ما زال الكتاب المدرسي في عالمنا العربي الجهاز المدرسي الأساسي، بما أن فيه المسار العلمي والتعليمي، الذي ينبغي للمتعلم اتباعه، وفيه أيضا الدروس والتدريبات الأساسية. الكتب المدرسية في التعليم الأساسي أو الثانوي يعدها مختصون من الميدان هدفهم الأسنى، عرض المادة العلمية بطرق مقبولة تتناسب مع المستوى التعليمي المعني، لكن التركيز على المحتوى العلمي قد يكون على حساب التفريط في المعارف السيميائية المصاحبة.
تمثل اللغة في الخطاب العلامي، عنصرا من العناصر التي تشكل الخطاب السيميائي مع علامات سيميائية أخرى، عادة ما تنسى في العمليات التعليمية، رغم أن لها مع اللغة الحظ المكافئ في توصيل المضامين العلمية والتربوية. هذه العلامات يمكن أن تكون رسوما، أو صورا، أو رموزا، أو إشارات صوتية مرافقة، أو تنغيمات، أو غيرها إذا ما كان الخطاب سمعيا بصريا، أو تكون رسوما للكلام ولفواصل الكلام، وإذا ما كان النص مكتوب، بالإضافة إلى ذلك يقتضي النظر إلى الخطاب من وجهة نظر سيميائية، أن ننظر في المحتوى اللغوي على أنه يتضمن مقاطع فيها خطاب علامي مضمن، وقابل للتجسيد بعلامات غير لغوية.
المقاربة السيميائية تبدأ حين يكون في الخطاب شيء آخر مع التركيب والدلالة اللذين يتطلبهما تحليل النص بما هو علامات لغوية؛ هي مقاربة تنظر في الترابط والتفاعل بين أنظمة علامية متنوعة تكون موضوع اهتمام ودراسة وتفاعل في السياق العلمي والتعليمي، الذي يحيط بأي عملية تربوية تعليمية، وهي عملية لا تنفي أيضا السياق الثقافي الذي أنتج الخطاب فيه، ووجه إلى متعلم ليس منبتا عن محيطه الثقافي.
المنهاج في تعريف معجم رونال لوجندر (1988) Renald Legendre هو «مجموعة من المعارف التي يكون غرضها العملي بناء منهجيا لخطة تعليمية، عالمية أو محددة، تعكس قيم البيئة وتوجهاتها وتسمح بتحقيق أهداف تعليمية محددة سلفا». هذه المعارف التي يراد من خلالها بناء خطة تعليمية تحتاج في التعليم الكلاسيكي كتابا مدرسيا، تجتمع فيه المعارف الأساسية وكيفيات نقلها وترسيخها وتقييمها. وهذه الكتب التي يمكن عدها خطابا علاميا مميزا، تختلف الأنظمة العلامية فيها، وكيفية استخدامها من محتوى تعليمي إلى آخر، فعلى سبيل المثال فإن كتاب الرياضيات المدرسي هو كتاب يعتمد الرمز أكثر من الأيقونة، لأن اللغة الرياضية مُصَوْرَنَةٌ بطبعها، بينما يمكن لكتاب الجغرافيا وعلوم الحياة والأرض أن يعتمد اللغة الطبيعية مع تمثيلات أيقونية خطاطية (الخرائط) أو منمذجة (الصور والرسوم التي لها علاقة تشابه مع ما تمثله. وهذه العلامات غير اللغوية تكون في تفاعل مع العلامات اللغوية في الكتاب وهي تستخدم من أجل بناء التعلمات بناء علميا ومنهجيا. أول ما كان يشد في النص المدرسي لونه الذي قد يكون مميزا بين مستوى وآخر، إذا ما كان الكتاب يحمل العنوان نفسه ويوجه إلى أكثر من مستوى. والألوان في العملية التعليمية، لا تكون محايدة فهناك ألوان يُتيمّن بها وأخرى يُتشاءم منها، وعلى واضع الكتب ألا يسقط من اعتباره هذا الاعتبار الثقافي الموروث والماقبلي. ويمكن أن تكون الرسوم في الغلاف وفي المتن موضع توقف وتقييم ثقافي ونفسي أيضا، وهي تحدد توجهات ثقافية عامة فعلى سبيل المثال فإن صور الأطفال في الكتاب تراعي في لباسهم وفي زيهم الثقافة المحلية التي تسعى المؤسسة إلى ترسيخها.
حين تُقرأ النصوص في كتب القراءة العربية يلقيها معلم العربية بشكل معبر وغرضه من ذلك ترسيخي ومحاكٍ: ترسيخ منوال الإلقاء المعبر من ناحية، ودفع التلميذ إلى أن يحاكي في قراءته قراءة معلمه. عندئذ تبث الروح في النص المكتوب الذي حنطته الحروف، فالعلامة اللغوية المكتوبة والثابتة تصبح شفوية وحركية يمكن أن يتصرف فيها المعلم بما يقتضيه المقام التعليمي من سياقات تجسيد، تتدخل فيها علامات الوجه وحركات اليد والإشارات والإيماءات، وأحيانا حركة كامل الجسد التي يتطلبها المشهد المقروء؛ هي نوع من قراءة لا تنطق الكلم كما ينبغي أن تنطق فقط، بل أيضا تمثل المضمون حتى يفهمه المتلقي. ليست قراءة نص في كتاب القراءة هو نفسه قراءة معلم الرياضيات لمعطيات رياضية على التلميذ يراد من خلالها أن يفهم بها الوضعية المطلوبة في الهندسة، أو في الحساب. قراءة النص قراءة تعبيرية تعني أن يكون المعلم سائرا بالكلام نحو اتجاه مقصود يراد من خلاله للعلامات أن تكون وحدات تعليمية إرشادية. فعلى سبيل المثال نطق حرف الجيم أو الضاد أو العين نطقا بارزا يعني أنها هي المقصودة في الدرس، وعلى المتعلم أن ينجزها بشكلها الذي يستمع إليه وهذا أمر مهم بالنسبة إلى اللهجات التي لا تنطقها نطقها الصحيح في العربية الفصيحة. فالدرس سيكون موجها إلى ترسيخ سمة الحرف التمييزية في اللغة الفصحى، وفصلها عن تلك التي بها تنجز في اللهجة. لكن القراءة بالتركيز على وحدة تركيبية معينة قد يكون من أهدافه مثلا تنبيه المتعلم إلى أن الجملة مثلا هي وحدة مستقلة بتركيبها وبدلالتها استقلالا صناعيا. من شأن ذلك التقطيع أن يوصل المستمع المتعلم إلى ضرب من التقطيع الخطابي يميز فيه داخل الوحدة العلامية، بين وحدات فرعية فيه وذلك بالاعتماد على العلامات السمعية المتاحة.
ومن شأن القراءة التنغمية – وهي تجسيد علامي مركب فيه اللغوي وغير اللغوي – أن توازن بين القول والسياق أو المقام الذي قيل فيه فجملة (لعبت بكرتك أمس) يمكن أن تكون سؤالا أو خبرا أو تعجبا، حسبما يقتضيه السياق أو المقام الذي تقال فيه الجملة. ويصبح التنغيم ههنا العلامة التمييزية الأساسية التي عليها الاتكاء في التفريق بين الأعمال اللغوية المتنوعة. قد تصبح نقطة التعجب أو الاستفهام الدليل الأساسي في التمييز بين عمل وآخر، لكن الإخبار الذي لا تنقيط فيه يحتاج تنغيما آخر مختلفا. ويمكن للاستفهام أيضا أن ينجز بأشكال تنغيمية مختلفة: تنغيم المستفسر المتعطش للجواب، ليس كتنغيم السائل الذي يعرف الجواب سلفا ويختبر المسؤول في صدقه، وهو غير تنغيم السائل المنكر للوضعية التي حولها مدار السؤال وهلم جرا، بالنسبة إلى الأشكال التنغيمية التي تنتجها ثقافة معينة وقد لا نجدها في ثقافات أخرى. فالتحليل العلامي يجعل العوالم الخطابية الدقيقة، حسب عبارة غريماس تتجلى بالاعتماد على البنية الدلالية والتركيبية. إن السياق العلمي هو الذي يجعل المعلم المتعلم المنجز للقراءة سيميائيا مجربا في سياق اختبار تعليمي ناقل لا للمحتوى المعرفي، بل للكيفية التي بها تقال.
في هذا السياق فإن الإلقاء الذي نسميه قراءة ونعتبره نشاطا تعليميا مهما هو نشاط موجه ومركب، وعادة ما يكون نشاطا علاميا كثيفا منتجا وتوليديا. التوليدي فيه هو أن يحمل المتعلم على التفكير في الخطاب بما هو علامات مكررة تلقى ويركز هو على جزء منها يجعلها الرسالة التعليمية المركزية. لكن النص الملقى هو نص مكتوب أيضا يمكن أن تكون فيه الرسوم أو الصور العلامات الموجهة توجيها كبيرا أو صغيرا إلى المحتوى.
إذا كان النص في الخطاب العلامي قولا قصيرا مقتطعا من قول أكبر، فإن الصور التي في الكتاب المدرسي تعمل على هذا النوع من الاختصار أو التوسعة. في الكتب المدرسية، التي درست فيها في السبعينيات من القرن الماضي كانت الرومانسية هي الاتجاه المسيطر الأكبر، ولذلك كان محور الطبيعة هو المحور الأهم في تلكم الكتب؛ وتفنن الرسامون في وضع رسوم متنوعة وانطباعية للفصول. لم تكن الصور التي رسمت لنا في كتبنا المدرسية عن الشتاء تشبه واقعنا كان واقعها أوروبيا أو لنقل حضريا، فصورة المدفأة كان غريب عنا وقتها، ولكنها كانت تثير فينا حلما بأن تكون لنا مدفأة أحلام، مدفأة نطعمها حطبا ونتحلق حولها ونلبس مثلما يلبس المصطلي في الصورة بيجامة ويجلس على كرسي وثير يدخن غليونه ويقرأ جريدة المساء. كان لنا «كانون» نتحلق حوله ونحن نفترش ما رق من الأغطية على الأرض نسترق النظر إلى والد أنهكه التفكير في غدنا كيف يكسونا ويلبسنا: كنا نقرأ علاماته على وجهه من غير حاجة إلى معلم: علمتنا الحياة أن نقرأ العلامات.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
مقال في الصميم ياليت يتعلم منه أصحاب الحوار المتمدن مباديء المعرفة بدل التشدق
بلغة جوفاء لخلق التمايز السلبي في اللغة.
بسم الله الرحمن الرحيم
رحم الله المتنبي : إذ ليس ثمة درن حائد لم يصفه في شعره –
وَإِذا أَتَتـــــكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ / فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِــــلُ
مَن لي بِفَهمِ أُهَيلِ عَصرٍ يَدَّعي / أَن يَحسُبَ الهِندِيَّ فيهِم باقِلُ
نحيي أستاذ توفيق قريرة على نص ساهم في كشف الناقصين!