«السكيتش»… الجنس السردي الذي يحيا بعيدا عن النقد

يندر، في تاريخ الأدب، أن نجد وقتا كان النقد فيه يقود الإبداع الأدبي، فالنص الأدبي غالبا متقدم على النظرية النقدية التي تستمد أصولها مما يستقر من منتج المبدعين. ولعل هذا الجنس الأدبي (السكيتش) مما يصلح برهانا على ما نذهب إليه، فهو موجود منذ ردح من الزمن، في الصحف وفي المجاميع القصصية أحيانا، واستطاع أن يصنع لنفسه شكلا وأصولا من غير أن يتناوله النقد بالدراسة والتنظير، بل ربما أهمله النقاد حين يعرض لهم لأنهم يزنونه بموازين القصة، فيجدونه قصة غير مستوفية الشرائط.
نجد في الموسوعات الأدبية والكتب التي تبحث في الأجناس الأدبية، أبان القرن الماضي مقالات عن السكيتش الأدبي، تعالجه بوصفه ظاهرة سردية شاعت في أوروبا وأمريكا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهو نص سردي خال من الحبكة، أو هو قائم على أقل قدر ممكن منها، ولذلك يكون عماده الوصف، وموضوعه شخص أو شيء أو مكان، هذا ما نجده، مثلا، في الموسوعة البريطانية Encyclopedia Británica، وكانت تلك المقالات تشعر قارئها، بأنها تتحدث عن جنس سردي منقرض، لكن ما أن اتسعت شبكة الإنترنت وامتدت تطبيقات التواصل الاجتماعي في القرن الحالي، حتى عاد السكيتش إلى الظهور، بوصفه نمطا سرديا مناسبا لهذا الوسيط الجديد، إذ يبدو أن الحاجة إليه تزداد كلما أصبح التواصل أسهل، فقد ربطه مؤرخو الأدب سابقا بازدهار الصحافة، على أنه نوع من الكتابة القادرة على تصوير الناس والأشياء والأمكنة، ليكون شبيها بأدب الرحلات، سوى إنه يتصف بالقصر. ومن هنا يكون ظهوره حتميا على الشبكة العنكبوتية.
يعمد أكثر من قاص عربي في السنوات الأخيرة إلى كتابة السكيتش على صفحاتهم الشخصية، نصوص إذا حاكمناها على أنها قصص فنحن نقتلها ونغمطها حقها، لأننا سنراها قصصا ضعيفة لا تستحق الاهتمام، بينما نعرف قيمتها الجمالية حين نميزها بوصفها جنسا سرديا آخر اسمه السكيتش، له أصول مختلفة عن القصة القصيرة، عندئذ ستدهشنا تلك النصوص، ببنائها السردي القائم على أقل قدر من الحبكة، وأكبر قدر من الوصف.
منذ بضع سنوات يكتب القاص العراقي فرج ياسين السكيتش على صفحته في فيسبوك، وقد جمع عددا منها، كان يسمها بوسم (قصص الخميس) ونشره في كتاب ورقي، وهو يكتب الآن سكيتشات تحت اسم (أيامي) أتوقع أنه سينشرها في كتاب أيضا، ومنها هذا السكيتش الذي أردت اعتماده مثالا على ما يكتبه وخصائصه الفنية والجمالية:

أيّامي (8)

عدتُ من رحلتي إلى تركيا عام 1979 وبين مشترياتي المتواضعة قلم رصاص أصفر جميل من النوع الذي يُلقّم من مقدمته بنبل دقيق جدا بطول قرابة العشرة سنتيمات، واعطوني معه علبة بلاستيكية بعرض الأصبع تحتوي على مجموعة النبل الاحتياط، وقبل ذلك لم أكن قد رأيت شبيها له في أسواق القرطاسية التي أعرفها عندنا.
كنت أحمله في جيب الصدر الداخلي، وربما أظهرته مرة أو مرتين، وأنا بين طلبتي في الصف؛ لكنني فقدته بعد مدة وجيزة، ولا أدري أين! بعد مدة جاء أحد الطلاب إليّ وطلب الحديث معي، ثم قال لي إن قلمك الأصفر عثر عليه الطالب فلان في ساحة المدرسة وهو في حوزته الآن، أنا مثل هاملت الذي كانت نوازع الثأر من قتلة أبيه تحثه على المبادرة، لكنه يصرفها عنه ويستغرق في التأمل، ولا يفعل شيئا. تخيلت أن الطالب سوف يقف أمامي موقف المجرم الآثم، ولا حيلة له إلاّ النكران، وتخيلته وهو يكذّب صاحبة ويقسم ويرتجف ويتضاءل أمام ضميره، فقلت لنفسي حسنا إنني لا أحب لحظات الضعف من هذا النوع، وكانت نفسي لا تسوقني إلى مواجهته. كنت كلما دخلت الصف أصرف نظري عنه لئلا يظن أنني سوف أفضحه أمام زملائه؛ وهكذا مرّ الوقت ومرّت الأعوام حتى عثرت ذات يوم على علبة النبل الاحتياط بين محتويات مكتبتي، فندمت لأنني لم أعط الطالب إياها، أو أرسلها إليه بطريقة ما في وقتها.
في هذا السكيتش تتركز بؤرة السرد على (شيء) بسيط وعابر، وهو قلم الرصاص الميكانيكي، ويمكن أن نلاحظ أن وصف القلم وملحقاته، شغل ما يقرب من ثلث مساحة السكيتش، بينما لا نجد من الحبكة سوى فقدان القلم وعثور أحدهم عليه، ولو نظرنا إلى النص على أنه قصة، فلا شك أننا سنراه قصة ضعيفة ليست بذي بال، لكن قراءته على أنه سكيتش تجعلنا نلتفت إلى وصف الشيء، وتصوير المشاعر المتصارعة التي عرضت لمالكه، عندئذ نكشف عن قيمة النص الجمالية، المتأتية من أنه نص سردي عماده الوصف لا الفعل.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Khalid:

    اسلوب كتابتك مبهر. هذه اول مرة منذ سنوات يجذبني مقال لدرجه كبيرة.

  2. يقول Khalid br:

    اسلوب كتابتك مبهر. هذه اول مرة منذ سنوات يجذبني مقال لدرجه كبيرة.

اشترك في قائمتنا البريدية