الأحداث السودانية تسارعت وتيرتها على الصعيدين الميداني والسياسي، في سياق تعقد وقائعها وما نتج عنها من تجاوز حدود المعقول بالمعايير الإنسانية والسياسية. وترتبط هذه الأحداث المتفاقمة كنتيجة منطقية لآثار الحرب منذ اندلاعها في الخامس عشر من أبريل 2023 واستمرارها على الجبهات كافة كحرب أهلية شاملة تتباعد فيها مسافات الحل يوما بعد آخر، مع انسداد في الأفق السياسي، وبالتالي صعبت معالجتها في واقع عسكري وسياسي مأزوم.
ولم تكن تنقص هذه الحرب حلول فقد تعددت منابر ومبادرات تفاوضية، لكنها أخفقت في وقفها لعدم توفر الإرادة السياسية الحقيقية. فمن بين ما استجد على تداول الشأن السوداني من محاولات مدنية، بعيداً عن تجاذبات التفاوض، سعي القوى المدنية في الخارج، التي تنادت لإيجاد حلٍ لحرب يصمم طرفاها على مواصلة معاركها الضروس، مهما كلفت من ضحايا ودمار، أصاب البلاد بأكبر كارثة إنسانية، وما أفرزته من موجات نزوح في الداخل ولجوء إلى الخارج بشكل غير مسبوق. واللافت اجتماع القوى المدنية ممثلاً في تنسيقة القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) هذا الأسبوع بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا لوقف الحرب، وضمت عددا من أطياف المشهد السياسي السوداني، هذا التجمع أطلق عليه «المؤتمر التأسيسي»، ويقود هذا المبادرة رئيس الوزراء المدني السابق الدكتور عبدالله حمدوك، للتوافق على بناء جبهة مدنية موحدة لإنهاء الحرب.
ومن المشهد المدني إلى الوجهة العسكرية التي تحكم البلاد باسم مجلس السيادة على رأسها الفريق البرهان، وهجين حكومته من العناصر العسكرية والمدنية المتهمة بالوقوف وراء استمرار الحرب، وهي عناصر محسوبة على النظام السابق من الإسلاميين، ومؤخراً تصاعد خطابها الداخلي، وهي تواجه موقفاً عسكرياً ليس في صالحها بخروج ولايات بأكملها في غربي ووسط البلاد من سيطرتها كدولة وجيش، والخناق يتصاعد حول المدن في دارفور، وغيرها من نقاط ملتهبة على طول البلاد. وهذا الموقف يقابله موقف آخر ممثل في المساعي المدنية لوقف الحرب، التي يرفض الجانب الحكومي دعواها متهماً إياها بممالأة قوات الدعم السريع، بل يصفها الإعلام الرسمي بالحاضنة السياسية «للميليشيا المتمردة» الأمر الذي تنفيه وتشدد على ضرورة وقف الحرب وفق أسس جديدة للحوار، تخرج البلاد من أزمتها الكارثية. وأكثر ما تواجهه الأزمة السودانية سير المفاوضات التي تتعلق بحل النزاع بين طرفي الحرب، وقد تعقد مؤخراً الموقف التفاوضي، بعد أن رفض الفريق البرهان طلب وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن بالعودة إلى منبر جدة، وما تبع ذلك من تصريحات قد تخلق أزمة دبلوماسية بين بلدان تتشارك التدخل والدور في الشأن السوداني. فبعد تصريحات مسؤولين رسميين قللوا من أهمية المفاوضات، بطريقة تجاوزت الأعراف الدبلوماسية، وافتقرت بالتالي إلى الحس السياسي، رفضاً للعودة إلى التفاوض، بما حسبته إملاءات تقوم بها الدول الكبرى. وبهذا تكون الأزمة السودانية قد دخلت اتجاها آخر في معرض تداخلها الإقليمي والدولي، وهو ما لا تستطيع الحكومة الحالية مواجهته، أو تملك القدرة على التعامل مع نتائجه. فالولايات المتحدة إحدى الدول الراعية للمفاوضات مع المملكة العربية السعودية، منذ انطلاقها في مايو 2023 إلى جانب تأثيرها غير الخفي على مجريات الأمور وقدرتها بالتالي على دفع الأطراف نحو مائدة التفاوض المباشر أو غير المباشر، ولأن مبدأ السيادة الذي عبرت عنه الحكومة القائمة هو ما كان سبباً وراء رفضها العودة إلى جدة.
التوصل لحل مدني للأزمة السودانية رهين بمطالب يصعب توافرها في مناخ تسوده الاختلافات بين المكونات السياسية المدنية نفسها، ولا تملك قرار إيقاف الحرب إلا في حدود ما تضعه من تصورات
وقد أثبتت الحرب الجارية أن موازين القوة لا يملكها أي طرف من أطراف الصراع، بما يمثل موقفاً قوياً يتيح مستوى من الحركة أو المناورة. فعلى الصعيد العسكري تزداد الحشود المسلحة من حركات متحالفة مع الجيش (الحركات الدارفورية) وجماعات أخرى شعبية مسلحة بعض دعاواها ما هو مبرر، طلباً ودفاعاً، وهو ما عجز الجيش النظامي عن القيام به، ولا تزال قوات الدعم السريع تحدث تقدما، لم تفلح قوات الجيش في صده أو سحقه. وبهذا يكون الحل العسكري هو طريق القوى المتصارعة عسكرياً، حتى لو أدى لنهايات لا ترغب الأطراف في تحمل نتائجها أو مواجهة حقائقها.
إذن هل تستطيع القوى المدنية ولديها ما يؤهلها القيام بهذا الدور؟ تعول القوى السياسية المدنية على شرعيتها التاريخية، كأحزاب سياسية ذات تمثيل مجتمعي مقدر، وقوى أخرى من اليسار واليمين تستمد جزءا من هذه الشرعية من ثورة ديسمبر 2019 التي اقتلعت النظام السابق، ومن ثم انقلب عليها في أكتوبر 2021 الفريق البرهان، مسنوداً بقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي). ويغلب عليها العمل من المنافي، بسبب نشوب الحرب، فما تم تداوله في اجتماعات أديس أبابا لقوى تنسيقة القوى الديمقراطية كصوت مدني يدعو إلى وقف الحرب قد لا يتحقق الكثير مما خرجت به الاجتماعات، ولأن طبيعة المسارات التي ستتخذها في تنفيذ هذه المقررات تعول فيها على الشارع السوداني، كما يصرح منظمو الاجتماع، وهو كما يبدو بحاجة إلى أدوات تفعل هذا الدور على أرض الواقع أكثر من الطرح المثالي. وبما أن مطلب إيقاف الحرب تستدعيه الحالات الإنسانية أكثر من حسابات السياسة، إلا أن ذلك بحاجة إلى قرار سياسي على صعيد إدارة الأزمة نفسها، أو التقدم نحو حل تنجزه قوة يمتلكها طرف ما، فالمسار العسكري بما بدا من تصرفات الطرفين يشكل الصوت الأعلى مهما كانت دواعي استعادة حكومة مدنية ومسار ديمقراطي، كما تزعم قوات الدعم السريع. ومعادلة المساعي المدنية تحيط بها ظروف هيكلية داخلية وإقليمية ودولية في مناخ صراعات المصالح، لا يخلو من ظلال المؤثرات على اتجاه الحرب. فالرمزية السياسية للدور المدني لا يمكن تجاهلها وإن بدت مسارات مخرجاتها وصولا إلى غايات السلام تحيط به الشكوك. فعبثية الحرب الجارية تُغيِّب الرؤية الواضحة نحو مسار السلام، فالسلام مقابل الحرب لم يعد معنى محسوساً في الخطاب السياسي والعسكري السائد، فكل الأطراف انتابتها حالة من التدمير الذَّاتي تخطت كل هدف موضوعي للحروب.
فإذا كان أهم ما دعت إليه تنسيقة القوى المدنية يقوم بالأساس على الدعوة لمؤتمر مائدة مستديرة بمشاركة كل الأطراف، بمن في ذلك الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ، إلا أن هذه الدعوة المستنسخة من أدبيات السياسة السودانية التأريخية، مهما يكن وضوح طرح رؤيتها السياسية، لم تعد فاعلة في ظل حرب بهذا التمدَّد، أثرت على البنية المُشكلة للتركيبة الديمغرافية التي تصارع ويلات الحرب، فقد اتخذت الحرب أبعاداً جغرافية تعبِّر عن بنية المكونات الاجتماعية (القبائل) في حسم نتائج المعركة، وليس خيار السلام. فأصبح السودان استثناء في توصيف حروبه بين عرقية وقبلية وحدودية وصراع على سلطة في بلد منهار. إن حتمية التوصل لحل مدني للأزمة السودانية رهين بمطالب يصعب توافرها في مناخ تسوده الاختلافات، بين المكونات السياسية المدنية نفسها، ولا تملك قرار إيقاف الحرب إلا في حدود ما تضعه من تصورات إن لم تكن أماني. فالراجح أن استمرار المفاوضات أصبح جزءاً من إطالة أمد الحرب، ومثلما احتاجت الحرب إلى استراتيجية تحكمها بالضرورة إمكانياتها ووسائلها، ربما يحتاج السلام إلى استراتيجية عقلانية تعيد الأطراف إلى مبدأ الحوار.
كاتب سوداني