«الرواية سيرة من لا سيرة لهم» كما يقول عبدالرحمن منيف، ويقول جورج ماي، في كتابه «السيرة الذاتية»: «الرواية والسيرة الذاتية هما شكلان يمثلان قطبين لجنسٍ أدبي مترامي الأطراف، يجمع بين الآثار المنضوية فيه أنها تتخذ من حياة إنسان موضوعاً لها»، بينما يقول سلطان بن سعد القحطاني، بعد ذكر مجموعة من الفروقات الجوهرية بين الرواية والسيرة: «لا يمكن أن تكون الرواية سيرة ذاتية، ولا السيرة يمكن أن تكون رواية، وقد اجتهد النقاد في تعريفها وفصل كل منها فصلاً ليس بالكلي؛ ليكون لكل منها شخصيته المميزة، ولذلك يجب علينا أن نحافظ عليها بتعزيزها وليس بخلطها». إن الاختلاف الكبير في رؤية العلاقة بين الرواية والسيرة، اختلاف مشروع تبرره – في الأساس- مرونة تعريف كل من الرواية والسيرة، وأن الرواية تستوعب كل الفنون الإبداعية، بالإضافة إلى تنوع طريقة وأسلوب كتابة السيرة والرواية، ما يجعل من الفصل القاطع بين الرواية والسيرة غير ممكن. ولإلقاء بعض الضوء على العلاقة بين الرواية والسيرة، توجهت «القدس العربي» بالسؤال التالي: «هل تُعد السيرة الذاتية رواية؟ ولماذا؟» إلى مجموعة من المبدعين والمهتمين، فكانت هذه الآراء:
الاحتكام إلى الواقعي والتاريخي
الأكاديمي المصري محمود الضبع
أدب السيرة الذاتية فن قائم بذاته، وله أبنية محددة يعرفها أهل الاختصاص، ويمكن إجمالها في: الاعترافات، واليوميات، والمذكرات، وأدب الرحلات، والذكريات، ونماذج كتابه في أدبنا العربي (طه حسين، ومحمود الربيعي، وشكيب أرسلان، وجبرا إبراهيم جبرا، ونزار قباني، وطارق الطيب، وغيرهم). وهناك خلط بين أدب السيرة الذاتية، والسرد الذاتي الروائي، وهو خلط ناتج عن تداخل الأنواع الأدبية، وهدم الحدود الفاصلة بينها، إضافة إلى ذائقة التلقي التي لم يعد في الإمكان إغفالها في تحديد جماليات النوع، التي قبلت هذا التداخل. ويعد المتحكم الأول في تحديد الملامح الفارقة، هو الاحتكام إلى الواقعي والتاريخي، ففي حين يمكن محاكمة أدب السيرة بمطابقة الواقع والتاريخ، فإن الرواية مهما كانت معتمدة عليهما فإنها تصنع عوالم خيالية لا وجود لها في الأساس، ولا يمكن محاكمتها عليه، مثل رواية «ثلاثية غرناطة» لرضوى عاشور (رواية تعتمد المتخيل السردي)، في مقابل سيرة «الأيام» لطه حسين (أدب سيرة ذاتية). وحتى مع التماهي الذي حدث مؤخرًا في المزج بين الذاتي والتخييلي، عبر نماذج روائية عدة، غير أنه يمكن القول في النهاية إنه إذا كانت السيرة الذاتية هي سرد سيرة حياة إنسان، ورصد منجزاته، وإذا كانت الرواية فنًا أدبيًا سرديًا له مقوماته الفنية وسماته الجمالية المعروفة، فإنه بالضرورة يكون هناك تداخل واضح بينهما، ذلك أن سارد السيرة الذاتية يحكي رواية حياته، وسارد الرواية يصنع سيرًا ذاتية خيالية لشخوص لا بد لها في نهاية الأمر من أن تتمثل واقعيًا في وعي المتلقي ليستقبلها، وإلا استشعر أنها لا تنتمي لعالمه الأرضي، كما يحدث في أدب الخيال العلمي مثلاً.
السيرة الذاتية التي تتناول حياة الكاتب ويكون هو السارد فيها، لا تدخل ضمن الفن الروائي على ما بين هذين النوعين من الكتابة السردية من التباسات وتداخلات.
التباسات وتداخلات
الناقد والشاعر الفلسطيني فراس حج محمد
يعرف فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها «سرد استعادي نثري يخص به شخص ما حياته الخاصة»، وتدور السيرة الذاتية كذلك في ثلاث سمات، كما يوضحها جيرار جينيت بقوله: «مصير ذاتية حقيقية، وصيغية (سرد استعادي على لسان المتكلم) »، من هذين التوصيفين للسيرة الذاتية، يتبين افتراق السيرة الذاتية عن الرواية، بوصف الرواية «متخيلًا سرديًا» يقوم على أحداث ليست لها مرجعيات واقعية حقيقية، أي لا يتطابق الحكي فيها مع أحداث واقعية، فمجتمع الرواية من سارد وشخصيات، وما يُحاك بينهم من حكايات وأحداث لا تحيل إلى حياة الكتاب، ولا يحق لأحد أن يربط بين ما في الرواية من عناصر وحياة الكاتب.
على الرغم من أن الروائيين عمومًا لم يتركوا أمر حياتهم الشخصية بعيدًا عن متخيلهم الروائي، فثمة كتاب استفادوا من خبرتهم الشخصية، ووقائع حياتهم في بناء عوالمهم الروائية كالروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، والروائي غسان كنفاني على سبيل المثال، وكثرت في الفترة الأخيرة اعترافات الكتاب التي كشفت عن أنهم استمدوا رواياتهم من وقائع حياتهم التي عاشوها كالروائي الكويتي طالب الرفاعي، الذي وظف جانبًا من حياته في روايته «النجدي»، بل إن هناك كتابًا كثيرين كتبوا سيرهم الذاتية بقالب روائي، كما أشار إلى ذلك الناقد العراقي عبد الله إبراهيم، الذي أفرد فصلاً كاملاً في «موسوعة السرد العربي» لمناقشة ظاهرة «السيرة الروائية»، وتناولها في أعمال العديد من الكتاب العرب. وعلى الرغم من ذلك، فإن السيرة الذاتية التي تتناول حياة الكاتب ويكون هو السارد فيها، لا تدخل ضمن الفن الروائي على ما بين هذين النوعين من الكتابة السردية من التباسات وتداخلات.
ممارسة إبداعية ومهارة لغوية
الأكاديمي الجزائري سعيد موفقي
اتسمت الكتابة السردية في الأدب الحديث بميلها إلى الذات، وتناولها كظاهرة محورية في حياة الإنسان، ولم تعد الحدود المعيارية عائقًا في تجاوزها إلى بناء مختلف عن الرواية، ولكنها لم تبتعد عنها كثيرًا، لأن هنالك رغبة في البوح والبحث عن تموقع واقعي وامتداد فني جديد كما تقتضيه القراءة الجديدة للحياة والكون والفضاءات المختلفة والماضي والذكريات، التي ستتحول إلى مشروع إبداعي، ولعل التجارب الشخصية والنظر إلى علاقة الذات بها من زوايا استراتيجية فلسفية، أصبحت تنجذب إلى شكل آخر ومناسب لطبيعة التفكير والتعبير، ويتحول الخوض في مسألة توثيق السيرة من مجرد أخبار أو يوميات أو ترجمة، إلى أبعد من ذلك، غير المعنى الاجتماعي والبناء الخيالي للشخصيات والأحداث، ولم يعد جنسها الأدبي الذي تعتمده القصة أو الرواية يعيقها، وإن كانت مصادرهما واحدة، وصياغتها بأسماء مستعارة في كثير من الحالات، وتلك إشكالية أخرى، أو بضمير المفرد أكثر، وتكاد تكون مكوناتهما لا تختلف في توظيف المشاهد والرؤى والمواقف وبناء الشخصية بأسلوب يعتمد النفس الروائي، ولكنها لصيقة بالحقيقة والذات والمشهد؛ والمكون الزمني فيها يتسم بالفضاء الواسع والعودة المنتظمة للأحداث، من خلال المشاعر والسياقات والعمل بمرونة الرواية، وبناؤها يعتمد على ما يسميه المعجم السردي بـ«الفلاش باك»، حيث تتشابك فيها العلاقات الواقعية والمستحدثة عند خروجها من عمق الكاتب وقناعته وتجاربه إلى النص، والاشتغال على الخيال أيضًا، لأن السيرة لم تعد كتابة تاريخية، بل ممارسة إبداعية ومهارة لغوية تحمل خطابًا أو مجموعة خطابات، تجمع بين متعة الذكريات، ومتعة الخيال، غير أنها قد تقلل من مساحة التأويل.
الشروط الإبداعية
الروائي العراقي حميد الربيعي
أصبح واضحًا أن الأدب يصنف إلى أجناس، من حيث طبيعتها ومقوماتها، ورغم أن الرواية الحديثة تتداخل فيها الأجناس الأدبية، إلا أن ثمة مقومات يجب أن تقوم عليها عملية تصنيف العمل الإبداعي. لا أعتقد أن ثمة مندوحة في إدراج السيرة الذاتية في مقارنتها من الرواية، لكن ذلك يتطلب توفر الشروط السردية – التقنية بكتابة الرواية، فمن المعلوم أن السيرة الذاتية تتمفصل فيها أمكنة وتواريخ وأحداث عامة وخاصة، هذه المادة الدسمة لا تشكل العنصر الدرامي والحكاية في الرواية ما لم تخضع إلى وحدة الرؤية والتبئير.
الرواية لها شروطها الإبداعية والسيرة أيضًا، يلتقيان في السرد، بيد أن هذا السرد يجب أن يخضع إلى التكوين الفني الذي تكتب بموجبه الرواية، بينما السيرة تكتب بسرد سهل، يخضع إلى تدفق الصور والذكريات، ضمن المحاور التي عاشها الفرد ذي السيرة. إن إعادة كتابة السيرة على شكل رواية تتطلب مهارة خاصة ومرانًا من لدن المؤلف، بحيث يعيد صياغة الحكايات، ويوحدها ضمن الحكاية المحورية الرئيسة، التي تعتمدها الرواية، من جهة جانبها الفني التقني. لا يجيد كل الكتاب هذه اللعبة، لكن البعض سار بها ونجح، ولعل رواية عبدالرحمن منيف «شرق المتوسط» مثال على ذلك، فهذه الرواية كانت في الأصل يوميات سجين، وصلت إلى المنيف وببراعة كتبها على شكل رواية ممتعة.
أما الرواية، فقد تكتب عدة مرات، وفق عامل التخييل لدى الكاتب. والسيرة الذاتية – إن جاز التعبير- سرد لتاريخ حدثت وقائعة مع الراوي، صاحب السيرة
لا مسوغ لتسمية السيرة الذاتية رواية
الروائي الأردني نائل العدوان
حقيقة لا أرى مسوغاً لتسمية السرد المتعلق بالسيرة الذاتية بالرواية، مع أنها قد تتصف بسمات مشابهة للبناء السردي في الرواية، وهي إن كانت كذلك، إلا أن السيرة الذاتية لن تحدث (تكتب) إلا مرة واحدة، ويتحدث فيها الراوي بصفة المتكلم، وضمن ضمير الأنا. أما الرواية، فقد تكتب عدة مرات، وفق عامل التخييل لدى الكاتب. والسيرة الذاتية – إن جاز التعبير- سرد لتاريخ حدثت وقائعة مع الراوي، صاحب السيرة، ولا يجوز تسميتها رواية تحت مسميات لشخوص وهمية، حتى لو تعمد المؤلف تغيير الأسماء، والأجدر أن يتم تصنيفها وتسميتها كما هي عليه كسيرة ذاتية. ولا أنكر أن العديد من الروائيين يستخدمون جزءًا من سيرهم الذاتية في رواياتهم، وقد يلجأون إلى الاتكاء على بعض الشخصيات الحقيقية، إلا أن ذلك لا يعيب السرد، ولا يجعل من كامل العمل سيرة ذاتية، فالرواية المبدعة هي التي تبنى على خيال، وهي تعزز على قوة الكاتب على خلق شخوص جديدة، وحبك قصص لم تحدث، وترفع من سوية العمل وتفرده عن باقي الأعمال التي تتخذ من قصص ذاتية كرواية لها.
كل سيرة ذاتية هي قصة أو رواية
القاصة المغربية مليكة الجباري
هذا السؤال يضطرنا إلى توضيح إشكالية صغيرة قبل الجواب. عندما نتحدث عن السيرة، فنحن أمام نوعين: سيرة غيرية وسيرة بضمير الأنا، فالراوي هو السارد في الصنف الثاني بتحقق التطابق تعتمد على نقل فعلي غيري أو بضمير الأنا، أحداثها حكائية سردية قابلة للتداول عكس المذكرات. وعلى هذا الأساس، تصبح السيرة الذاتية رواية لها مكونات النص السردي وبناؤه (الحبكة، والشخوص، والزمان، وقاموس المتخيل) الفرق الشكلي بينهما هو شرط الزمان، ففي السيرة الذاتية يعتمد هذا الشرط بشكل منتظم إلى جانب التميز في انتقاء الأفعال، ما يسمح للمتخيل بالتدخل في الحكي في كل الأحوال، بينما في صنف الرواية، يكون الزمان ضمنيًا والمتخيل حاضرا بقوة .ومن وجهة نظري كقاصة وشاعرة، أعتبر كل سيرة ذاتية هي قصة أو رواية، باعتبارهما يشتركان في سرد الأحداث وتشخيصها، وفق أشكال متقاربة، ومهما حاول كاتب السيرة الذاتية ادعاء الواقعية، ومصداقية الهروب من عالم المتخيل في سرد أحداث حكايته، فهو يتناقض والطبيعة البشرية التي تلزمنا التعامل مع الأحداث بشكل حكائي يتناسب وكل سياقاتنا وموروثاتنا وثقافتنا.
٭ كاتب أردني
مقال جيد ومفيد.. بارك الله فيكم