السيادة السيبرانيّة

ارتبط المفهوم التقليدي للسيادة الوطنية منذ كتابات جان بودان بعوامل تقليدية لها صلة وثيقة بالجغرافيا. مع ثورة الاتصالات، حدثت تغيرات هائلة في هذا المفهوم، وبات من الصعب القطع بفكرة السيطرة المطلقة على المعلومات في ظل الارتباط والاندماج بالشبكة العنكبوتية التي أضحت أحد أبرز عوامل القوة السياسية من جهة، وعناصر ضعف دول من جهة أخرى.

التحكم في البيانات

اليوم يجري الحديث عن مفهوم السيادة السيبرانية والذي يشير إلى القدرة على التحكم في البيانات والأجهزة والبرامج التي نعتمد عليها ونقوم بإنشائها، والتي أصبحت مصدر قلق للعديد من صانعي السياسة الذين يشعرون أن ثمة الكثير من السيطرة التي يتم التنازل عنها لأطراف قليلة جدا في سوق التكنولوجيا، ونفوذ كبير في أيدي عدد صغير من شركات الإنترنت الكبيرة.
دون شك، يلقى هذا الموضوع اهتمام كبير من الباحثين والأكاديميين ومراكز التفكير العالمية وله حضور قوي في الأدبيات السياسية والعلاقات الدولية، وبدأت تطفو على سطح النقاش تساؤلات تتعلق بقدرة الدول على التحكم في البنية التحتية الرقمية الخاصة بها وببيانات مواطنيها، مثل: هل ينطبق مفهوم السيادة على الفضاء السيبراني وهل الحفاظ على الحدود الإقليمية والمفاهيمية المرتبطة بالفهوم التقليدي للسيادة يتوافق مع فضاء سيبراني مترابط ومستقل؟
وهل البديل الافتراضي هو إعادة تفسير لقوة وسلطة الدول القومية؟ هل يجب إعادة بناء أو تفكيك الكيانات ذات السيادة السياسية من أجل التوافق مع الطبيعة “الحرة” المتأصلة في العصر الرقمي؟

منظور الأمن القومي

الثابت من منظور الأمن القومي، أن الفضاء السيبراني هو مجال يتطلب مسؤولية عالمية مشتركة بين أصحاب المصلحة على المستويين الوطني والعالمي. ومما يبدو أن أحد الحجج الرئيسية لإنشاء الحدود الرقمية في الفضاء السيبراني هي نفسها المستخدمة منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648 وهو الحفاظ على الأمن بمفهومه الشامل. وهذا الأخير هو أحد العوامل الدافعة لإقامة الحدود المادية والرقمية على حد سواء، قياسا على العديد من الأسباب المقنعة الأخرى التي تجعل الدولة تقيم حدودا، بعضها اقتصادي مثل (الحمائية) وبعضها ثقافي مثل (اللغة)؛ وهناك بعد قانوني (لا تتفق البلدان دائما على ما هو مقبول على الإنترنت وما هو غير مقبول)، ويبدو العالم بهذا المفهوم مقسّما، وسيستمر كذلك خارج الشبكة العنكوتية أو عبرها.
من الجدير ذكره في هذا السياق أن البعض يؤرخ لظهور مفهوم السيادة السيبرانية بعد عام 2011، بعد أن أصبحت التقنيات الرقمية ساحة معركة شرسة للمنافسة العالمية وما نتج عنها من توترات جيوسياسية، وباتت لهذا المفهوم دلالة إيجابية تفسر قدرة الدول القومية على تأكيد سيطرتها على البنى التحتية المقيمة داخل أراضيها والبيانات التي ينتجها مواطنوها، أي قدرة دولة في بسط نفوذها على فضائها السيبراني من خلال “استعادة السيطرة” على تدفق بياناتها وحمايتها من عمالقة شركات التكنولوجيا، بالإضافة إلى دلالة سلبية تدور حول تعريف الحقوق والواجبات الرقمية للدولة، ويمكن أن يستغرق تجاوزها شكل قطع الإنترنت وجدران الحماية الكبرى والمراقبة وانتهاك الحريات، بينما يؤكد البعض على ضرورة استخدام أو قبول مصطلح “السيادة الإلكترونية” انطلاقا من حاجة الدول لحماية معلوماتها الحساسة في الفضاء الإلكتروني من هيمنة مزودي خدمة الإنترنت للحفاظ على سرية وسلامة تدفق بياناتها وتوافرها. يرى آخرون في الواقع شرعنة للأنظمة السلطوية في بسط رقابتها على حرية الأفراد في الفضاء الإلكتروني وفق قوة القانون في حظر أو حجب أي موقع على الشبكة العنكبوتية، يمثل محتواه “تهديدا على الأمن القومي”.

تسارع عمليات التجسس

بعض الدول في ظل هذا التطور أعلنت عن رغبتها في إنشاء شبكة إنترنت وطنية، بعد الحديث عن تسارع عمليات التجسس التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، سواء ضد الخصوم أو الحلفاء، فضلا عن تصاعد الهجمات الإلكترونية ضد شبكات المرافق الحيوية، والتخوف من اختراق الشبكات العسكرية وسرقة المعلومات الاستراتيجية أو التحكم في الأنظمة العسكرية الإلكترونية، وتوجهت دول من الاتحاد الأوروبي، ومجموعة البريكس، نحو بناء شبكة داخلية للإنترنت. وقامت الصين بإنشاء الجدار الناري العظيم للعمل على الحماية من التهديدات الإلكترونية بأنواعها المختلفة، وسعت دولة مثل إيران إلى اعتماد وتوسيع نطاق سيادتها السيبرانية وخصصت لها موارد هائلة وذلك لإنشاء فضاء تتحكم فيه وطنيا، الأمر الذي يخرج مثل هذه الدول شيئا فشيئا من دائرة الهيمنة والاحتكار الذي تمارسه الشركات الأمريكية في هذا المجال.
لكن بعيدا عن مدى إمكانية نجاح هذه التجارب من عدمها في ظل الهمينة الأمريكية على قطاع الإنترنت والتكنولوجيا سواء في أنظمة التشغيل والابتكار أو الهواتف الذكية وقطاع الاتصالات السلكية وغير السلكية ومعداتها الشبكية، واحتكارها لسوق شبكات التواصل الاجتماعي، يبقى السؤال معلقا حول الموازنة بين الجوانب السلبية والإيجابية للسيادة السيبرانية ما بين رقابة الحكومات لمواطنيها أو بين حماية الدول رعاياها من همينة شركات التكنولوجيا العملاقة ومواقع التواصل التي تسيطر وتتوغل على هذا الفضاء وتنتهك سيادته كل يوم بمراقبتها خصوصيات المستخدمين وتتحكم بياناتهم ومعلوماتهم وكل ما يتعلق بحياتهم الرقمية!

باحث وكاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    بعد اعتماد (الترتيب الجديد للعالم)، تحت قيادة صندوق النقد والبنك الدولي، وأخيراً معهد الحوكمة الكندي، بداية من مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، هل هناك شيء مما نشره (خالد وليد محمود) تحت عنوان (السيادة السيبرانيّة)، الذي نشرته له، جريدة القدس العربي، البريطانية، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    سبحان الله، اليوم كان هناك عناوين كثيرة، تثبت عكس كل الفرضيات أو التأويلات، فمثلاً عنوان (انقطاع في خدمات فيسبوك وانستغرام وواتساب.. وسهم فيسبوك يتراجع 5.63 في المئة) من جانب، وعنوان (حصة الأردن في “باندورا”: جاهزية لـ”عاصفة الإعلام” القادمة وحجب موقع “الاتحاد” والأهم: التوقيت ولماذا النشر؟) من جانب آخر،

    ولتأكيد ذلك، ما طرحته موظفة (فيسبوك) كممثل (للقطاع الخاص)، في برنامج 60 Min عام 2021، بخصوص برامج الاتصال والتواصل الاجتماعي في إدارة وحوكمة برمجة الذكاء الصناعي، لتأكيد ما طرحه (إدوارد سنودن) من مستوى فساد إدارة وحوكمة (الإنترنت/الشّابِكة)، بواسطة (الإدارة الأمريكية) كممثلة (للقطاع العام)،

    أي من يضحك على من، أو من هنا أخبث/أذكى مِن مَن، في موضوع (عقلية/فلسفة) حقوق الإنسان، التي يُمثّل فكرها الفرنسي (برنارد هنري ليفي) وموضوع (وباء كورونا) بالذات

    https://youtu.be/bfNtxln_RK0

  2. يقول S.S.Abdullah:

    وكيف ممثل (الإعلام) يُتاجِر في موضوع تسويق (تنازله)، عن حقوق (طبع كتابه)، في هذا المجال، لتوضيح وكأن هو (ملاك) وليس (شيطان)، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، سبحان الله،

    ولذلك، حقيقة من هو الأخبث، فلسفة الإعلام البريطاني

    https://youtu.be/20M1pFOvG7I

    أم فلسفة التعاون مع الفرنسي (برنارد هنري ليفي) بخصوص (أفغانستان)، وإبن أحمد شاه مسعود، وبانجشير، من أجل استمرار (فتنة الحروب) في دولنا،

    https://youtu.be/vwgjYc2s_9U

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    الأفضل هو بإنشاء منافسين لجوجل والذي توقفت بعض برامج التواصل الإجتماعي فيه!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

اشترك في قائمتنا البريدية