إشكالية التصنيف
شكلت إشكالية التصنيف الأجناسي، أحد وجوه أعطاب حداثتنا في الشعر كما السرد، ونتجت عنها آثار سلبية أعاقت تطوّر ذائقة التلقي العربي للأدب الحديث، والتكيف مع جمالياته التي حدثت طوال مئة عام. في الشعر، منذ بعد ثورة الشكل الشعري، التي كرّست مبدأ الاختيار الحر الناظم للموضوع، وفق رؤية شاملة، لم يعد للقصيدة جهازٌ قَبْليٌّ تصدر عنه أو تُحيل عليه، وهو ما قاد إلى بروز أشكال وظواهر فنية جديدة يكون الشاعر الحديث قد ابتكرها من ورشة جهده الإبداعي، أو استلهمها من قراءاته للشعر العالمي، أو لنظرية الأدب الحديث. فقياسا إلى مبدأ الهدم وإعادة البناء، الذي يتقاطع مع حرية ذات الشاعر وفرادته وثرائه الأسلوبي وطبيعة التجارب، أو المصادر التي تُغذّي عمله الشعري، ومع رغبته في التجاوز المستمر للأشكال، كان معمار القصيدة الحديثة لا ينقطع عن شهوة الابتكار والتجريب، ويغتني بأجناس شعرية جديدة أخذت تخرق الحدود بين الشعر والنثر. وقد انشغل الدارسون العرب المحدثون بسؤال الأجناس، وأدمجوه في نمذجاتهم التصنيفية، ابتداءً مع الشعر المنثور الحر والشعر، إلى أن عانت من إشكالية توحيد المصطلح بسبب سوء الترجمة والتباس الوضع والسياق، وهو ما خلق فوضى في تلقّي الشعر الجديد والارتياب منه. وعلى هذا النحو عانت قصيدة النثر، بل ندمت على اليوم الذي جاء فيه إلى العربية.
وفي السرد، وإن كان الأمر أخفّ منه في الشعر، تأثرت الأجناس التخييلية وغير التخييلية من الإشكالية نفسها، وعانى الكتاب المُجدِّدون والقراء على السواء من المؤسسة الثقافية الرسمية التي كانت تساير المجمع عليه داخل النظام الأدبي، وتهمش الجديد والمختلف. وإذا قصرنا هذا الأمر على جنس السيرة الذاتية، فقد عانى هذا الجنس نفسه، عدا «طابو» المجتمع المحافظ، من غياب الوعي النظري وشرائط الكتابة المفتوحة.
غياب الوعي
لم يكن عبد المجيد بن جلون، وهو ينشر سيرذاتي «في الطفولة» لأول مرة في حلقات أسبوعية في مجلة «رسالة المغرب» عام 1949، يرتهن بنموذج قبلي أو مُتعالٍ لنوع السيرة الذاتية، وإلا لكان جَنّسها أصلا. لكن نعتقد أنّ عمله يستضمر بعض «تجلّيات» هذا النوع في مجاله العربي، التي يمكن القول بأنه تشرب عناصرها عبر شبكة من النصوص السردية الحديثة التي طالعها في أيام شبابه الأول في فاس، أو أثناء إقامته الطويلة في القاهرة (1937- 1955) وفي طليعة هذه النصوص «أيام» طه حسين ومُجايليه من كُتّاب الفترة الليبرالية الذين لم تكن كتاباتهم تخلو من ميثاق سيرذاتي (توفيق الحكيم، إبراهيم المازني، عباس محمود العقاد..) وكذلك سرود الرحلات المغربية إلى الشرق، أو أوروبا التي كانت تنشرها جريدة «السعادة» المغربية في تلك الأيام أثناء الاستعمار الفرنسي، وتستمدّ رهانها من لقاء الذات والآخر، بل نفترض أن يكون الكاتب قد طالع بعض ما كان يُكتب من سير ذاتية مغربية أُنْتجت بين 1860 و1942، مثل: «ثمرة أنسي في التعريف بنفسي» لأبي الربيع سليمان الحوات، و«الزاوية» للتهامي الوزاني، و«الإلغيات» لمحمد المختار السوسي، و«ذكريات من ربيع الحياة» لمحمد الجزولي. لكن يبقى اتصاله بالأدب المصري الحديث منذ أواسط ثلاثينيات القرن العشرين، كما يذكر في سيرته الذاتية، قبل أن يسافر إلى القاهرة وينفتح وعيه أكثر على وسطها الثقافي، هو الذي غذّى نزوعه إلى كتابة سيرته الذاتية التي كان نموذجها الليبرالي، يراهن على الكشف عن آثار التمزق والحيرة والتعبير عن عجز الانتماء إلى الواقع السائد.
وعلى غرار «الأيام» – على سبيل التمثيل- يواجه قارئ «في الطفولة» صعوبةً في تحديد الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل، غير أنّ العنوان يوحي له بأن يفهم هذا العمل، بأنّه سرد للأحداث والوقائع المؤثرة التي عاشها الكاتب في طفولته الماضية، ابتداءً من الطفل الذي كانه وهو يتحسس عالمه ويحاول اكتشافه، أو حين يكتشف «الصدمة» التي تلقّاها في أول دروس المدرسة، لكنه انتصر على إكراهات الواقع، وحقق رغبته في أن يثبت فرديته وطموحه بعد أن انخرط في مشروع الكتابة والوعي بالمسألة الوطنية. ورغم أنّ الكاتب عبد المجيد بن جلون ترك عمله الأدبي خارج التصنيف الأجناسي، لأن ذلك لم يكن شاغله أو كان واعيا به في حدسه النظري، على عادة مُجايليه، لكنه ضَمّن هذا العمل مؤشرات ومعطيات نصية وموازية تُدْمجه ضمن النوع السيرذاتي، ومحكي الطفولة على وجه خاص، وإن كان النقد الروائي يدرج العمل، إلى وقت قريب، ضمن جنس الرواية.
قد يكون «الخبز الحافي» للكاتب المغربي محمد شكري أشهر سيرة ذاتية بعد «طفولة» عبد المجيد بن جلون، الذي زاد من شهرتها المدوّية ذلك المنع الذي طالها سنين عددا، والتهديدات التي تعرّض لها صاحبها وصلت إلى حدّ إهدار دمه، عدا اللغة الشرسة التي كُتبت بها. لم أقرأ هذه السيرة الذاتية إلا بعد أن طالعت «زمن الأخطاء» وهو الجزء الثاني منها، بل الأقوى لغةً وبناءً وتخييلا. وتساءلت بيني وبين نفسي، وهو ما سأقرؤه لاحقا في آخر حوارات محمد شكري الذي اعترف بأنّ شهرتها قد سحقته، بحيث تحوّلتْ إلى لعنة في مساره الإبداعي الذي كان يتطوّرُ باستمرار إلى عام رحيله (2003) بل إلى حجاب كثيف ذهب ضحيّته مُؤوِّلوه وقُرّاؤه. يذكرني هذا بـ»اسم الوردة» لعنة أمبرتو إيكو، ورُبّما لعنات أخرى في تاريخ الأدب قديمه وحديثه.
لكن الأدهى من هذا كلّه هو أن يتصرف الناشر الجديد للسيرة الذاتية على أنها (رواية) وحتى بعض النقاد الذين توجههم أيديولوجيا السيرة الذاتية يصنفونها بأنها «رواية شطارية» أو رواية سيرذاتية» وبالتالي لا يتمُّ تقدير المعنى الإنساني والجمالي الرفيع للجنس الأدبي، بوصفه عمارةً نوعيّةً وميثاقَ قراءة ينشأ على الدوام بين النص وقُرّائه. ولهذا، لا يُعقل، وقد صار الكاتب مقترنا بسيرته الذاتية، أن تُصادَر حُرّيته في كون سيرته، هي توقيع شخصي بكل ما تعني العبارة، وهي سيرة جيل، وشهادة ـ دون ادّعاء وُثوقيتها- على حقبة صعبة من تاريخ المغرب المعاصر.
خارج التجنيس
من المسائل الخلافية التي أثارتها «الذاكرة الموشومة» لعبد الكبير الخطيبي، صعوبة تحديد الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه، بسبب خاصية الكتابة والتركيب الفني الذي جاءت فيه من نواحي الثيمات واللغة والبناء، أو بسبب الهجنة التي طبعتها وخلخلت أوضاع الدال النصّي عبرها؛ فتارة نُعتت بأنها «رواية» و»رواية سيرذاتية» و»سيرة ذاتية» وتارةً أخرى بأنها «تأمل» و»تحليل- رواية» و»تخييل ذاتي». وهذا لعمري يكشف تعدد مواثيق القراءة في كل مرحلة، ويكشف – بالنتيجة- عن طبيعة تفكير الكاتب وتمرّده على مؤسسة الجنس الأدبي وأطره النظرية الصارمة في مسيرة أعماله الإبداعية. لكن لا يُفهم من هذا أنّ عبد الكبير الخطيبي لم يكن واعياً بما يصدر عنه، ولا كان جاهلاً بمسائل نظرية الأدب الحديثة التي كانت لها سطوةٌ في النقاش الثقافي والأكاديمي وقتئذٍ؛ بل حين أصدر «الذاكرة الموشومة» كان القرّاء قد سبق علمهم باطلاعه الجيد على هذه النظرية ونقدها، كما يظهر في دراسته اللمّاحة حول الرواية المغاربية؛ وهي الأطروحة التي ناقشها في جامعة السوربون في باريس عام 1965.
ورغم الوعي بحداثته الكتابية التي كانت تخلق قوانينها الخاصة، بقدر ما تقطع مع الرواية المغاربية التي حاكَتْ في معظمها النماذج الغربية والعربية التقليدية، ولاسيما في ضوء موجة الرواية الجديدة التي عاصرها في إقامتها الباريسية، لم يترك الكاتب عمله الأدبي «الذاكرة الموشومة» خارج التصنيف الأجناسي، إلا أنه أقرب ما يكون إلى «تصنيف ما لا يُصنَّف» أي لا ينطلق من المعيار إلا لكي يخترقه، وهذا الخرق هو ما ينزاح به إلى تشييد شعريته الخاصة. ولهذا، وجدنا آراء مختلفة ومتضاربة في تحديد الجنس الأدبي للعمل من لدن ناشره ودارسيه، وحتى الكاتب نفسه ساهم في هذا التعتيم ضمن لعبة الإغواء التي مارسها على مُتلقّيه وآفاق توقُّعهم له، من خلال التعليقات أو الحوارات التي أُجْريت معه. وقد عدّ محمد نور الدين أفاية العملَ «نصّاً حَبَل بِجُلّ النصوص الأخرى التي عمل الخطيبي، مدة طويلة، على صوغها بأشكال وطرائق مختلفة، وما يوحدها هو الرغبة في تكسير الأنماط التقليدية والكلاسيكية المتداولة في الكتابة».
من أجل إعادة تجنيس العمل الأدبي وفق ما يتيحه لنا ميثاق القراءة، يجدر بنا في البدء أن ننطلق من العتبات والمؤشرات النصية (العنوان، صورة الغلاف وتقطيعها السيميائي، التصدير، كلمة الغلاف) التي تتوافر داخل الكتاب في نسخته الفرنسية الأصلية، بما فيها تلك التي حرص الكاتب على تثمينها داخليّاً، أو غيرها في النصوص الموازية؛ ليس لأنّ مثل الصنيع يحدد الأثر التعاقدي بين العمل وقُرّائه، بل لأن هذا الأثر كذلك يتغيّر عبر التاريخ. بيد أنّ التعيين الأجناسي الذي وضعه الكاتب في الصفحة الثالثة: «سيرة ذاتية لِمُتحرّرٍ من الاستعمار» Autobiographie d’un décolonisé، لا يسمح بإعادة تجنيس العمل ضمن السيرة، بل إعادة تأويلها. وأزعم أن هذا التعيين من وضع الكاتب نفسه، وفيها شيءٌ من ابتداعه وسَمْت تفكيره، بناءً على معطيات نصية وعبر نصية (تاريخية، سياسية، تداولية..). وإن كان الوَسْم «مُتحرّر من الاستعمار» يركز على وضع الذات داخل التاريخ وعلاقتها مع العالم وحدود وعيها به في فترة الاستعمار وبعده: «ما أريد أن أتحدث عنه هو الشخص داخل التاريخ، في فترة الاستعمار، وعهد الاستقلال، وكيف يعيش حتى الآن العلاقة مع العالم وبقايا الاستعمار، وبخصوص اللغة التي يستعملها، لكن هذه الأشياء مع نفسه، وفي حدود وعيه» وبالتالي يضيء جوانبَ وأبعاداً من العمل الأدبي، إلا أنه يظلُّ أسير المرحلة التاريخية – الاستعمارية التي أملته. وهنا يحتاج الأمر إلى تأويل مضاعف.
كاتب مغربي