بدا أن محاولات الاقتراب من سلام عبر الاتفاق السياسي، بما تخرج به المفاوضات المعلقة، بعيدة في الأفق السياسي للأزمة السودانية، فقد تباعدت مسافات التفاوض بين متقاتلين افتقدوا القدرة على تقدير الموقف السياسي والعسكري والإنساني لما يجري في السودان منذ عام ونصف العام، بمقاييس الدمار الذي سببته حرب بلا أهداف، إلا ما خلفته من فظائع وحالات كارثية بأكثر مما يحتمل واقع المعاناة الإنسانية. ولم تستطع الجهود المحلية والإقليمية والدولية الحد من اتساع رقعة الحرب، عبر التوسط والتفاوض بين طرفي صراع، لم يعد في مقدورهما مواصلة عملياتهما العسكرية وإدارتها على نحو ما بدأت في أيامها الأولى عند اندلاعها.
إن تناقضات مواقف الطرفين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع إزاء ما يجري من تفاوض وحرب في الشأن السوداني، لا تقل فداحة عما تثيره مواقفهما، بما انعكس سلبا على البلاد ومواطنيها. ففي الوقت الذي تجري فيه مفاوضات على إيصال المساعدات الإنسانية في جنيف برعاية الأمم المتحدة، منذ أن عُلقت مفاوضات منبر جدة بين الطرفين، وتشددت تصريحات قادة الجيش رافضة لأي تفاوض، ولو استمرت الحرب مئة عام، كما عبر الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة. وهي تصريحات على الرغم من عدم لياقتها السياسية، تعبر عن سياسية الحسم العسكري، التي يعتمدها الجيش في حربه ضد ما يسميها الميليشيا (قوات الدعم السريع)، وتعبيرا عن موقف عسكري محبط، لكن في الوقت نفسه لا تجرؤ هذه القيادات على إبراز موقف حاسم بشأن التفاوض على منبر جدة، منذ أن انطلق بعيد اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نسيان الماضي برعاية أمريكية – سعودية. ولم تكن استجابة الطرفين للذهاب إلى التفاوض استجابة لنداء وطني، أو إرادة جادة لوقف نزيف الحرب، بل كانت خضوعا لضغوط إقليمية ودولية مؤثرة، تداخل فيها الإنساني من معاناة المدنيين ضحايا الحرب، واستراتيجي من مخاوف تمدد الصراع، بكل ما يعنيه في نطاق إقليمي ملتهب، أبدت بعض من دوله مخاوفها، وما شكلته الحرب من ضغط باللجوء إلى أراضيها.
كلما طالت الحرب، التي تعقدت خاصة بالنسبة للجيش وكان من نتائجها سقوط المزيد من المدن والقواعد العسكرية بيد الدعم السريع؛ تباعدت فرص اللقاء بين الطرفين، أو التوافق على حد أدنى مما يمهد لعملية سلام أشمل
وكلما طالت الحرب، التي تعقدت خاصة بالنسبة للجيش بما شهدته عسكرياً من مواجهات، كان من نتائجها سقوط المزيد من المدن والقواعد العسكرية بيد الدعم السريع؛ تباعدت فرص اللقاء بين الطرفين، أو التوافق على حد أدنى مما يمهد لعملية سلام أشمل. ولكن ما بين بنود التفاوض المختلف عليها والخريطة الميدانية للحرب، تكمن تفاصيل تعد من ضرورات الحرب والمناورات السياسية، أكثر من قربها من تفاوض يفضي إلى تحقيق تقدم في الحل تستدعيه أزمة إنسانية تجاوزت انتهاكاتها سقف تفاوض الطرفين. وإن قبول الطرفين بالجلوس والتفاوض في جنيف بسويسرا، من أجل إيصال المساعدات الإنسانية على طريقة التفاوض غير المباشر، كما صرحت المتحدثة باسم الأمم المتحدة أليساندرا فيلوتشي؛ يعد تقدماً ولو اختلفت طبيعته عن التفاوض السياسي، فقد استطردت المتحدثة بأن التفاوض يأتي «لأن الوضع الإنساني في السودان يتدهور يوما بعد يوم، لذلك نحتاج حقا إلى النظر في التأثير المدمر لذلك على السكان المدنيين – ونحضّ الوفود على رفع هذا التحدي والانخراط في مناقشات بناءة». ماذا يعني التفاوض للطرفين، ولماذا طال تنفيذه، أو استئناف مداولاته بما يفهم منه أنه تفاوض لوقف الحرب؟ فمن واقع سياق الأحداث يعتبر الجيش ولأسباب منها ما هو سياسي وعسكري وجهوي، أن توصله لاتفاق تفاوضي يعني بالضرورة اعترافاً بهزيمة وتنازلا لا يرغب في نتائجه، ومن ثم الاعتراف بطرف تعده تمرداً وأقل كفاءة. فما يخشى منه الجيش وحكومته مرحلة ما بعد التفاوض، وأين سيكون موقع الطرف الآخر بما أحرزه من تقدم واستيلاء على مساحات شاسعة فرض فيها سلطته العسكرية؟ وسط هذا المشهد الملبد بالغيوم تستمر الحرب في ضراوتها متجاوزة كل المعايير الأخلاقية. ولكن ما يحكم عمليات التفاوض بين الطرفين ما قبل التفاوض أو أجندته لكل طرفٍ، وهو ليس حواراً يتأسس على قاعدة من التوافق، بل أقرب ما يكون نزاعاً عالي الوتيرة بين طرفين لا يملكان آلية القرارات المستقلة. فمرحلة ما قبل التفاوض هو ما يحدد خطوط مسارات التفاوض، أي بمعنى ما الأجندة السياسية وطبيعة الأهداف الاستراتيجية المرتبطة بمصالح إقليمية ودولية، أو أجندة سياسية خفية وهي بطبيعة الحال ومنطق الأشياء، يؤثر في مجرى التفاوض أو الموقف منه. فإذا كان الجيش الذي يستند إلى شرعية الحكومة القائمة غض النظر عن شرعيتها الدستورية، تجعل حدود قراراته مفتوحة متزامنة مع شعارات متوافقة مع الخطاب الشعبوي في التحشيد العسكري، على أسس منها الوطني ومنها الجهوي.
أما الدعم السريع (الميليشيا) فلا يملك إلا ما يحققه عسكرياً، وبالتالي يفرضه كأمر واقع يفتقد للشرعية، إلا بقدر ما يتبناه من شعارات جديدة تأخذ، من أزمة سياسات التهميش والأزمات التي رافقت سياسات الدولة السودانية في مركزيتها وهيمنتها القابضة. وقد تبنى الدعم السريع استراتيجية في التفاوض تقوم على القبول بالدعوة للتفاوض والاستجابة الفورية للنداءات الدولية لاستئناف المفاوضات ومنابرها المتعددة، ليس حرصاً على السلام، ولكن احراجاً لموقف الجيش، وكسباً لسمعة دولية بحاجة إليها ترفع عنه حرج الانتهاكات المرتكبة من طرف مقاتليه.
وما ينقص التفاوض أو الاتفاق عليه في جانبه السياسي الأطراف المشاركة التي هي إلى الآن تقتصر على ممثلي طرفي الصراع بين قوات الجيش والدعم السريع، وهو تمثيل يعكس ما يجري على الأرض، إلا أنه ينحرف بمسار التفاوض عن تحقيق رؤية شاملة لحل الأزمة، بما يقتضي مشاركة الأطراف الأخرى، تلك التي تناوئ استمرار الحرب وتمثل الجانب المدني المغيب سياسياً وتفاوضيا. وهو مشهد اختزل العملية التفاوضية وفق الرؤية العسكرية البحتة، ما نتج عنه إطالة أمد الحرب. وآثر الطرفان الحرب على التفاوض، لما يتيح استخدام القوة على أوسع نطاق، ومع ذلك لم تشارك التشكيلات المسلحة، التي تحالفت مع الجيش مؤخراً إلى جانب تنظيمات شعبية أخرى، في مسار تفاوضي كما لو كانت قوات أوكلت لها مهام القتال وليس ضرورات السلام. وما أثار دهشة المراقبين بما خرجت به قيادات الحركة الإسلامية، التي تتهم على نطاق واسع بوقفها وراء إشعال الحرب بقبول الجلوس مع قائد قوات الدعم السريع حميدتي، إن جنح للسلم، وهو تصريح خلافاً لما يتضمنه من إيحاءات أيديولوجية تمثل رؤية الحركة الإسلامية، إلا أنه يشير إلى مدى ما يشاع من تحكم قيادات النظام السابق في توجيه إدارة عمليات الحرب. وبهذا تكون الحركة الإسلامية نظام الإنقاذ السابق الذي اقتلعته ثورة ديسمبر 2019 الطرف الثالث الذي برز على المشهد التفاوضي، من موقع مربك ألقى ظلاله على مجريات الحرب والتفاوض معا.
إن وجود المفاوضات كحقيقة قائمة، بما يماثل دوي نيران الحرب نفسها، لا تفيد معها حالة الإنكار التي تصدرها تصريحات المسؤولين قادة الحرب، بموقفهم الرافض لاستئناف إي مفاوضات مع الطرف الآخر. ولكن ما تسرب للإعلام منذ ما عرف بمفاوضات المنامة في فبراير الماضي بين الفريق شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة نائب القائد العام للقوات المسلحة، وقائد ثاني قوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم دقلو، وأيا تكن طبيعة هذه الاتصالات السرية عبر قنواتها إلا أنها لم تسفر عن تقارب يؤمل منه أن يؤدي إلى سلام. ولكن يبدو أن معضلة عمليات التفاوض بين طرفي الصراع تأثرت بحجم القوة على الأرض، أو حسب قول السياسي البريطاني الأشهر ونستون تشرشل «نفوذ الدول يقاس بمسافة نيران مدافعها». ومن هنا يحاول كل طرف أن يتحقق له قدر من القوة بمفهوم السيطرة وفرض إرادته ومن ثم تقدير موقفه السياسي مهما تكن الحالة الإنسانية لمخرجات هذه القوة.
كاتب سوداني