القصة القصيرة جنس أدبي دائم التجديد على مستوى الشكل والمضمون، لقدرته على تجاوز البنى السردية التقليدية، نحو تجريب بنيات سردية خيالية، سعيا إلى تأسيس وعي خاص، وخلق جماليات إبداعية ذات تأثير في المتلقي. وتعد المجموعة القصصية «حين تغرب الشمس» للقاص فريد الخمال، منجزا سرديا انطلق من مستوى تجديد الصياغات بحثا عن طرائق للترميز، قصد توليد الدهشة وإثارة قلق المتلقي/القارئ نحو العالم الواقعي. وسنركز في هذا المقال على السرد الغرائبي والعجائبي في «حين تغرب الشمس» لنبين كيف تخلق بنيته عالما تتشكل تحته ظلال سحرية خيالية، تنهض بتقديم خطاب دال ينتقد الواقع بشكل غير مباشر.
السرد الغرائبي
السرد الغرائبي بناء قادر على إنتاج الواقع في أكثر من صيغة، دون التقيد بشكل واحد تقليدي، ويذهب تودوروف إلى أن «الغريب أو الغرائبي، يكون إذا قرر القارئ أن قوانين الواقع (الطبيعة) تظل سليمة، وتسمح بتفسير الظواهر الموصوفة». وتحضر البنية السردية الغرائبية في قصص «حين تغرب الشمس» بداية من القصة الأولى «فرصة» التي تصور للقارئ فتاة حاصلة على عدة شهادات، كان أقصى ما تطمح إليه أن تجد عملا يحفظ لها كرامتها. وتقع ضحية عصابة نقل الأعضاء البشرية، ثم يكتشف الطبيب المشرف على نقل الأعضاء -عندما يرى الفتاة – أنها ابنته «التي تركها بعدما طلق أمها قبل خمس عشرة سنة، ولم يرها من وقتها».
وتوظيف الحدث الغرائبي في هذه القصة، يأتي بقصد كشف مستوى تدهور القيم الإنسانية وتحكم النزعة المادية في الإنسان، لتطغى جدلية الصراع من أجل البقاء، في عالم يواجه فيه الضعيف قوى العنف المادي والرمزي، وهذا ما تطرحه أيضا قصة «ليلة التخرج» إلى جانب قضية أزمة الضمير الإنساني، ويحتل فيها الحدث الغرائبي حيزا كبيرا، حيث إن شخصية كمال (طالب دكتوراه وباحث في التاريخ) يترك عمله في مصنع جرّده من إنسانيته وحوله إلى آلة بشرية. يستدرجه نعمان للعمل معه في حفر القبور لاستخراج جثث النساء: «نحفر في اليوم الأول من الدفن ولا حاجة لنا بمن دفن قبل أسبوع أو شهر أو سنة، كما أننا نحفر على النساء فقط». وبذلك وجد كمال في هذا العمل (الذي هو في الأصل لصالح أعمال الدجل والشعوذة) ما يوفر له كل احتياجاته المعيشية: «دائما كنت أحلم بعمل ليلي أجد متعتي فيه، إلى أن عثرت عليه وأنقذت نفسي من ذلك المستنقع الآسن. يوم مغادرتي حسبت أن براثن البطالة ستنهشني مجددا، لم أظن أن سبب مغادرتي سيكون طريقا لعملي الجديد». يكتشف كمال بعد مدة أنه كان مخدوعا من طرف زميله نعمان، حين يفضحه جابر (العضو الجديد) ويقرر هذا الأخير الانتقام من نعمان بسبب أنه حطم حياته: «كنت سببا في أن افترقت وزوجتي، خربت العديد من البيوت، وما زلت على الطريق نفسه». وقبل تنفيذ قراره يعنف نعمانَ ويوجه له التهم الفاضحة: «لم تكتف بالعمل مع الدجال، واخترت إفراغ كبتك أيضا». يكتشف كمال من خلال كلام جابر الصورة الحقيقية لنعمان، وقبح وبشاعة ما كان يجمعهما.
إن السرد الغرائبي هنا يرصد واقع الشباب الذي يدفعه عنف الواقع إلى أن يصبح عرضة للانحراف، أو الوقوع بين أيدي جهات تستغل احتياجه لتحقيق غاياتها اللاإنسانية وتستخرج أبشع ما فيه. وإن الحدث الأشد غرابة في القصة ليس هو استخراج جثث النساء المدفونات حديثا لغرض وضع السحر، بل في ممارسة شخصية نعمان الجنس عليهن: «نعمان قد راودته نفسه يوما حينما أخرجنا جسدا غضا طريا في أول يوم من دفنه، وفي غفلة مني انكب بالقبل على جسدها؛ فأنهضته عنها بصعوبة». نلاحظ أن هذه البنية السردية الغرائبية تطرح موضوع الكبث الجنسي بممارسة الجنس على الموتى، للخروج عن المألوف وكسر رتابة التوقع ودفع الخيال إلى مدارك أخرى مختلفة، يتجلى فيها تصور الفراغ الفظيع حين تنتفي القيم، وتسيطر الغرائز الحيوانية على الكائن البشري، فلا يميز بين الحي والميت.
وإذا كان كمال شخصية قصة «ليلة التخرج» مسلوب الإرادة، لأنه ألغى ملكة التفكير بمجرد الحصول على المال الذي يوفر له حاجياته، فإن زياد بطل قصة «ليلة بطعم البنفسج» أدى به الطمع، بسبب احتياجه للمال، إلى الوقوع في مكيدة؛ حيث عثر على هاتف، فإذا به يتلقى رسائل نصية تضم رقما سريا لتسلم حوالة مالية، فأغواه الأمر، ودون التفكر في العواقب… يكتشف في النهاية بأنه ضحية خطة كي يقع في مصيدة عصابة مختصة في بيع الأعضاء. إن احتياج زياد ألغى ملكة التفكير لديه، لهذا قال له أحد أفراد العصابة ساخرا منه: «ظننت أن المال يعطى دون مقابل! أخطأت التقدير يا حبيبي، لا شيء بلا مقابل، حتى الهواء الذي تستنشقه تدفع حقه بطريقة ما».
السرد العجائبي هو الوقوف المرعب أمام أحداث الواقع ليس لتفسيره، بل لإحداث الدهشة والحيرة، ويرى تودوروف أن العجائبي «هو التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة، في ما هو يواجه حدثا فوق- طبيعي حسب الظاهر».
إن اشتغال المتخيل في مجموعة «حين تغرب الشمس» يركز على ما يفيد أن الواقع قد يكون أشد غرابة من الخيال، لأن العالم مخيف ومقلق، لهذا فإن الإشارة للقصة الأولى «فرصة» ضمن القصة الثانية «ليلة بطعم البنفسج» – وفي سياق تسخر فيه الشخصية من الأدب الغرائبي الذي لا يمت في نظرها إلى الواقع بصلة – ما يؤكد وعي القاص في جدوى وظيفة الخيال الإبداعي الخلاق، لهذا أوجد ذلك الترابط بين القصة الأولى والتي تليها، حيث إن بطلها عاش لحظات امتزج فيها الواقع بالغرابة والسخرية والدهشة والفزع…
السرد العجائبي
السرد العجائبي هو الوقوف المرعب أمام أحداث الواقع ليس لتفسيره، بل لإحداث الدهشة والحيرة، ويرى تودوروف أن العجائبي «هو التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة، في ما هو يواجه حدثا فوق- طبيعي حسب الظاهر». وللعجائبي مجال مرن في صهر الأسطوري والخرافي في بنية فنية تعرض الحقيقة كما تبدو من خلال رؤية الكاتب أو كما يشعر بها. وقد لاحظنا أن القاص فريد الخمال اعتمد على البنية العجائبية داخل قصة «الغريب» حيث إن بطلها مراسل صحافي جاء إلى قرية من أجل كتابة تقرير عن ساحرة تلك القرية: «فقد أتممت الأشهر الثلاثة، وأنا أبعث للجريدة المقالات، وكل التفاصيل المتعلقة بالساحرة المتخفية في القرية؛ عدد زوارها، ومعاونيها، حتى اسمها الأصلي، غير الذي عُرفت به في القرية». يعجز البطل عن كتابة آخر مقال في التقرير، وتحدث حوله أمور غير طبيعية، تدخل في إطار لعبة المرئي واللامرئي، وتجعله يشعر بالريبة والخوف، وتظهر على الورقة حروف وكلمات: «ونظرت للورقة، فوجدت أن الحروف شكلت كلمة، والكلمة تصاغ إلى جمل» إلى أن أرعبته الفقرة التي تقول: «ماذا لو كان من تراقبه وتتبعه، يتبعك ويراقبك أيضا، ويتابع ما تنشره، ولا تعرف عنه إلا القليل». وعندها اندهش مما قرأ فوقعت الشمعة -التي أشعلها بعدما انقطع الكهرباء- على الورقة وتسببت في حريق. وفي صباح الغد انتشر خبر انتحار الغريب بإضرام النار في البيت الذي يسكنه: «انتشر في القرية خبر أن الغريب القادم قبل ثلاثة أشهر انتحر وأضرم النيران في بيت السيد أسعد، بعد أن اشتراه من السيدة ـ الساحرة- هناء».
هذه القصة تترك للمتلقي حيرة، وتدخله في قلق ميتافيزيقي، حيث جرت خلفها أسئلة مقلقة، كما أنها تركت باب التأويل مفتوحا لإشراك القارئ في بناء متخيل يتداخل فيه الأسطوري بالخرافي، انطلاقا من ترسبات حكائية تسكن المخيال الجمعي عن طقوس السحر والجن والظواهر غير الطبيعية، وهي مادة أساسية تدعم معطيات الخيال ويستسلم لفتنتها القارئ، حيث تفلته من أسر الواقعية الصارمة نحو دهشة وعجائبية اللامعقول، وكما قال تودوروف «لا يستطيع العجائبي أن يدوم إلا في التخييل». إن النهاية المقلقة والمرعبة، التي تترك القارئ في دهشة وشرود وتولد في نفسه الأسئلة هي نهاية عجائبية وهو ما نجده أيضا في قصة «السمفونية» التي تركت مجال التأويل مفتوحا حتى يتحقق الإيهام المطلوب، انطلاقا من الأثر الذي يجده المتلقي بعد نهاية القصة، والذي يكمن في التردد بين إيجاد تفسير طبيعي لما حدث لبطل القصة، أو الاعتقاد بوجود تفسير فوق طبيعي، وفي هذه الحالة يكون أمام العجائبي، الذي يفسح مجال الانفتاح – كما يقول حسن المودن- على القبح والبشاعة والخوف والرعب، ويجعل المتلقي يفقد الكثير من أسس حياته العادية، ليواجه عوالم مختلفة ومغايرة وأحداثا لا واقعية.
وبهذا يعد الغرائبي والعجائبي في قصص «حين تغرب الشمس» خروجا من إطار المألوف، سعيا إلى قول الواقع في كتابة مقلقة «قد تعني احتجاجا وعدم رضا ورفضا للحاضر أو الواقع القائم» وهي انفلات من قيد سلطة الواقع، وإطلاق العنان للخيال كما قال بطل قصة «الليلة الأخيرة»: «رغم أنهم استطاعوا تصفيد يدي، وتعصيب عينيّ، إلا أنهم لا يقدرون على كبح خيالاتي، فأطلقت لها العنان». إنه ما يشبه مواجهة القوى الضاغطة والمانعة لإنسان الهامش من تحقيق كرامته ووجوده الذاتي، مواجهة يرفض فيها الإنسان أن يتحول إلى آلة تنفذ ما يطلب منها، بعد تجريده من العقل والقلب، كما حدث لكمال بطل قصة «ليلة التخرج» وبذلك فالخيال هو المجال الوحيد الحر الذي لا تملك سلطة منعه ولا تدجينه، لهذا يمعن فريد الخمال في الاشتغال على الهلوسات والهذيان والظواهر النفسية المعقدة عند الشخصيات، والحلم في شكل كوابيس، كأنه « يشرع لأكذوبة الحياة ووهمية الحقيقة» ، وفي الخيال واللامألوف ما يجدد الآمال ويبدد الآلام، وهو رؤية ينظر منها إلى الواقع والهامش المقلق بسرد الحكاية ضمن القصة، الحكاية، التي ما زالت جسرا لخلق التواصل مع العالم قصد إيجاد التوازن، وقديما كان لها زمنها الخاص، حين تغرب الشمس، ذلك لأن الحكي مرتبط بالليل لسرد بنية غرائبية مؤثرة؛ زمن يتسم بالغرابة، والعالم بعد الغروب لا شك في أنه غريب بما يختبئ في مظلة ظلامه من أسرار، فكيف بهذا العالم إن غربت عنه شمس القيم وعمت العتمة أرجاءه، وضاعت النظرة اتجاه الإنسان كقيمة مطلقة؟
خاتمة
طبعا، لم نستطع ( لضيق مساحة هذا المقال) تناول جميع قصص «حين تغرب الشمس» التي تبلغ 22 قصة، وجلها يوظف البنية الغرائبية والعجائبية في مستوى وعي إبداعي فني جمالي، وقد اقتصرنا على الإشارة إلى بعض القصص، حتى نبين فقط بأن هذه البنية لا تعبر عن انفصال عن الواقع، بل تمثله من خلال تصور القاص لعنف الواقع الذي يجهز على قيم الإنسان وضميره، هذا التصور أتاح للخيال مجالا واسعا لإثبات تلك الصلة الوثيقة بين وعي القاص بواقعه وطرح قضاياه الاجتماعية والسياسية في نسق يضمر الانتقاد ولا يسقطه في التقريرية والخطاب المباشر.
كاتب مغربي