لا تنفك الصحافة الثقافية ونظيرتها المواقع الثقافية الإلكترونية، في إثارة الجدل عن ظاهرة السرقات الأدبية، وتكشف باستمرار عن فضح سرقات تورط بها كبار الكتاب، وبالطبع يقوم بها الكتاب المبتدئون. وقد سُن قانون حقوق الملكية الفكرية، كرادعٍ لهذه الظاهرة وحماية حقوق الكتاب، الذين سطروا مدوناتهم وعصارة أفكارهم وإبداعاتهم مستنزفين عقولهم ومستثمرين مواهبهم، وممضين كل السنين والأشهر والأيام من أعمارهم، وربما حرموا ذواتهم من المتع الدنيوية، من أجل أن ترى أفكارهم وإبداعاتهم النور، وتُنشر على الملأ، في سبيل أن يفيد منها الأكاديميون والأدباء والقراء، كل حسب تخصصاتهم واهتماماتهم.
السرقات قديماً
والظاهرة موغلةٌ في القدم، قدم آداب الشعوب، وهي تتفق مع مفهوم السرقة العام، أي أخذ كل ما ليس لك عنوة، إذن هنا السرقة الأدبية تتفق مع السرقة المادية، مع اختلاف المسروق، الأولى السرقة النصية لكل ما يتعلق بالإبداع الأدبي، أو البحث النقدي والأكاديمي، والثانية تعنى بسرقة الأموال وبقية الممتلكات المادية للآخرين. وإذ نقول إن ظاهرة السرقات الأدبية تتجدد عبر العصور إلى يومنا، فإنه قيل إن سرقات القدماء أكثر من سرقات المحدثين، وأهم أسباب ذلك، «ضياع شعر طائفةٍ من الشعراء الأوائل مما يتيح للآخرين سرقة الأبيات أو القصائد وانتحالها لأنفسهم، من دون رادعٍ يردعهم، أو رقيبٍ يتابع سطوهم». وعلى ذلك كانت السرقات شائعةً منذ العصر الجاهلي، فكشف النقاد الأوائل سرقات بعضهم من البعض الآخر، والمثال على ذلك ما تذكره دراساتٌ عن السرقات في الشعر الجاهلي، عن سرقة الشعراء لبعضهم البعض، فهذا طرفة بن العبد مُتهمٌ بسرقة بيت شعرٍ يعود لامرئ القيس، فقد» قال طرفة بن العبد:
وقوفاً بها صَحْبِي على مَطِيهمْ
يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَلدِ»
وهو مأخوذٌ من قول امرئ القيس
«وقوفاً بها صحبي على مَطِيهمْ
يقولون: لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَملِ».
تناص وتلاص
لا نريد أن نسترسل كثيراً في الحديث عن السرقات القديمة، لأننا نريد التركيز على السرقات الحديثة، التي تورط بها بعض كبار كتاب العصر الحديث، وإذا كان من الصعوبة كشف السرقات القديمة، أو يتم الكشف عنها في عصرٍ لاحق، فإن السرقات الحديثة، تسهم في فضحها بسرعة، التقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي. وباتت السرقات الأدبية تُسمى حديثاً «التلاص» في تشابهٍ لفظي مقصودٍ مع مصطلح «التناص»، وحري بنا أن نعرف المصطلحين، كي نغور لاحقاً في مسمياتٍ تبريريةٍ أخرى للسرقات الأدبية.
التناص، حسب الويكيبيديا، مصطلحٌ نقدي صاغته الفيلسوفة والناقدة الأدبية البلغارية- الفرنسية جوليا كريستيفا (1941) ويشير إلى «العلاقات المتبادلة بين نص معينٍ ونصوصٍ أخرى، وهو لا يعني تأثير نص في آخر، أو تتبع المصادر التي استقى منها النص تضميناته من نصوصٍ سابقة، بل تعني تفاعل أنظمةٍ أسلوبية. وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماء، أو التلميح المتعلق بالموضوع، أو البنية والتحويل والمحاكاة». ويُشار إلى التناص بأنه من أهم المصطلحات النقدية المعاصرة. وهو بالتحديد، يعنى حسب كريستيفا «تداخل النصوص في النص الجديد»، مختلفاً عن التلاص الذي هو «أن يأخذ (أديبٌ) أو (فنانٌ) عمل غيره، ويُجري عليه بعض التعديلات البسيطة، ثم يدعي أنه عملُه، وهو يعلمُ أنه، لم يبذل أي جهد إبداعي». وما بين هذا وذاك، يبرر الذين يقومون بعملية السرقة أو التلاص، بأن ما قاموا به توارد خواطر أو اقتباس. وتوارد الخواطر، حسب معجم المعاني» شعورٌ باشتراكٍ في الفكر على بُعد، وتناقل الأفكار من عقلٍ إلى عقلٍ آخر على بُعد، بغير الوسائل الحسية المعروفة». أما الاقتباس فمن الناحية الاصطلاحية يُعرف بأنه «نقل نصوصٍ من مؤلفين أو باحثين آخرين، ويكون ذلك بصورةٍ مباشرةٍ، أو غير مباشرة، أو بصورةٍ جزئية، أو بإعادة صياغة؛ والهدف هو تأكيد فكرةٍ مُعينة، أو توجيه نقد، أو إجراء مُقارنة».
ويبدو أن هناك ثغراتٍ في ماهية تلك المصطلحات المذكورة، تجعل السارقين الحداثيين ينفذون منها في تبرير سرقاتهم، وإلا ماذا يعني استفحال تلك الظاهرة في جميع المجالات الإبداعية والعلمية والأكاديمية، فقد اطلعتُ في موقع «الجزيرة نت»، على مقالةٍ تتناول السرقات الأدبية، بتوقيع الكاتبة سعيدة شريف، تذكر فيها بأن الروائية التركية الكبيرة أليف شافاق تلاحقها تهمة السرقة الأدبية، حيث تتهمها نظيرتها التركية مينا جوكتشا كيريك كانات، بأن رواية شافاق «قصر البرغوث» المنشورة عام 2002 مسروقةٌ من رواية متهمتها «قصر الطيران» عام 1990، وقدمت ضد شافاق دعوى بالمحكمة، التي قضت بتغريم شافاق 5000 يورو (5477)، لكن شافاق رفضت هذا الاتهام على لسان دار النشر دوغان التي تنشر أعمال شافاق، وأنها ستستأنف الحكم.
وتورد مقالة الجزيرة المنشورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، آراءً حصيفةً للكاتب العماني سليمان المعمري، بشأن السرقات وتعكز السراق على حججٍ معينة، منها على سبيل المثال، مقولة الجاحظ «المعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك». ولكن هذه تعنى بتشابه المعاني المطروقة في نصوص الكتاب، وحين تتطابق اشتراطات المبنى عند الجاحظ مع المعنى، يصبح الأمر سرقةً واضحة، أو يذكر المعمري بأن هناك ثيماتٍ مشتركةً في الأدب العالمي، ولكن الاختلاف يجب أن يكون في المبنى، ثيماتٌ مثل «الحب، الحسد، الغيرة، الجنون، الخوف، الهروب من الموت، البحث عن الخلود، إلخ، ولكن أسلوب الكاتب ولغته هما اللذان يميزان نصه عن نص أي كاتب آخر، وهذا يسري على الدراسات والبحوث والمقالات أيضا».
شكسبير «السارق الأكبر»
بعد وفاته بقرون، ألصقت تهمة السرقات الأدبية، بأعظم كاتبٍ في الإنكليزية وليم شكسبير(1564 – 1616)، وأُلفت عن سرقاته المزعومة كتبٌ ودراسات، وسنح لنا أن نطلع على أمورٍ تفصيليةٍ بشأن تلك السرقات وحجج متهميه فيها، في مقالةٍ نشرها موقع «بالعربية»، بعنوان (السرقات الأدبية.. 4 أدباء في براثن العار.. أبرزهم «شكسبير») وتشير إلى أن مبررات اتهامه بالسرقات الأدبية تعود إلى الأصول المتواضعة لشكسبير، مثلما هي خلفيته الثقافية والتعليمية، وبعده عن القصور الملكية، التي تجري فيها غالبية أحداث مسرحياته. وحسب فرضية سرقات شكسبير، فإن مسرحياته كتبها أحد الكتاب النبلاء، ولكنه لا يجرؤ إشهار اسمه عليها، كما أيدت فرضية سرقات شكسبير، شخصياتٌ عالمية، أبرزها شارلي شابلن، وسيغموند فرويد. وللمفارقة فإن البحث في سرقات شكسبير، آل إلى ترشيح 80 بديلاً، كان أبرزهم: «إدوارد دي فير النبيل الإنكليزي الذي يحمل لقب «إيرل السابع عشر لأوكسفورد»، وقد اشتهر كشاعرٍ وكاتبٍ مسرحي، وعُرف عنه بأنه يكتب بأسماءٍ مستعارةٍ بسبب انتمائه إلى عائلةٍ نبيلة.
ويقال، إنه على الرغم من كل ما ذكر عن نبيل أكسفورد من ميزاتٍ أوردتها المقالة الآنفة الذكر، مثل علاقته بمسرح لندن وعلاقاته مع الأدباء آنذاك، وكذلك بالملكة اليزابيث وتعليمه الملكي وأسفاره إلى فرنسا وإيطاليا المذكورتين في مسرحيات شكسبير، على الرغم من كل ذلك، فقد فشل إثبات عائدية مسرحيات شكسبير وكل نتاجه الأدبي إلى نبيل أكسفورد، ولم تُحسم قضية سرقات شكسبير إلى الآن، على الرغم من التفصيلات التي تُستجد بشأنها.
توفيق الحكيم وحماره في «قفص الاتهام»
عربياً كثر الحديث عن سرقات الروائي المصري توفيق الحكيم (1898- 1987)، وأنها لم تقتصر على بداياته، وذلك في أول مسرحيةٍ له «العريس» التي ثبت أنها منقولةٌ نصاً من مسرحيةٍ فرنسيةٍ مجهولةٍ «مفاجأة أتور»، نص الحكيم بدا وكأنه فرنسي مترجم، كل ما فعله أنه جعل أبطاله مصريين فقط. ومع رسوخ التجربة الإبداعية عند الحكيم بمرور الزمن، لم ينكر أنه مارس الاقتباس في أعماله الأولى، لكن الطامة الكبرى تتمثل في أن السرقة رافقت الحكيم، حتى بعد أن أصبح علماً يُشار له بالبنان، وذلك ما تمثل في روايته «حمار الحكيم»، حيث كُشف بأنها مأخوذةٌ من رواية الكاتب الإسباني خوان رامون خيمينيث (1881-1958) «أنا وحماري» وكان هذا الأخير قد حاز جائزة نوبل للآداب عام 1956، وتذكر كل تلك التفاصيل مقالةٌ بهذا الصدد، بتوقيع الكاتب خلف جابر، ويوضح التشابه النصي بين الروايتين، وتشير المقالة أيضاً إلى أن كاتباً يُدعى أحمد رشدي صالح، نشر سلسلة دراساتٍ نقديةٍ مقارنةٍ بين أعمال الحكيم وأعمالٍ أجنبية، حيث كان «لمقالات صالح صدىً واسع؛ حتى أنها رفعت من نسبة مبيعات صحيفة (الجمهورية)» المصرية آنذاك.
وبجوار الحكيم نظيره المصري جمال الغيطاني (1945- 2015)، الذي اتهمه كثيرون بسرقته من المؤرخ المعروف «ابن أياس» وبأنه مارس النسخ واللصق لصفحاتٍ كثيرةٍ من ابن أياس، ويشير الصحافي المصري عصام زكريا في تحقيقٍ عن السرقات الأدبية، إلى أن سرقة الغيطاني واضحةٌ في روايته المهمة «الزيني بركات». ويستطرد زكريا بأن الغيطاني أنكر هذه التهم المُوجهة إليه، وأن الصفحات المنقولة استظهرها عن ظهر قلب، لكن الأمر لا يقتصر على تلك الصفحات، فهناك «اقتباسه للقصة والشخصيات والأسلوب واللغة». وعلى ذمة زكريا، فإن الغيطاني نقل صفحاتٍ كاملةً من الفيلسوف والمتصوف محيي الدين بن عربي، وذلك في ثلاثية الثاني «التجليات».
أدونيس والمازني
كذلك قيل عن اتهاماتِ للشاعر المصري إبراهيم عبد القادر المازني
(1889- 1949) وهو أحد أعمدة مدرسة» الديوان» المصرية بقيامه ترجمة قصائد من الشعر الغربي ونسبتها إليه، والذي أثار هذه الاتهامات نظيره في مدرسة «الديوان» عبد الرحمن شكري، ما سبب خصومةً أدبيةً كبيرةً بينهما.
الشاعر والباحث والمفكر السوري الأصل أدونيس، أيضاً أثيرت عليه قضايا سرقات، من عراقيين؛ مثل الشاعر الراحل سامي مهدي في كتابه «أفق الحداثة وحداثة النمط» والناقد كاظم جهاد في كتابه «أدونيس منتحلاً» ، ربما تلك الاتهامات المؤسسة على المقارنة بين نصوص أدونيس ونصوص أجنبية، تفتقد إلى الموضوعية التامة، وقد تشوبها مواقف شخصية من المرشح الدائم لجائزة نوبل، ولكن هذين المتهِمين وغيرهما، ينقلون عن أدونيس مقولةً مشابهةً لمقولة الجاحظ آنفة الذكر، ويتعكزون على أنها تبريراتٌ مسبقةٌ لسرقاته، إذ كتب أدونيس «إن العناصر كالنثر والوزن والأفكار إلى آخره ليست ابتكاراً لشاعرٍ محدد، وإنما هي موجودةٌ موضوعياً وجود الأشياء ولهذا فإن استخدامهما لا يكون سرقةً أو تقليداً».
كاتب عراقي
من العيب أن يسمى جميع المشار إليهم بلقب كاتب أو ناقد ألأخ، بينما يشار إلى أحمد شدي صالح، أحد أهم النقاد في زمنه، بصيغة كاتب يدعى، وكأنه أقلّ قيمة ممن ذكروا قبله، مع أن بعضهم لا يرتي إلى مثله.