السياسي وراء صراعات الهوية والمرجعية في المغرب؟

في الأيام القليلة الماضية، تفجر الجدل من جديد حول قضايا مدونة الأسرة والقانون الجنائي، وكانت المبادرة مزدوجة، من جهات مدنية وأيضا حكومية، إذ استمرت بعض الجمعيات الحقوقية في طرح مطلب المساواة في الإرث، وعضدتها مبادرة من شخصيات سياسية مدنية وسعت المطالب، وضمت إليها تغيير عدد من المقتضيات الواردة في مدونة الأسرة، تشمل إلغاء الإرث بالتعصيب، وتعديل القيود الشرعية المفروضة على الوصية، وزواج المسلمة من غير المسلم، وغيرها من القضايا المرتبطة بالنفقة والحضانة واقتسام الثروة بين الزوجين بعد الطلاق.
الفاعل الحكومي، مجسدا في وزير العدل السيد عبد اللطيف وهبي، كان قد وعد بإخراج مدونة أسرة حداثية، تقطع مع الفهم المحافظ للنصوص الدينية، ووعد أيضا بتغيير مقتضيات المنظومة الجنائية، لتلغى منها كل ما يمس -حسب اعتقاده- بالحريات الفردية، ويعني بذلك إقرار حرية المعتقد، ورفع التجريم عن الإفطار في شهر رمضان، وعن شرب الخمر، وإباحة العلاقات الرضائية بين الراشدين وعدم التعرض لها.
قبل يومين، ألقى السيد عبد اللطيف وهبي في اللقاء الذي نظمه مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة محاضرة تحت عنوان: «الحريات الفردية بين القيم الكونية والثوابت الوطنية» حاول أن يضع الإطار النظري والمنهجي الذي يؤسس من خلاله نظرته إلى تعديل منظومة القانون الجنائي، ويحاول الإقناع بأن ما سيقدمه ينطلق من «فهم مقاصدي مجدد للدين» وأن الفهم المحافظ «ينمط المجتمع» ويحجر عليه، ولا يفسح أي مجال لتصور «مجتمع متعدد».
ليس القصد في هذا المقال مناقشة الأفكار المتضمنة في محاضرة السيد الوزير، بل القصد تحليل السياق الذي يتم فيه رمي هذه القضايا للنقاش، والخلفيات التي تحكمها، لاسيما وأن ثمة إجماعا من لدن المطالبين بتغيير مدونة الأسرة ومنظومة القانون الجنائي، وأيضا من لدن المدافعين عن النصوص القطعية في الدين، أن الشرعية الدينية للدولة، لا تسمح بأن تتم أي محاولة لتعديل القوانين ذات الصلة بالمرجعية الدينية، إلا ضمن آلية، يكون العلماء طرفها الأساسي، وأن الملك بصفته أميرا للمؤمنين «لا يمكن أن يحلل حراما ولا أن يحرم حلالا».
ثمة فعاليات مدنية لها من الوضوح الكافي، لتعلن بأن مشكلة هذه القوانين في المغرب معقدة، وأن مراجعتها، تصطدم بمقاومة أصوليتين اثنتين، أصولية المجتمع المحافظ والتيارات الإسلامية التي تخترقه، وأصولية الدولة القائمة على الشرعية الدينية، في حين تحاول الفعاليات الأخرى أن تستثمر مقولة «الاجتهاد والفهم المقاصدي» لكي تعطي شرعية لمطالبها، وتجعل نفسها في تواؤم مع بنية الدولة وشرعيتها، وربما تحاول استقطاب الدولة لحسم المعركة مع محافظة المجتمع والإسلاميين.

ثمة مؤشرات واضحة بأن الحكومة الحالية أضحت عاجزة عن مواجهة التحديات، لاسيما تحديات الأمن الغذائي، وتحديات تحصين السلم الاجتماعي، وهي مؤشرات قد يستند إليها البعض لترجيح فرضية وجود إرادة لتغييرها

التاريخ يقدم معطيات مهمة لفهم السياق، فمحطة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي أعدتها حكومة التناوب سنة 2002، وكان يقود حملتها الوزير سعد السعدي، انتهت في الأخير بإعفاء الوزير، وتكليف لجنة يحضر فيها العلماء، لتسوية الصراع بين المحافظين والحداثيين، وانتهت بإصدار مدونة الأسرة التي حظيت بدعم العلماء وتزكيتهم، فيما بقيت منظومة القانون الجنائي على حالها، دون أن يستطيع أحد المس بالمقتضيات التي تزعم بعض الجمعيات الحقوقية أنها تمس بالحريات الفردية.
الذين تابعوا هذه المحطة، بكل تفاصيلها، بقوا في حدود تحليل المسار، أي كيف تتصرف الدولة لتدبير التوتر الاجتماعي، وأنها تعمد إلى آلية التحكيم ورعاية التوافق دون تهديد قواعد الشرعية الدينية، لكنهم أبدا لم يتأملوا الأثر في الديناميات السياسية التي تلت هذه المحطة، وأي معادلة للسياسة تشكلت بعد ذلك، وكيف كانت نتائج انتخابات 2002، وكيف تغيرت خارطة التحالفات، وكيف تم دق إسفين دقيق في نعش حكومة التناوب، وكيف انتهت رئاسة الحكومة إلى شخصية تكنوقراطية (إدريس جطو) وما ترتب عن ذلك من موقف للاتحاد الاشتراكي من الانزياح عن المنهجية الديمقراطية، وقرار عبد الرحمان اليوسفي اعتزال السياسة.
ما من شك أن الشروط الحالية مختلفة تماما، ولا يمكن للحاضر أن يكون مطابقا للتاريخ، بأن تعاد اللعبة مرة أخرى، لأن سيناريو عودة الإسلاميين، على الأقل في هذه الظروف، مستبعد، على الرغم من أن المستفيد الأكبر من النقاشات الهوياتية والمرجعية، سيكون بدون شك الإسلاميين، ولو من الناحية النظرية.
الثابت في التحليل، أن قضايا المرجعية والهوية، هي ورقة تملكها الدولة، وهي الوحيدة التي تملك إدارتها والتحكم في اتجاهاتها، لكن، مساحة المناورة بالنسبة إليها جد محدودة، فهي مطوقة بالخصوصيات التي تطبع النص الديني، ولا يمكن لها أن تجاري هذا التيار أو ذاك، خارج الأطر الأصولية والمنهجية التي يتم بها التعامل مع النص الشرعي، ثم إنها مطوقة بعد ذلك، بضرورة الحفاظ على التماسك الاجتماعي وامتصاص التوترات التي تخترقه، ومحاولة التماس أسس للتوافق.
معنى ذلك، أنها في الأحوال جميعها لا تمتلك إلا عنصر الزمن، أي الوقت الذي تتم فيه عملية إدارة هذه التوترات وتوجيه مخرجاتها في هذا الاتجاه أو ذاك.
ثمة من يدفع بحجة وجود أجندة خارجية تحاول تكبيل يد الدولة، وتقويض بعض أسس شرعيتها الدينية، لكن في الواقع، ثمة «سياسيا» داخليا ثاويا خلف تحريك هذه النقاشات في هذه الظرفية، يصعب قياسه بمحطة إدماج المرأة في التنمية قياسا مطابقا، وتصور إمكانية حدوث رجة سياسية تبعثر الأوراق بشكل كامل.
ثمة مؤشرات واضحة بأن الحكومة الحالية أضحت عاجزة عن مواجهة التحديات، لاسيما تحديات الأمن الغذائي، وتحديات تحصين السلم الاجتماعي، وهي مؤشرات قد يستند إليها البعض لترجيح فرضية وجود إرادة لتغييرها أو على الأقل خلق شروط دستورية، تساعد على ذلك، لكن في استقراء تجربة طرح قضايا الهوية للنقاش العمومي، وبهذه الحدة، ثمة سلوك سياسي مطرد في استثمار هذا الملف للتخفيف من حدة التوترات العميقة التي يصعب إدارتها في ظل الشروط الراهنة، ومحاولة استبدالها بتوترات أخرى هوياتية، تملك الدولة القدرة على إدارتها، ويكون ثمن تسويتها، إحداث تعديل حكومي، يحاول أن يقدم جوابا عن التوترين، بتعديل بعض الوجوه المسؤولة عن اختلال الأمن الغذائي (وزير الفلاحة) والهوياتي، بإعفاء وزير العدل، بصفته الفاعل الحكومي الذي ساهم في تأجيج التوتر الهوياتي.
الخلاصة، أن امتلاك الدولة لورقة إدارة الصراع الهوياتي والمرجعي، وقدرتها على توجيه مخرجاته، بحكم شرعيتها الدينية، يرجح أن «السياسي» الثاوي وراء طرح النقاش حول مدونة الأسرة والمنظومة الجنائية بهذه الحدة، هو تخفيف التوترات العميقة، وشغل الرأي العام بموضوعات ذات حساسية دينية لاسيما في هذا الشهر، والتهييء لتعديل حكومي، يرجى أن تكون فاعليته كبيرة، أو على الأقل، أن يؤمل فيه المواطنون قدرة على الخروج من الأزمة الاجتماعية الحادة.

كاتب وباحث مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حنفي المغرب:

    لم يكفينا كشعوب منهكة بنوائب الدهر وقد أثختنا جراح أنظمة سياسية مستبدة تصادر كل حقوقنا و حرياتنا وتنهب خيرات بلداننا لينضاف إلى ذلك استبداد من صنف ءاخر من طرف نخب تعيش في انفصال تام عن السواد الأعظم من شعوبها تستنسخ قيم مستوردة لتجارب إنسانية أخرى دون تنقيح وتريد إسقاطها إسقاطا على واقع مختلف في البنية والتاريخ! نعم للإصلاح والتقويم لكن ينبغي أن ينبع من القواعد وبالحوار والإقناع لا بفرض رؤية نخب معزولة تعيش في عوالم موازية منفصلة عن واقعها، إذا تم إقرار تغيير ما في مدونة الاحوال المدنية مثلا أو في غيرها بمباركة شعبية فهي على الرأس منا والعين، لكن أن تحاول فئة محدودة بحجة وصولها لمواقع القرار الحجر على الأغلبية الصامتة فذلك مرفوض جملة وتفصيلا مهما كانت المبررات.

  2. يقول رشيد:

    في الصميم . بوركت .

  3. يقول هيثم المغربي:

    قرأت ملخصا لتدخل السيد الوزير في الندوة حول موضوع الحريات الفردية بين الثوالت الوطنية والقيم الكونية فذهلت للتحول الجذري لتصوره للإشكالية, فمنذ أسابيع فقط كان يجزم بأنه سيفرض تغييرات جذرية في مدونة الاحوال المدنية كمسألة رفع تجريم العلاقات الرضائية خارج مؤسسة الزواج على سبيل المثال لا الحصر, لكن الظاهر أن أحدهم نبهه أن أهل الحل والعقد قد حسموا الأمر بأنه من غير الوارد الإقدام على خطوة في منحى تحريم حلال أو تحليل حرام و أنه من السهل إزاحته من منصبه بجرة قلم من الجهات العليا دون أن يخلق ذلك أدنى تأثير على المسار السياسي بالبلد, لذلك لبس الرجل جبة العالم الفقيه اليوم ليحث على العمل بفقه المقاصد للوصول لاجتهادات فقهية توفق بين المتغيرات والثوابث. ذكرني هذا بأحد المثقفين الذي عصد عصيدا ونادى بوضع حد للعمل بنصوص تحرم بعض العلاقات والمعاملات الإجتماعية لكنه لما سأله احد الصحفيين مباشرة بعد خطاب السنة الفارطة الذي قطع الشك باليقين بالمقولة المعروفة: “لا يمكن أن نحرم حلالا او نحلل حراما..” فرد المثقف أن الخطاب يحمل مؤشرات لإحداث تغييرات عميقة على نظام الإرث!؟ يصعب على المتتبع ان يستوعب ميكانيزمات التفكير والتحليل لدى بعض النخب التائهة والمتناقضة.

  4. يقول نوفل:

    يبقى فقط أن تطرح هذه التعديلات لنقاش عمومي معمق وتحاط بالدراسة من كل الجوانب لكي لا تفرز ظواهر وإشكالات عكسية (على سبيل المثال لا الحصر، لا يجب أن تتحول الخيانة الزوجية مثلا إلى وسيلة للانتقام أو الابتزاز…)

  5. يقول منير الصقلي:

    طرح الكاتب في فقرة من المقال ثلاث محاور: أولها النقاش الهوياتي وثانيها الأمن الغذائي وثالثها الإستقرار الإجتماعي، هناك بداية بعض المغالطات في مسألة مفهوم *القيم الكونية* كتعبير فضفاض عن قيم إنسانية مشتركة والتي يحاول عبثا البعض إدخال تحت عمومياتها الكثير من الظواهر المجتمعية المختلف عليها، فإذا تحدثنا مثلا عن الصدق والأمانة والإخلاص في العمل وإثقانه و… كلها قيم كونية لا يختلف عليها إثنان، لكن إذا تطرقنا لحرية العلاقات الحميمية خارج الزواج أو المثلية مثلا فالوضع يختلف لأن شعوب العالم تختلف حولها بين منفتح على تقبلها ورافض لاحتضانها. في كل الأحوال يبقى الحوار والتوافق هو النسق الأمثل لحل الخلافات، النقاش الهوياتي لا يمكن إغفال عامل طبيعة المجتمع المحافظ عموما والإنسياق وراء طموح فئة حداثية نخبوية لا تمثل بالضرورة شرائح واسعة من المجتمع، بل الأجدى التوفيق بين التوجهين مع احترام رأي الأغلبية، كذلك الأمر بالنسبة للأمن الغذائي ينبغي التوفيق بين توفير الحاجيات الأساسية للإستهلاك الوطني وتصدير المنتوجات الفلاحية للخارج من أجل تخفيف عجز الميزان بين الصادرات والواردات. الإستقرار الإجتماعي في الختام يأتي كثمرة لهذا التوافق المعقلن بين هاته المتناقضات.

  6. يقول شهدان باريس:

    إن كان المغرب دولة لايءكية فسيكون هذا لكن المجتمع المغربي لازال لم يستعد لهذا التغيير فالإباحية الجنسية وشرب الخمور وستليه حرية تناول المخدرات وما الي ذلك مما سيسبب في مزيد من الفوضي أكثر مما نعيشه اليوم أما قضية الارث والصوم والغاء الارث بالتصعيب واقتسام الثروة بين الزوجين عند الطلاق كل هذه النصوص يجب تغييرها .

  7. يقول علي او عمو:

    إذا كانت ( مدونة الأسرة ) الجديدة المغربية تسعى حقّاً إلى منح المرأة مزيداً من حقوقها المشروعة ، فعلى المُشرِع المغربي أن يعلم أنّ حقوقاً كثيرة للمراة قد تمّ هضمها من قبل السلطات المغربية من خلال العديد من الأمور ، كحرمانها من التعلّم خاصة في البوادي من خلال عدم توفير مدارس في الأرياف و في المداشير ممّا يحعل الطفلة للأعمال الشاقّة التي تفوق طاقتها الشيء الذي يتنافى مع حقوق الطفل ، بالإضافة إلى توفير عيش كريم للأسرة التي تُعاني من الفقر المُدقع ، و في المدن المغربية العديد من الطفلات القاصرات يعملْنَ في البيوت و هذا يتنافى مع حقوق الطفل و كذا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ، المهمّ في المغرب هناك تجاوُز لحقوق المرأة من طرف السلطات و انتهاك جسيم لحقوقها .
    لقد أصرّت السلطات المغربية في هذا الصدد و معها بعض ” شبه المنظمات الحقوقية ) ، أرادت فقط تغيير مسألة الإرث الذي لا يمكن أن يمسّ في توزيعه أية سلكة كانت لأن الله سبحانه و تعالى قد أورد نصوصاً قطعية حول الإرث و التي لا تقبل لا تأويل و لا تغيير .

اشترك في قائمتنا البريدية