذكر بين العناصر، وما يبرر وجودها معا في المطبخ وفي المشتريات.
إلى هذا الحدّ تحدّثنا عن تلازم لغوي، له بعد إدراكي يؤثر فيه وهو أساسه. هذا الترابط الإدراكي يمكن أن يفسر عدم التلازم بين عبارات لغوية متقاربة، لكننا لا نربط بينها إدراكيا مثل عبارتي (قاصر) و(قصر) و( مقصور) فليس بينها الترابط الذهني الذي بين (سارق ) و(سرقة) و(مسروق)، على الرغم من أن الرابط الاشتقاقي والدلالي موجودان. في سورة الرحمن (56) يقول تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ). والقاصرات في رأي المفسرين هنّ النساء اللاتي قد قُصِرَ طرفهنّ على أزواجهنّ، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال فالقاصر من قصر نظره وحبسه عليه فلا يرى سواه. بعل المرأة القاصر هو المقصور عليه النظر، والرجل الغريب هو المقصور دونه النظر هذا ما يقتضيه التلازم اللغوي. القصر هو حبس الفعل أن يؤتى مع الجمع وليس أن يؤتى لفرد فالتسمية في القصر بالحجز والمنع على الجماعة وليس على الأفراد، لذلك يسمّى الفعل باعتبار المانع وليس باعتبار الممنوع عنه. ولكنّا نجد استعمالا للمقصور في سياقين، أحدهما في اللغة، والثانية في الاصطلاح: في اللغة تستعمل عبارة مقصورة التي تعني المرأة المصونة المخدّرة التي لا يسمح لها بالخروج، وبالمقصورة أيضا نسمي المكان الذي تقصر فيه المرأة أو يسجن غيرها، فلا يسمح بأن يراها آخرون حتى باتت تطلق المقصورة على غرفة خاصة معزولة عن باقي غرف الدار أو أعلى منها. وقد تكون المقصورة المكان الذي يحتجب فيه الإمام قبل أن يخرج ليؤمّ الناس.
القاصر في المصطلح الحديث هو الصغير الذي لم يبلغ السن القانوني سن الرشد وهو المحجور عليه قانونا. ولكنه لا يقترن باسم المفعول، رغم أنه يقتضيه وهو المشرع في هذه الحالة. لا يمكن أن يوجد ضرب من الترابط بين اسم الفاعل والمفعول في مستوى القاصر والمقصور، مثلما هو في السارق والمسروق لأمرين إدراكيين أحدهما بعد الصلة الثقافية من جهة تحصيل النفع من معرفتها. والثاني كثرة المعاني المتراكمة حول العبارة، فكلما تعدد المعنى وتداخلت الألفاظ صعب أمر تنشيطها من الذاكرة.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية