يمكن ملاحظة أنه منذ أواسط عام 2019، الذي شهد سقوط نظام الرئيس عمر البشير، والسودانيون يتعاملون بقدر كبير من الريبة والتشكك مع الظواهر الاجتماعية، حيث تسيطر على الكثيرين فكرة أن لا شيء يحدث بشكل عفوي، وأن كل الأحداث مرتبطة بتحريك سياسي غير بريء من الغرض.
لهذا التشكك ما يبرره، فقد بنت النخبة السياسية الجديدة خطابها على أساس التباين مع الخطاب السابق، الذي كان ينزع للاحتماء بالمفردات الدينية، والحرص على اكتساب شرعيته من خلال الارتباط ببرنامج إسلامي لا يختلف السودانيون على كثير من تفاصيله. كانت هذه النخبة الصاعدة تنتهز الغضب الشعبي، الذي أدى لحدوث التغيير السياسي، لمناهضة ذلك الخطاب ومحاولة تحديه، وذلك في إطار سحب البساط من دولة البشير القديمة وممثليها، الذين كان لهم وجود كبير، ليس فقط على الساحة السياسية، وإنما أيضاً على الصعيد الاجتماعي والدعوي والثقافي. كان «تفكيك» الدولة القديمة من أجل دولة أكثر عدلاً مطلباً مشتركاً بين أغلب الغاضبين، الذين كانوا يرون أن المؤسسات والطرق القديمة سوف تكون عاجزة عن تقديم حلول مختلفة لمشكلات التنمية والبناء والحرية، ما جعل الإعلانات الثورية في هذا الخصوص تقابل بكثير من الحماس والدعم الشعبوي.
السودانيون يتعاملون بقدر كبير من الريبة والتشكك مع الظواهر الاجتماعية، إذ تسيطر فكرة ألا شيء يحدث عفويا، وأن كل الأحداث مرتبطة بتحريك سياسي غير بريء من الغرض
على الصعيد العملي، وبعد فترة قصيرة من ترسخ النظام الجديد، برزت مشكلة لم تكن في الحسبان، مع استئثار الفصائل اليسارية من الثوار بقرارات الحكم والتشريع، فقد بدأت شرائح كبيرة من الشعب تنتبه لوجود خلط متعمد بين مطلب تفكيك حزب البشير واحتواء أعضائه وناشطيه، وسياسة أخرى لا تصوب سهامها فقط تجاه «إسلاميي السلطة»، وإنما تتوسع لتصيب جماعات إسلامية مختلفة وأنشطة دعوية غير سياسية، بل تكاد تستهدف الدين الإسلامي نفسه، في الوقت الذي تتيح فيه المجال لاتجاهات فكرية وسياسية بعينها، فاتحة أمامها طريق التمدد وعتبات العمل العام. كان ذلك الإحساس بالاستهداف من أهم الموشرات إلى أن النخبة السياسية، التي كانت تدعي النضال باسم المدنيين، والسعي لتأسيس دولة الحرية والمساواة، ليست أمينة في حمل الرسالة والتعبير عن أشواق الناس، وأنها، أي تلك النخبة التي احتفظت لنفسها بحق اتخاذ القرارات المصيرية، حتى التي يتجاوز صداها مدى الفترة الانتقالية، تهدف لاستغلال هذه الفترة من أجل تطويق منافسيها من المجموعات المحافظة، بما فيها تلك التي كانت ناقدة ومعارضة لحكم البشير، لتوضع جميعها في سلة واحدة، وضمن لافتات من قبيل عداء الثورة و»تجار الدين»، وهي توصيفات لم يسلم منها حتى إمام الثوار إبان لحظة الاعتصام. بالنسبة للخطاب الدعائي الموالي للسلطة، كان كل داعية معترض على طريقة الحكم الساعية لإقصاء الدين عن الحياة السياسية، هو تاجر دين وفاسد ومستفيد من النظام البائد. كان ذلك الخطاب قوياً ومصنوعا بعناية، خاصة خلال العامين الأولين، حتى أنه نجح في دفع كثيرين لترديد اتهامات طالت أفاضل الناس، من دون سند. الطريقة المتسرعة الساعية لتغيير المناهج الدراسية كانت حلقة أخرى من حلقات التغيير التي أثارت حفيظة الناس، فانطلاقاً من وجود مشكلات في المنهج الدراسي، وهو أمر حاصل ومسلم به، أعلنت الحكومة عن سعيها لتطويره، وهو تطوير لم يلبث أن ظهر أن القصد الأساسي منه كان تقليل الجرعة الدينية، وإضافة قدر من «الانفتاح» عليه. كان بالإمكان أن تمر هذه التغييرات من دون ضجيج، فكثير من دول العالم الإسلامي مرت بهذا الطريق بحجة محاربة التطرف، ونزع بذور الإرهاب، أو تكريس مبدأ التعايش بين الأديان، لكن الطريقة الاستعراضية والاستفزازية التي كان يتم بها ذلك المشروع سرعان ما لفتت النظر إلى أن الأمر ليس محض شأن تربوي، وإنما هو أقرب لتسييس المناهج وأدلجتها. على سبيل المثال فإن مسؤول المناهج القادم من الولايات المتحدة، والمعين حديثاً للإشراف على عملية التغيير أو التطوير تلك، لم يكن في حاجة لأن يعبر عن آرائه الشخصية حول القرآن الكريم، الذي تخيف آياته، في رأيه، الأطفال، أو أن يذكر الناس بطائفته ومدرسته الفلسفية التي ينتمي إليها، والتي ترى أن «الإسلام بنسخته الأولى غير صالح لإنسانية القرن العشرين» ولم يكن، حتى بذريعة التعريف بالحضارة الأوروبية، في حاجة لاختيار رسم يظهر الخالق عارياً ليوضع في صدر منهج المدرسة الابتدائية. ذلك الإصرار على الاستفزاز كوّن حالة من التحفز في وجدان الشعب السوداني، الذي تتكون غالبيته من المتدينين المحافظين، هكذا، وبينما كان البعض يتهم سياسيي الانتقال بالوقوف خلف محاولة التغيير الأيديولوجي القسري تلك، كان آخرون يرون أن «التغيير المتحكم به» بتفاصيله المضادة لقناعات أغلب الناس، هو مشروع أجنبي أكبر بكثير من رغبات الطبقة الحاكمة، التي لا يفكر أغلب أعضائها بأبعد من التمسك بأهداب السلطة، والتي لا يتجاوز دورها، في حقيقته، تمرير ذلك المشروع والوقوف ضد كل القوى التي تحاول منعه.
تلك وجهة نظر آخذة في التصاعد، وفي كسب المؤيدين لها والمقتنعين بها، وهي تفسر لماذا كانت أصوات الانتقاد للدراما السودانية الاجتماعية، التي عرضت مؤخراً، عالية، وكذلك الأصوات التي تتهم القائمين عليها بخدمة خطوط أيديولوجية. كان كثير من الناقدين ينظرون إلى ما يتم عرضه بوصفه جزءاً من حلقة متشابكة تشمل المشروع الأجنبي والسياسيين الذين يتبنونه وتنتهي بالإسناد الإعلامي، عبر وسائطه المختلفة، التي تبشر به وتمرره تحت مسوّغ حرية الإبداع. الدراما السودانية، مع كل ذلك، لا تحظى بنسب مشاهدة عالية، وحتى بعد الضجة التي أحدثتها بعض المشاهد التي نشرت عبر مواقع الإنترنت، بقيت الحقيقة هي أن العدد الأكبر من المشاهدين انتبه لهذه الأعمال عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، التي لولاها لكان الوصول لتلك المشاهد صعباً، ولمرت من دون تأثير. هذا العام شهد أول تجسيد درامي لشخصية رجل الدين، الذي يجمع بين الإمامة والفساد الأخلاقي، وهو ما أثار استياء واسعاً بين عدد من الدعاة وأئمة المساجد، الذين وجدوا فيها سخرية وتقليلاً من شأن المتدينين، ومحاولة بائسة لتقليد دراما عربية سبقت لهذا التناول. في ردود الأفعال على هذه الضجة انقسم الناس إلى فرق كثيرة كان أبرزها من جهة الفريق المدافع، الذي يرى أن من المهم تناول الفساد بين الأئمة، خاصة مع وجود حالات سابقة لرجال لم يمنعهم التستر بالدين من متابعة انحرافاتهم، أما من الجهة الأخرى فبرز فريق آخر يرى أن ما يعرض من أعمال على القنوات الرسمية، أو عبر وسائط الهواة لا يعدو أن يكون محض مؤامرة أخلاقية. يدخل في هذا نموذج الداعية الفاسد والقصص الأخرى التي تناولت الدعارة، أو تطرقت لمسائل حساسة كالمثلية الجنسية وانتشار المخدرات. كان بإمكان النقاش حول هذه الأعمال أن يأخذ أبعاداً نقدية هادئة تراعي أن الدراما السودانية ما تزال في أولى خطواتها، كما كان يمكن أن يتطرق النقاش للحدود التي تفصل بين طرح قضايا صادمة، وظواهر سلبية بغرض تسليط الضوء عليها وحلها، وما يجعل العرض أمراً أقرب للدعاية والترويج.
الحمولة الأيديولوجية، التي تربط بين هذه الأعمال، والتذكير بأحداث معاصرة من قبيل دفاع بعض السياسيين عن المثلية، أو مشاهد واقعية حدث فيها تطاول على أئمة المساجد، بما وصل حد إنزالهم من منابرهم، كانت تجعل مثل هذه النقاشات صعباً.
كاتب سوداني
أتابع ما تكتب باهتمام. المواضيع التي تطرحها غايه في الأهمية. استمعت إلى كم هائل من الكلام عما يجري في السودان لكن لم يتطرق أحد إلى مسألة تغيير المناهج الدراسيه أو اعلاء شأن الشذوذ في بلد مثل السودان.
بطبيعة الحال ليس هنالك عمل درامي بدون هدف او غاية ، وليس هنالك فئة اجتماعية مبرأة من العيب أو انها فوق النقد . حتي ان كثير من ايات القرءان واحاديث الرسول الاكرم حذرت اشد التحذير من امام يغش الناس ، او يقول ما لا يفعل. سلوك بعض المتدينين يغري بتناولهم بالنقد في اطار الدراما بلا شك . اتفق معك ان سياق وتوقيت عمل درامي ينتقد سلوك بعض المتدينين لاول مرة في تاريخ الدراما السودانية قد ووجه بكثير من الشك والريبة .
الشخصية نفسها حملت بالكثير من النقائص والعيوب ، مما هو غير معهود حتي في غير المتدينين ، مما يشيء ويعضد رأي القائلين بسوء القصد وانها تهدف الي تنميط رجال الدين والائمة ورميهم بكل بلية .