لم يكن خبر إغلاق خدمة «بي بي سي» عربي مفاجئا ولا مستغربا، رغم كل كلمات الحزن والاستغراب التي يعبر عنها كثيرون. لقد كانت الخدمة تحتضر منذ عدة سنوات، وكان الحديث عن تقليصها ماثلا منذ فترة طويلة. بدأ تقليصها منذ نهاية 2020، عندما استغنت الإدارة في عز أزمة كورونا عن خدمات خيرة مذيعيها، عندما قررت نقل البث من لندن إلى عمان الأردن والقاهرة.
أمضيت قرابة 15 سنة في إذاعة بي بي سي «ذائعة الصيت». مع الاسف لم تكن تجربة تستحق الافتخار، كانت أسوأ تجربة إعلامية بالنسبة لي. وهي في نظري، أسوأ مؤسسة إعلامية عملت فيها، رغم كل ما يقال عنها من أنها المدرسة والمرجع.
ما سأكتبه قد يكون مؤلما وقاسيا وصادما للبعض كما هو بالنسبة إليّ. ما شاهدته واختبرته على مدى هذه السنوات كان بكل أسف وحزن، دون المستوى الذي كنت أسمع عنه قبل انضمامي إلى هذه المؤسسة التي يشار إليها بالبنان، بأنها أم المدارس الإعلامية، لكنني وجدت أن «بي بي سي هنا لندن» اسم خاو من محتواه الكبير، وتهاوى ذلك الاسم منذ عدة سنوات. وينطبق على بي بي سي عربي واقول ذلك بألم وحزن، ما يقول المثل «من برا رخام ومن جوا سخام».
بي بي سي ستبقى كما هي مؤسسة تتحكم فيها جنسية واحدة أو جنسيتان، وستبقى مؤسسة مسمومة قوامها وأساسها التمييز بشكل ممنهج ومحترف
ما قدمته وما قرأته وسمعته وعاينته، لا يرقى إلى المستوى الذي يليق برصانة هذه الإذاعة، أساس الإنتاج الإذاعي فيها، ترجمة وتحرير وأداء صوتي.. كنا ومع احترامي لجميع العاملين فيها، بالفعل مترجمين وأحيانا مترجمين دون المستوى، وبعضنا كان مترجما غوغوليا، يترجم من غوغول ويعدّل قليلا وأحيانا «يرمي» الترجمة في الأخبار ليقرأها المذيع الذي أصبح صمام الأمان، ويترك الأمر لكل مذيع حسب أدائه وصوته وقدراته ودقة ملاحظته. لا أنفي أن هناك نظاما عمليا وصحافيا جيدا وسمعة «الحيادية والموضوعية»، لكن هذه السمعة وهنت وتراجعت وتتعرض الخدمة لانتقادات من كل حدب وصوب، بسبب التسيب التحريري وضعف الإدارة وعدم كفاءتها. الصحافي أصبح مثل آلة روبوت، بما في ذلك من رتابة وتكرار وملل.. أحيانا تقرأ الخبر نفسه من الصباح حتى الليل، وأحيانا أخرى يبقى الخبر لليوم الثاني، ناهيك من الأخطاء النحوية واللفظية وركاكة الصياغة وغير ذلك. العمل يشبه العمل في مؤسسة حكومية، وبي بي سي بالفعل مؤسسة أهلية تصنف مثل الحكومية تقريبا.
هذا غيض من فيض ولا شيء يذكر مقارنة بالأجواء المسمومة التي تنتشر في الإذاعة والتلفزيون وكل المنصات الأخرى. والسبب في ذلك هو صراع بين جنسيتين للسيطرة على المراكز الرئيسية، إداريا وتحريريا والبرامج الرئيسية. كل ذلك أدى إلى خلق شعور مؤلم بالتمييز الممنهج والمؤسساتي لدى من لا ينتمون إلى هاتين الجنسيتين. ووصفت هذا الصراع إحدى المجلات البريطانية المتخصصة «برودكاست» بأن الخدمة العربية في بي بي سي تعيش «حربا أهلية»، وهذا صحيح. ونتج عن هذه «الحرب الأهلية» حالات راسخة من المحسوبية والشللية والتمييز لصالح صحافيي هاتين الجنسيتين، ولا أقصد التقليل من قدرات بعضهم، وبينهم صحافيون قديرون، وما عليك إلا أن تلقي نظرة على من يشغل المناصب الإدارية العليا حتى تتعرف على هذا الواقع. عندما يستقيل أحدهم أو ينتقل إلى مكان أو منصب آخر، أو غير ذلك فإن منصبه يُستبدل بشخص آخر من الجنسية نفسها، ولم تعد خبرة الآخرين من غير هاتين الجنسيتين مهمة مهما كانت، فالأولوية للولاء والمحسوبية والانتماء إلى هاتين الجنسيتين.
الكعكة الكبيرة قسمت بينهما، ولا يهم إن كان أحدهم لديه خبرة، أم لا فالتبريرات والمسوغات الإدارية والقانونية موجودة أصلا، والكل يعلم مسبقا من منهم سيشغل المنصب، وعلى عينك يا تاجر. كثير من البرامج التلفزيونية والإذاعية الرئيسية أصبحت حكرا على صحافيي هاتين الجنسيتين، باستثناء بعض البرامج لتفادي الانتقادات والاتهامات بالتمييز، أضف إلى ذلك توظيف زوجاتهم وأزواجهم وأبنائهم وبناتهم واخواتهم واخوانهم وأصدقائهم الذين يعملون في الإذاعة وغيرها من المنصات الأخرى لبي بي سي عربي. طبعا يجدون تبريرات ومسوغات لذلك.
وهناك طرق عدة «للتسلل» للعمل في بي بي سي عن طريق العمل المؤقت، أو التدريب ثم يتحول هذا العمل بعد مدة وبعد التدريب إلى وظيفة ثابتة أو وظيفة غير ثابتة، وأحيانا يصبح هؤلاء رؤساء تحرير يشرفون على عملك. كل ذلك خلق شعورا مؤلما وإحباطا ويأسا لدى الآخرين. الكل يعلم بذلك، والنقابة اشتكت مرارا وأعدت قائمة بعددهم ووصل العدد الى نحو 50.
ومهما تذمرت واشتكيت فلا حياة لمن تنادي، هناك آلية للشكاوى بالفعل لكنها مضيعة للوقت والجهد وحرق للأعصاب دون أي فائدة. هناك حماية محكمة لهذه الثقافة من أعلى المستويات، من شؤون الموظفين (HR) الإدارة العليا الإنكليزية والقسم القانوني لحماية هذا الواقع والكيان، بما فيه من هدر للمال العام، ودافعي رسوم رخصة بي بي سي.
لا اعتقد ان الوضع سيتغير نحو الافضل، بي بي سي ستبقى كما هي مؤسسة تتحكم فيها جنسية واحدة او جنسيتان كما هو الحال منذ مدة، وستبقى مؤسسة مسمومة قوامها واساسها التمييز بشكل ممنهج ومحترف. في النهاية ألوم نفسي لبقائي طيلة هذه الفترة في مؤسسة تفتقر إلى المهنية الأخلاقية.
إعلامي فلسطيني
يجب ان توضح اي جنسبتين
كنت أتصور أن تتحدث عن الصراع فيما بين المصريين وحدهم، فهم في الغربة وفي أي مكان حاجة تكسف- يسعى بعضهم لإزاحة أخيه والحلول مكانه. أما الجنسيات الأخرى ولو كانت المالديف فهم متضامنون مهما كانت خلافاتهم.
شهادة قوية وصريحة ومباشرة. لا نستطيع الا ان نأسف على ضياع هذه الخدمة. من حسن حظ الكثر من العرب في اوروبا انهم لم يتابعوا هذه الاذاعة خلال السنين الاخيرة العجاف واحتفظوا في الذاكرة بايام الخير والنتاج الجميل الموضوعي الذي كان بعيدا عن الصراعات الشخصية والعنصرية. ايام المغفور لهم حسن الكرمي وفؤاد علم زملائهم.
باي باي بي بي سي عربي .باي باي لندن.
د. رجاء كومين
مستمع سابق
للأسف كلام واقعي و مقال رائع. بعيداً عن الراديو و التلفزيون، عند النظر إلى صفحات ال BBC عربية على مختلف مواقع التواصل الإجتماعي، سنرى أن في كل post أو حتى comment يوجد العديد من الأخطاء أو حتى الكوارث النحوية و اللغوية من قبل المشرفين. فالسؤال الذي يطرح نفسه، إذا كانت ال BBC توظف أشخاص غير قادرين على كتابة اللغة العربية بشكل سليم في العلن، فما هو الحال في السر و ما هي اللغة المستخدمة وراء الكواليس! للاسف هجرة العرب للغرب هي هجرة جسدية فقط، فالفساد و الواسطة و المحسوبية و الظلم هم موروثات جينية و نمط حياة للعديد من العرب.
و المحزن أيضاً أن ال BBC عربية ليست المنبر الإعلامي العربي في الغرب الوحيد الذي يعاني، فالحرة في الولايات المتحدة الأمريكية و العديد من المنابر العربية التي تحولت من منابر نشر صوت الناس، إلى منابر تنبض بالظلم و الواسطة و المحسوبية و الحياة الروتينية العربية.