تشهد الروايةُ المعاصرة مجموعةً من الظواهر السردية المستفزة والمحيِّرة، التي تستدعي التوقف والتأمل وتبعث على التساؤل. في روايته «اسمي أحمر»، يسند أورهان باموق مهمةَ السرد، مرةً، إلى سارد ميت، وأخرى إلى حصان، وثالثة إلى كلب له صورةٌ معلقةٌ على جدار. لا يكتفي بهذا فهو يجعل قطعةَ نقودٍ تتكلم وشجرةً تنطق. يذهب أبعد من ذلك في أحد الفصول عندما يترك اللونَ الأحمر، الذي أخذت منه الروايةُ اسمها، يروي مقاطع كاملة من القصة. إذا كان مفهوماً، بشكل من الأشكال، تركُ الحيوان والجماد يسرد الحكاية من باب كون هذا الأمر مألوفاً نوعاً ما، ويمكن تصنيفه ضمن محاولات مقاومة طغيان أنسنة السرد، وفسحِ المجال لغير الإنسان أن يلعب دور السارد، فإن إسناد السرد إلى شخصية ميتة، يجب أن لا يمر مرور الكرام، ولا أن يُكتفى في تفسيره بأجوبة تقليدية ومستهلكة فقدت كلَّ صلاحية لها. يطرح سردُ الميتين إشكاليات عديدة، وتحديات غير مسبوقة بعضها مشتركة، بينه وبين سرد غير الإنسان، وبعضها خاص به دون غيره.
ليس سرد الموتى ظاهرة خاصة بباموق، ولا هي سنةٌ كان هو أول من سنّها من الروائيين، فقد لجأ إليها قبله آخرون، لكن ليس بالتكثيف نفسه ولا بالشغف ذاته. جرّبها قبل باموق بكثير، الروائي المكسيكي خوان رولفو في روايته «بيدرو برامو» الصادرة سنة 1955 والتي لم تترجم إلى العربية، إلاّ بعد سنوات طويلة، عندما نقلها عن الإسبانية المترجم الراحل صالح علماني.
في روايته تلك، يخلق خوان رولفو عالماً كاملاً يخلو من حضور الأحياء، فالسارد ميت، ولا يلتقي في طريقه غير موتى، بُعثوا من قبورهم أو موتى يشاركونه قبرَه. كما استمال هذا النوعُ الغريب من السرد آسيا جبار في روايتها «امرأة بلا كفن» الصادرة سنة 2002 باللغة الفرنسية. في سردنا العربي، استهوت الحكاياتُ التي يوردها ميتون مؤلفين قليلين من بينهم، لؤي حمزة عباس في قصته «رجلٌ كثيرُ الأسفار»، والقاص العراقي المقل، لكن المُجيد، علي عباس خفيف في قصته «أينوما أيليش»، والقاص حسن بلاسم في بعض نصوص مجموعته «معرض الجثث» والروائي برهان شاوي في روايته «مشرحة بغداد». جعل كل واحد من هؤلاء الكتّاب ومنْ سبق ذكرهم شخصيةً أو أكثر تقص، بعد أن تكون قد فارقت الحياة، حكايةَ موتها.
في هذا التخويل للميتين بالسرد خرقٌ لقوانين العالم، حيث إنه يتضمن إدخالَ عنصرٍ لا يتوافق مع ضوابط الواقع، الذي يستظل بظله النص، ويدعي تمثيله والتشبه به. فالعالمُ المادي الذي نحيا فيه لا يجيز، بالضرورة وحتمية الأسباب، سردَ حكايةٍ من قبل ميت لاستحالة أن يصدر في الواقع كلامٌ عن جثة هامدة. عندما تختلُّ صورته بهذا الشكل أمام القارئ، يتحول الواقع إلى مادة يتعذر فهمها والتعرف عليها، لأن من يقرأ السرد المنسوب إلى ميت، لا بد أن يسأل نفسه: هل هذا العالم الذي يرسمه الموتى حقيقيٌ؟ أم أنه ليس سوى هذايانات؟ ربما يوفر القولُ بانتماء أنماط سردوية كهذه إلى الواقعية السحرية جواباً يرتضيه النقدُ العربي، وقد يستسيغه محبو غابرييل غارسيا ماركيز، أو غيره، لكنه بالتأكيد ليس جواباً يقبله أو يكتفي به علمُ السرد ما بعد الكلاسيكي.
هذا النوع من الحكي «غير الطبيعي» يسميه علمُ السرد ما بعد الكلاسيكي بالسرد المستحيل، وإليه تنتمي كلُّ الحكايات التي يتولى سردها موتى أو مجانين أو مرضى عقليون، أو مغمى عليهم، أو فاقدو القدرة على النطق، أو المصابون بالصمم أو الأميون أو الأطفال الصغار، بل كل من يتعذر عليهم، لعلةٍ ما، الإتيانُ بمطلق السرد، كما في مثال الموتى وفاقدي الوعي، أو الإتيان بسرد متماسك، وبلغة أدبية عالية، كما في حالة الأطفال الصغار أو الأميين ذوي المعرفة اللغوية المحدودة جداً بطبيعة الحال. السرد المستحيل إذن، هو ذلك النوع من السرد الذي يصدر عن سارد غير مؤهل من الأصل، لأن يتصدى لمهمة نقل الحكاية، إما لنقص تكويني/بنيوي فيه يخص قدرته العُرفية على تمرير محتوى القصة إلى متلقيها (كما في حالة الجماد أو الحيوان) أو لاستحالة أن يبث مثلُه حكاية ما لا يصلح هو بالذات لحكيها، كما في حالة الميت أو المغمى عليه، وأضرابهما ممن لا يُحتمل، عقلاً، صدور كلام عنهم في الحياة الواقعية. من جهتي، أضيف الى هذه السرود السردَ بضمير «نحن» فهو سردٌ مستحيلٌ واقعاً، وإشكالي لأنه يفرض أسئلةً لا جواب لها، من قبيل: من يتكلم بالضبط باسم المجموع؟ ومن خوله بالنيابة عن الآخرين؟ وكيف لنا أن نثق أنه مخول؟ ولمن تعود، على وجه الدقة، وجهة النظر المسلطة على العالم السردي؟ ومن خلال أي موشور تُنقل الأحداث إلى المروي له؟ وهل يمكن للضمير «نحن» أن يعود في الوقت نفسه إلى الكاتب، السارد، الشخصية المشاركة؟
لا خيار ثانٍ أمام السارد الميت، وقد عزَّ عليه خلاف ذلك، الاّ أن يتوجه بالكلام إلى مرويٍ له يقع في المستوى الحكائي نفسه، الذي ينتمي إليه السارد، ومن طبيعة عالمه ذاتها، ما دامت قد استحالت عليه مخاطبة الأحياء، من الشخصيات الروائية الذين هم منفصلون عنه وعن زمنه
يعدُّ السرد المستحيل واحداً من ثلاث ظواهر جمالية، بدأ البحثُ السردي بالاهتمام بها ودراستها مؤخراً. أعني بالظواهر الثلاث: السرد المستحيل، السرد المبهم والسرد المشكوك فيه. تنتمي دراسة هذه المظاهر السيميائية التي ما زالت إلى اليوم، من ناحية التنظير، في مراحلها الأولية، إلى علم السرد ما بعد الكلاسيكي، بمعنى أن منطلقاتها النظرية تستكمل ما انتهى إليه جونيت وتودوروف وبارت وغريماس في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. سأتكلم في ما يأتي عن السرد المستحيل فقط مع وعد ملزِم بالرجوع قريباً جداً إلى الحديث مفصلاً عن السرد المبهم، والسرد المشكوك فيه، وعن الفرق بين علم السرد الكلاسيكي، وما بعد الكلاسيكي. يتعلق الأمر في السرد المستحيل، تماماً كما في حالتي السرد المشكوك به والسرد المبهم، بسرد إشكالي، منشؤه أن هوية السارد تستدعي الشك والريبة والتحفظ، ما يؤدي، في أقل الحالات، إلى طرح أسئلة إشكالية تمس مدى صلاحية السارد للقيام بمهمة السرد. هل أن سارداً ميتاً مؤهلٌ لقص حكاية يفترض انتماؤها إلى الواقعية؟ إذا استحال على الموتى الكلام، وهو محال وفق قوانين عالمنا المادي، فمن يقوم ببث الإرسالات السردية إلى المروي له؟ أهو الساردُ نفسه، الذي يفترض أنه «ميت» وأصبح محالاً عليه الكلام؟ أم هو المؤلف وقد حلَّ محل سارده؟ يتفرع عن السؤال الأخير سؤالٌ أهم: أين تنتهي السلطةُ السردية للمؤلف على نصه؟ هل تتوقف عند مخطط الخيارات التقنية التي تسبق عملية الشروع في الكتابة، أم تتجاوزها إلى التدخل في حيثيات النص وتفاصيله؟ تعدُّ هذه الأسئلة اليوم وما يمكن أن ينشطر عنها، من ضمن التحديات الإشكالية الكبيرة، التي على علم السرد المعاصر مواجهتها، وإيجاد جواب مناسب لها، فالتبويب أو التصنيف ليس كافياً، بل هو مرحلةٌ أولى لا بد أن تتبعها مراحلُ أكثر عمقاً وتحديداً ودقةً.
لا بدّ أن تشمل الاستحالةُ الخاصة بالسارد، التي تحدثتُ عنها في أعلاه المرويَّ له، فالسارد المستحيل يفترض قبالته مرويا له مستحيلا هو الآخر. بوضوح أكبر: لا خيار ثانٍ أمام السارد الميت، وقد عزَّ عليه خلاف ذلك، الاّ أن يتوجه بالكلام إلى مرويٍ له يقع في المستوى الحكائي نفسه، الذي ينتمي إليه السارد، ومن طبيعة عالمه ذاتها، ما دامت قد استحالت عليه مخاطبة الأحياء، من الشخصيات الروائية الذين هم منفصلون عنه وعن زمنه، من حيث إن زمنه هو لانهائي، أو يكاد بينما زمنهم هم ذو حدود ونهايات. بالتالي، يكون وقوع الشخصيات «الحية» في الرواية خارج الحكاية التي يرويها ساردٌ ميت، أمراً يسري مسرى البديهيات. عندئذ ينحصر الحال بفرضية واحدة قد ترفع استشكالنا بخصوص نوعية السارد: ميتٌ يتكلم مع ميت مثله، يشاركه قوانين عالمه التي هي غير قوانين عالم باقي الشخصيات. آنئذ يكون ممكناً قبول صدور حكاية عن سارد ميت، باعتبار أن الحكاية المعنية، تحدث في ظل قوانين خاصــة بها وليس مفروضاً عليها التطابق مع قوانين عالمنا، بمعنى أن الحكاية المستحيلة يرويها ساردٌ مستحيل إلى مروي له، مستحيل في ظرف زماني ومكاني مستحيل.
رفعُ هذا الإشكال لن يحل كلَّ المشكلة إذ يبقى هناك إشكالٌ من نوع آخر يخص صدقية الأحداث المروية عن طريق السارد الميت وكيفية حدوثها، فلا شئ يضمن للقارئ، أن الأحداث حدثت فعلا، أو أنها حدثت بالطريقة التي يرويها السارد. قد يعترض علينا معترض فيقول إن كل سارد كذوب وألاّ وجود لسارد يستحق الثقة، كما قال فلوبير ذات مرة. جوابنا أن الصدقية هنا منحصرة في إمكانية حدوث الحدث المروي، بمعنى أننا لو عرضنا هذا الحدث على الواقع والعقل لَقبِلا به، ورجحا احتمالية حدوثه. فالسارد في النص السردي الواقعي، وإن كان كاذبا أو كذوباً، ينبغي عليه أن يسرد أحداثا على شيء من المطابقة مع الواقع، بحيث يستطيع القارئ تصديقها، عندما يقتنع بقابليتها على أن تحدث في واقعه المعيش. بقيت لي ملاحظةٌ أخيرة بخصوص سرد حكايات الميتين، إن سرد حكاية الموت باستخدام ضمير الشخص الثالث المفرد، كما في قصة «رجل كثير الأسفار» مثلاً لكاتبها لؤي حمزة عباس، يضع أمامنا إشكالات أقل من تلك التي يطرحها السرد بضمير الأنا. إذ يمكن هنا افتراض وجود سارد لا شخصي له منفذ إلى أفكار الشخصية، وقد يكون ساردا عليما. من الممكن أيضاً توقع حضور سارد شهد حدثَ موت الشخصية المعنية، شارك فيه أو لم يشارك وانطلق منه في بناء الحكاية، وأن كل ما تبقى من أحداث (كعودة الميت إلى بيته، ولقائه بعائلته وغيرها) هو تأويل تخييلي لا غير، أو إعادة بناء ذهني لحدث فات تعذر سرده على الشخصية التي عاشته. حتى في هذه الحالة المفترضة، تبقى شخصيةُ الميت، كسارد منسحب أو ممحو، هي من تحرك السرد.
في نهاية الأمر، يمكن للروائي الواقعي أو القاص خلق عوالم روائية مستحيلة منطقيا كما يمكن للقارئ، لو شاء، تخيل العالم الروائي المستحيل عقلاً، لكن يجب على الباحث في شؤون النظرية السردية عدم شرعنة، لا هذا التخيل ولا ذاك الخلْق. ليس واجبنا، كباحثين في أمور السرد، تلقي النصوص كما هي في حدود جمالياتها وبنائها، بل إن نجد الأطرَ التي تمنح النصَّ وتجاربَ كاتبِه المبررَّ العلمي المقبول للوجود والفضاءَ النظري الكافي للتطور والرسوخ.
٭ كاتب وناقد عراقي
تحية للناقد حسن سرحان،،،، روايتي (في الطريق إليهم) التي صدرت في العام 2004 كان يمكن ان تكون ضمن هذه المقالة لو اطلع عليها الناقد، بطلتها طفلة ميتة، يبدأ السرد على لسانها وينتهي بها، على زمن يمتد لأكثر من عشرين عاماً على موتها، مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في البلد،، أكرر تحيتي للناقد حسن سرحان
شكرا لك سيدتي الروائية هدية حسين. الامثلة كثيرة ولم اذكر منها الا ما كان قريبا من ذهني ساعة الكتابة. لحضرتك التحية والود
مقال جميل جدا كتب بأنامل مبدعه بوركتمً دكتور
شكرا ست منتهى. ممتن على هذه المتابعة والحرص على قراءة مقالاتي. لك كل الشكر.
احسنت بارك الله بك نحن نحتاج إلى هكذا نقد للرواية الحديثة لكن لدي بعص الملاحظ حول شخصية السارد وتوجهه الى السارد له. كثير من الروايات سندت السرد إلى راو مجنون وهذا الاخير كان يتوجه الى مروي له يبدو خارج الرواية لكن يحتاج الروائي في بعض فترات السرد ان يشرك راو داخلي يحاول الامساك بالسرد وايعادة ترتيب الاوراق. فهل احتاج الروائي في الرواية مدار البحث الى راو من الاحياء؟
شكرا على اهتمامك ا. أحمد. الحقيقة ان السارد لا يمكنه ان يتوجه بالحكاية الى مروي له خارج حكايته. هكذا هو نظام الحكاية. محبتي لحضرتك وشكري الكثير.
مبدع دكتور حسن بأسلوب أسر…ينحت الكلمة قبل القائها وينتقي أصعب الجزيئات لكي يحللهاِ.. تجذبني قرأت نصوصك اكثر من الروايات نفسهاِ… بوركت أناملك.
شكرا لك سيدتي. انت من قرائي المخلصين. اشكر لك اهتمامك. خالص المحبة
كان على الناقد أن يذكر لنا بعض أعمال المرحوم عبد الحكيم قاسم، خاصة “طرف من خبر الآخرة”. لأنها سابقة لعمل باموق. وهي كذلك من أجمل ما كتب في الأدب العربي المعاصر.
شكرا لحضرتك على التعليق والاشارة الى الرواية. كما قلت، الامثلة كثيرة…كان المهم عندي رصد الظاهرة اكثر من ذكر الأمثلة. تحياتي وشكري لحضرتك.
شكرا جزيلا للناقد الكبير حسن سرحان على مقالته عن السرد المستحيل. معلومات قيمة ومهمة اتحفنا بها.
شكرا أ. ناهي. لك مودتي الصافية.
مادة نقدية مهمة ولافتة . فقط اود التنويه الى ان الفنتازيا في الاداء السردي العراقي تكاد تكون سردا حيا وطبيعيا نسبة الى فنتازيا الحياة نفسها . بسبب توحش الحياة هنا ولامعقوليتها يصبح المستحيل خارج منطق الرواية . تحياتي للدكتور حسن سرحان .
شكرا لك أ. علي، اجل، حياتنا في العراق فانتازيا من نوع آخر. محبتي وامتناني.
سرني جدا صديقي ان أقرا التفاته لطيفة لتاطير سرد الميتين والبحث عن قوانيني لهذا السرد. دمت نافذ البصيرة .
السرد ليس هو المستحيل بل الفكرة التي يتبناها دام جدهدكم
هل هناك ضرورة لايجاد اسم جديد لنوع من السرد ..الا يمكن ان نضعه ضمن السرد العجائبي ؟؟وتكون العجائبية هنا في الراوي اكثر مما هي في الأحداث؟
.
مجرد راي وتساؤل
شكراً لحضرتك سيدتي على هذا السؤال المهم. خلال هذا الاسبوع ستنشر لي القدس العربي مقالا فيه الاجابة عن سؤال حضرتك. أكرر الشكر لك والامتنان على المتابعة والاهتمام.