(أن تجد الشعر طازجاً كالضوء، واستعارة لشيءٍ آخر)
بعض الكلمات مجرد كلمات، وبعض الكلمات تصبح شعراً، لكن هناك كلمات تصبح شعراً وتضيء، شعراً مذاقه الرؤيا وموكبه الدهشة ولغته الانبهار، لغة تحيط بمفردات هالات التكوين، ففي بعض الانكشافات كهذا القصيدة التكوينية، في ابتكارها العجائبي، والانجذاب الروحي إلى مسارها، في وجودها الميتافيزيقي في أعلى تصوراتها وتمثلاتها، والمؤيد بحلم سريالي في الحاضر والحضور، في محاوله هي أشبه بالمغامرة لمعرفة ماهية الشعر، أو الوصول إلى سر الأسرار، سر اللحظة الشعرية الذي يطوي الخلق والتكوين والابتكار، سنجد كماً هائلاً من الصور الهيولة في صوفية بصرية وانزياحات إيحائية تتدفق في القصيدة، تترجم وجه الفاعلية والكثرة فيها؛ استبصاراً واستنطاقاً عبر برهانها التأملي، فالقصيدة تبدو كأنها دورة فلكية مقدارها لحظة من الشعر، هذا ما ابتكره الشاعر شوقي بزيع في قصيدته «كعبة الكلمات» المستلة من ديوانه «الحياة كما لم تحدث» الصادر عن (دار الآداب) عام 2018 ، فيبدأ كما بدأ الشاعر الصيني لوتشي، الذي اتخذه أرشيبالد مكليش دليلا لمعرفة عالم القصيدة في كتابه «الشعر والتجربة» لكن بافتراضات جديدة فيقول في مفتتح القصيدة:
على الحد بين الكتابة والمحو
ينتظر الشاعر الشعر،
محلولكاً مثل أرملة في الحداد
ومنفصماً كالمرايا
ومستوحشاً كمسيح بلا مَرْيَمَات
وحيداً
سوى من تدفق نيرانه
يتخفى عن الناس
كي يتبارى على ملعب من رموز
الكلمات التي تتراءى قبالة عينيه،
أحلامه كالبيادق عمياء
إذا تأملنا شاعرية المشهد البانورامي سنجد أنه يضيف على النص جمالية آسرة، في افتراضات تكوينية وابتكارية يفترض أنها تحدث في خلق القصيدة، فالشاعر رأى كل القصيدة وهي تتكون في روحه، تحت تأثير النشوة الشعرية على شكل تدافع فكري أكثر منه صورا لتشكيل قصيدة. أصوات متدافعة، هي أقرب منها إلى اللغة السومرية التي كانت على شكل أفكار إيحائية، هذا هو الشعر الذي يراود الموسيقى عن نفسها، واللحن الأثير في سيمفونية كاندنسكي اللونية، الذي رأى كل الألوان في روحه قبل أن تراها عيناه، فرسم النغمات التي تمثلت أمام عينيه ألواناً، والشاعر شوقي بزيع رسم الأفكار التي تمثلت في روحه كلمات على شكل نغمات والألوان، فهي مقبلة من الأعماق صادقة ونقية، وتبعث الحياة، ونافذة نحو اللامرئي في عوالم الميتافيزيقا:
من بيدر الذكريات
ليس ما يتناهى إلى سمعه
غير غمغمة شبه مقروءة
بين ريحين مجهولتين،
تنمان في اللحظات التي تسبق الشعر
عن سُرح عاقرٍ
وزمان شتات
لكنه في الأشفّ الأشفّ من الروح
يرمي طرائده بسهام الخفاء
في سعة هذا الحضور الروحي المدهش، نتساءل عن فلسفة اللحظات التي تسبق الشعر، أو اللحظة الشعرية ذاتها وهي في التحول، وقبل ذلك هي في صيرورة التكوين الشعري، حيث تخرج الكلمات من حالة الاعتياد والتعود إلى حالة الشعر والانبهار، سنجد أن الشاعر في إبداعه التكويني لتشكيل أو تجسيد الحالة لا يجعلك تشعر فقط، وإنما يجعلك تلامس اللحظة بما فيها من هيولي تمرق ما بين المرايا، حيث يجتمع الصوت وصداه، الأصل والصورة فيها حتى يتجلى الشعر، وكأن الشاعر يدون سيرة ذاتية للحظة الشعرية قبل الكلمات، فيأخذنا إلى بعد آخر، إلى أسطورة في الخيال في حلم مواز لحلم آخر، يدون المقابل في مجازات ميتافيزيقية، لا يفترض، إنما يبحث في الاحتمالات، والموسيقى هنا هي موسيقى نشوء الحياة، واسعة بسعة الاحتمالات بامتدادات الافتراض في الخيال التأملي، موسيقى متواصلة لا تنتهي، ربما هي الفكرة الأولى للشعر، فهي أشبه بلعبة الكريات الزجاجية وتكوينات (الماندالا) تتملكها شبقية الاحتواء بلغة قزحيه، عبر إيقاعات تكوينية، هكذا تتدفق الحياة في الخيال، ليعيد الشاعر ابتكار ذاته وابتكار الشعر بلغة متجددة مع تجدد الحياة؛ ففي مشهد طويل رافد يمتد بعيداً عبر مجازات متوالية تعود بالشعر إلى سيرته الأولى، وكأن القصيدة في دورانها الذهني، هي قريبة من الروح، وكأنما هي تحت النجوم، تواكبها أنغام الموسيقى صعوداً ونزولاً وهي تتماشى مع تواتر الإيقاع، فتشير الصور والإيحاءات وجميع خطوط التكوين إلى فكرة الشعر، وحتى التأويل الذي ينتظر اكتمال الفكره فيقول الشاعر:
بين زلال الوجود المصفّى
وبين الحضور الهلامي للكائنات واقفاً وحده فوق هوة أقداره الغُفْل
كيما يلقح معنى عقيماً بأضداده في مضيق اللقى،
وكيما يقارب ما ليس يقوى
على وصفه باللسان،
فقد تختفي
خلف أسوارها بغتةً
مدن من بصيص العيون
رآها على غفلة
ثم ضاعت،
وقد يتعذر إلا بصنارة الحدس
رفع نقاب الضحالة
عن جوهر التسميات
هذه القصيدة مرئية بامتياز، تماما مع حلول الرغبة، صور كثيرة تعبر بخفة وهي تضيء كلما ذهبت في الفكرة، وتنقلنا من الواقع إلى عالم الشعر، وتجعلنا نتماهى كل التماهي مع هذا الكائن الزئبقي الهلامي الأطياف والحكيم والمتواضع كموسيقى بنغمات بنفسجية وارتعاشات لدموع ذهبية هزها العشق في تموج الشوق فيهتف الشاعر بقرائه:
يهتف الشاعر المستريب بقرائه،
مؤثراً أن يبالغ في وصفه
لبراري الشقاء التي أثخنت راحتيه
بأشواكها،
ربما رغبة منه في حرفِ أنظارهم
عن ثمالةِ ما خَمَّرَتْهُ خوابي
انخطافاته
من نبيذ المسرات،
إن ابتكار فكرة الشعر، لا عن الأشياء، بل عن نشوة الحضور في الحياة، وصولاً إلى الرؤى الحلمية والخيالية التي تثير الإدهاش، بحركة الصور المتداخلة إلى حدود الحلم، تدل على أن الخاصية الجوهرية في الفن الشعري، تعود إلى طبيعة الشعر نفسه، في أنه مطلق بذاته، وهي ذات طبيعة الموسيقى التي تعبر عن وجد جمالي:
تأتي عناكب خداعةٌ من أقاصي الظنون
لتمهر باللبس ثوب المعاني،
وتمحو الفروق الضئيلة
بين الجنون وبين الصلاة
ربما ألف صحراء تفصلنا عن يقين الرؤى
أَلْف حرَّاءَ تحجب عنا
كشوف الكتابة،
لكن ما يلزم الشعراء
هو الغوص حتى النهاية
في غار أعماقهم،
كي تضيء لهم، دونما موعد،
كعبة الكلمات
تبقى هذه القصيدة مبتدأً في امتداد التكوين، فهي لا تكتمل انتهاء، وكأن الشاعر ابتكرها تواً، فلا بوصلة تشير إلى الحداثة ولا خرائط لما بعدها، لأنها قصيدة تكوينية، وهي دليل لما بعدها، فكلما قرأناها ذهب المعنى رفقة التأويل إلى المستقبل.
كاتب عراقي