اعتداء جنسي وقتل وعنف وسيل من الشتائم وتهديد وإطلاق نار. ليس هذا وصف لمركز اعتقال سري في دولة ما، بل ما يشاهده الكثير منا في الأفلام السينمائية. بشكل يكاد أن يكون يوميا. ويعد الفن السينمائي الفن الأكثر اتصالا بالمواطن العادي لأنه يشاهده عدة مرات كل يوم، فلا يزور المواطن متحفا للفنون كل يوم. والحقيقة هي أن أغلب المواطنين لا يزورون متحفا واحدا في حياتهم. وتحول الممثلون السينمائيون إلى رموز للمجتمع وأمثولة يحتذي بها الناس، حيث أزاحوا أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا كذلك قبل ظهور السينما، بل إن علاقة أصبحت واضحة إلى العيان بين ممثلي السينما وكبار السياسيين حتى أصبح أحد الممثلين، رونالد ريغان، رئيسا للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية وتولى آخر، أرنولد شفاتزنغر، منصب حاكم ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وعندما نتطرق إلى الأفلام السينمائية، فإننا في الواقع نشمل الأفلام التلفزيونية والمسلسلات كذلك.
البداية
كان أول دار عرض للأفلام السينمائية عبارة عن مخزن متواضع تم تحويله إلى دار عرض للأفلام السينمائية عام 1905 في مدينة بتسبرغ الأمريكية. وما أن حل عام 1907 حتى كان في الولايات المتحدة الأمريكية ثمانية آلاف دار عرض من هذا النوع. وكانت هذه الدور في البداية في المناطق الفقيرة من المدن الأمريكية، حيث كان ثمن الدخول خمسة سنتات فقط، وكان الرواد بشكل عام من الفقراء والمهاجرين الجدد، الذين لم يضايقهم سوء إتقانهم للغة الإنكليزية، لكأن الأفلام كانت صامتة. وفي عام 1907 تم افتتاح أول دار عرض بنيت خصيصا لهذا الغرض. وبدأت دور العرض في الظهور في مناطق الطبقة المتوسطة تدريجيا بعد ذلك. وكانت دور العرض مصدرا بالغ الأهمية للترفيه، حتى أصبح الكثيرون يرتادون دور العرض مرتين في الأسبوع. وجعل هذا الجميع، لاسيما الحكومات، يدرك أهمية الفيلم السينمائي بالنسبة لتأثيره على الجمهور. ولم يكن أول فيلم متكامل شهير، «ولادة أمة» The Birth of a nation (1915) سوى دعاية سياسية بحتة. وازدادت جرأة صناعة السينما في عرض المشاهد الجنسية والعنيفة وتمجيد المجرمين بسرعة غريبة، حتى فرضت قيود صارمة ضد ذلك. وعلى الرغم من بعض الاستثناءات الطفيفة استمرت هذه القيود حتى عام 1967 عندما أنتج فيلم «بوني وكلايد» لوورن بيتي عام 1967. وقد تطور الأمر من الأفلام السينمائية إلى تلك التلفزيونية والمسلسلات مع ظهور التلفزيون.
التأثير النفسي
قد يظن المرء أن الفيلم السينمائي متعة تدوم لساعتين وينتهي أمرها بنهاية الفيلم، لكن الفيلم عالم بديل يؤثر على المشاهد بشكل لا إرادي في أدق تفاصيل أفكاره ومشاعره، وحتى اتجاهاته السياسية والجنسية. ولا تلاحق السينما المشاهد في الشارع، بل يذهب هو إليها بنفسه في دور السينما لمشاهدتها. وما ان يبدأ الفيلم حتى يتحول عقل المشاهد إلى مخزن لما يتلقاه من الفيلم عن طريق السمع والبصر، دون أن ينوي ذلك، أو أن تكون له القابلية على المقاومة وكأنه كيس ملاكمة تنهال عليه الضربات من جميع الاتجاهات دون أن يتمكن من تجنبها. ومما يزيد من الطين بلة أن العقل البشري من الناحية الطبيعية غير قادر على التمييز بين الواقع والخيال، فتؤثر المشاهد السينمائية على الجهاز العصبي للإنسان، وكأنه يشاهد مشاهد حقيقية. لكن تأثير السينما على المشاهد غير متساوٍ لاختلاف مهارة المخرجين وقابلية المشاهد على تقبل ما يشاهده، حيث يختلف المشاهدون في خلفياتهم العلمية والعائلية والاقتصادية وطبيعة شخصيته، كما أن لكل مشاهد تجاربه المختلفة في الحياة. ولذلك، يختلف التأثير نسبيا حسب المشاهد. لكن العلماء يتفقون على أن الأكثر تأثرا بشكل عام، هم الأطفال والمراهقون نظرا لكون دماغهم ما يزال في حالة تطور، وقلة تجاربهم واطلاعهم في الحياة. ولا توجد دراسة دقيقة عن مدى بقاء هذا التأثير في عقل المشاهد، لكن يتفق العلماء على أنه يكون في أقصاه بعد مشاهدة الفيلم مباشرة، ويبدأ بالتلاشي تدريجيا. لكن هذا ليس علامة تدعو إلى الاطمئنان، لأن المشاهد لا يشاهد فيلما واحدا في حياته، بل عدة أفلام ومسلسلات تلفزيونية في الأسبوع الواحد. ولذلك، يتلقى المشاهد جرعات معززة لذلك التأثير مهما كان اتجاه المشاهد الفكري أو تأثير السينما. وبهذا الشكل من الممكن الاستنتاج أن تأثير الأفلام السينمائية يصبح دائميا وفي حالة ازدياد. وما يزيد من ذلك التأثير أن أجيالا من المجتمع الواحد تتعرض لتأثير السينما، ما يجعل ذلك التأثير متوارثا وجزءا من صفات المجتمع.
الجانب العنيف
لنأخذ مثالا بسيطا، وهو الجانب العنيف من صناعة السينما، فقد أثبتت الدراسات، أن المشاهد العنيفة في الأفلام تزيد من احتمال زيادة ميل المشاهد إلى العنف، خاصة ذوي الحالات النفسية السيئة، والشخصيات العدائية، وأن المشاهد يصبح معتادا على مشاهد الضرب والدماء والأموات، فقبل ظهور السينما كان من النادر أن يشاهد المواطن العادي هذه الأشياء. لا يقتصر هذا على الاعتداء الجسماني، بل يشمل طريقة التعامل بطريقة عدائية ومهينة. وليس من الصعوبة ملاحظة أن الكثيرين يقلدون الأفلام السينمائية في تصرفاتهم.
هنالك الكثير من الأفلام التي تعتمد على العنف بشكل رئيسي مثل، سلسلة أفلام «الوطواط» و«جون ووك» وأفلام الأبطال الخارقين. والغريب في الأمر أن هذه الأفلام موجهة للمراهقين والشباب. وقد يدافع البعض عنها على أساس أن العنف فيها غير واقعي، وحتى فكاهي في بعض الأحيان. لكن هذا الادعاء يؤكد سهولة تقبل المشاهد، لاسيما المراهق للعنف، وأن المشاهد العنيفة قد وُجّهَت بشكل مقصود للمشاهد الشاب. ما هو جدير بالذكر أن العلماء النفسيين اكتشفوا أن الأفلام الأكثر تأثيرا على المشاهدين بشكل عام هي تلك التي يدعي صانعوها أنها مأخوذة من قصص حقيقية. وفي الواقع أن هذا الأدعاء مبالغ به جدا، وأحيانا كاذب تماما. ومن الأمثلة الشهيرة فيلم «فارغو» Fargo (1996) حيث ادعى منتجه أنه مأخوذ من قصة حقيقية، ولم يتم تغيير سوى تفاصيل صغيرة بينما كانت قصة الفيلم في الحقيقة خيالية تماما. لنأخذ أهم جوانب التأثير النفسي للأفلام..
جانب تمجيد الإجرام
البطل المغوار في الكثير من الأفلام السينمائية ليس في الحقيقة سوى مجرم معتوه، فمثلا نجد «دون كورليون» (مارلون براندو) في فيلم «العراب» The Godfather رجلا طيبا يرفض الاتجار بالمخدرات، ويقدم خدمات خيرية لمن يطلب منه ذلك عن طريق إرسال من يضرب شخصا يدعي أحدهم أنه اغتصب ابنته، ويهدد منتجا سينمائيا كبيرا لإجباره على توظيف أحد أصدقائه. أما ابنه «مايكل» (آل باتشينو) فإنه في الحقيقة ليس رجلا سيئا، إلا أنه أراد الانتقام لمن حاول إلحاق الأذى بعائلته. لكن الاثنين في الحقيقة زعماء عصابة إجرامية خطيرة تعتاش على الدعارة وفرض الأتاوات. ونرى مثالا مماثلا في فيلم «كازينو» Casino حيث يمثل «سام روثستين» (روبرت دي نيرو) الرجل الطيب في الفيلم، بينما في الحقيقة هو عضو في عصابة إجرامية خطيرة وقواد. وطالما أن هذه الشخصية في الفيلم مأخوذة من شخصية حقيقية، فإن الفيلم حاول إعطاء الانطباع بأن رجال العصابات الحقيقيين رجال طيبون. أما فيلم «رفاق جيدين» Goodfellas، فإن أكثر الشخصيات إثارة فيه لم يكن سوى «تومي ديفيتو» (جوبشي) الذي كان الأكثر قسوة وعنفا. وجميع هذه الأفلام تُظهِر رجال العصابات كرجال يحققون مآربهم على الأغلب، فهم يحصلون على احترام الجميع، لأن الجميع يخافهم، ويحصلون على الجميلات والمال دائما. وقد يدعي البعض أن هذه الافلام تمثل رغبة المشاهد في أن يكون مثل رجال العصابات، وربما هم على حق نسبيا، لكن هذا ليس تعليلا لتعظيم أناس في منتهى الخطورة ويمثل وجودهم خطرا على المجتمع. والغريب في الأمر ان بعض الممثلين يمجدون رجال العصابات في المقابلات التلفزيونية مثل بول أنكا وروبرت دي نيرو.
لا تختلف أفلام رعاة البقر (الويسترن) في هذا المجال، فمثلا نجد في فيلم «بوتش كاسيدي والسندنس كد» Butch Cassidy and the Sundance Kid (1969) نجمي الفيلم، بول نيومان وروبرت ريدفورد، يمثلان شخصيتين محبوبتين جدا، ويثيران تعاطف الجمهور، على الرغم من أن هاتين الشخصيتين في الحقيقة كانتا من أخطر المجرمين في نهاية القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأمريكية.
الجانب التجاري
ليس سرا أن الأفلام تحاول الإعلان عن الكثير من المنتجات التجارية بشكل مبطن، عندما يشتري الممثل مشروبا معينا، أو يقود سيارة معينة. لكن الأمر أكثر من ذلك، فعندما خلع كلارك غيبل قميصه في فيلم «حدث ذات ليلة» It Happened One Night (1934) اكتشف المشاهدون أنه لم يكن مرتديا قميصا داخليا. وسرعان ما انخفضت مبيعات القمصان الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل حاد. وعادت هذه المبيعات في الصعود عندما ارتدى مارلون براندو قميصا داخليا في فيلم الرجل الشرس» The Wild One (1953). وعندما ظهرت المغنية بيونسي مرتدية قبعة لرعاة البقر زادت مبيعات هذا النوع من القبعات بنسبة 18%. أما تيلر سوفت فحملت حقيبة من ماركة معروفة، فازدادت مبيعات تلك الماركة بشكل حاد. لا يتوقف تأثير الأفلام السينمائية التجاري عند هذا الحد، بل قد يؤثر على المدى الطويل، فعندما ظهرت النجمة أودري هيبورن في فيلم «فطور في تيفاني» Breakfast At Tiffany’s (1961) مرتدية فستان سهرة أسود بقوامها الرشيق أصبح ذلك الطراز رمزا للأناقة لأجيال من النساء ومن مختلف الطبقات وحتى الآن.
الجانب السياسي
كان الجانب السياسي الأكثر وضوحا منذ ظهور الأفلام السينمائية والمثال الأول «مولد أمة» كما ذكر أعلاه. وقد أثبتت الدراسات النفسية أن رأي المشاهد السياسي يتأثر بالأفلام التي يشاهدها. وفي الحقيقة أن الأمثلة كثيرة جدا، وقد درست بعناية من قبل علماء النفس. ويكون تدخل الحكومات مكشوفا في بعض الأحيان، فكلما تظهر طائرات أو دبابات القوات المسلحة الأمريكية في فيلم، يكون ذلك علامة على اشتراك وزارة الدفاع الأمريكية في صناعة هذا الفيلم، عن طريق تقديم الطائرات والجنود كجزء من الفيلم. وحسب مجلة «إيكونومست» لا تشارك وزارة الدفاع الأمريكية في تكاليف الفيلم، بل تعرض خدماتها للإيجار، حيث يكلف تأجير طائرة مقاتلة ثلاثة وعشرين ألف دولار للساعة الواحدة. وأحد أشهر الأمثلة على ذلك كان فيلم «البندقية الأفضل» Top Gun (1986) الشهير والجزء الثاني منه، الذي أنتج عام 2022 حيث قامت وزارة الدفاع بوضع مسؤولي التجنيد أمام دار العرض لإقناع الشباب عند خروجهم بالانضمام إلى القوات المسلحة، حيث يكون تأثير الفيلم في أقصاه في تلك اللحظة. وحسب «إيكونومست» مرة أخرى تقوم عدة دول حاليا مثل فرنسا والأردن والإمارات المتحدة بعرض خدمات مماثلة لشركات السينما العالمية بأسعار أرخص من تلك الأمريكية.
تحاول الأفلام السينمائية تلميع صورة السلطات دائما، فالشرطة دائما على حق، وكل ما يفعلونه مبرر تماما، لأنهم يعرفون المجرم في نهاية المطاف. أما المحاكم، فهي دائما تعاقب المجرم الحقيقي تقريبا حتى أصبح رأي المواطن عن سير المحاكم والشرطة معتمدا على ما يشاهده في الأفلام، على الرغم من أن الواقع ليس كذلك تماما، فنسبة جرائم القتل التي تم حلها في الولايات المتحدة عام 2022 لم يتجاوز 52.3%. وأما جرائم الاغتصاب، فلم تتجاوز نسبة نجاح الشرطة 26.1% حسب أحصاءات مؤسسة «بيو» Pew المعروفة.
الجانب الجنسي
تؤثر الأفلام السينمائية كذلك على العلاقة بين الجنسين، لأن المشاهد يقلد الممثل، أو الممثلة في تصرفاته، ورأيه حول الجنس بغض النظر عن كون ما يشاهده معقولا. وقد وصلت قوة هذا الجانب أنه يؤثر على معايير الفرد بالنسبة للشخصية المثيرة للاهتمام من الجنس الآخر.
الدفاع عن السينما
بالإضافة إلى بعض التعليلات، التي سبق ذكرها، ويصر القائمون على صناعة السينما على ترديدها، فهم يدعون أن السينما مرآة للمجتمع، حيث إنه يتسم بكل ما ذكر أعلاه، وكل إنسان ذو ميول عنيفة وجنسية، وأحد الذين رددوا ذلك كان الممثل الشهير بن ستيلر في مقابلة تلفزيونية. لكن هذا غير صحيح لأن السينما تعزز وتوجه هذه الميول الفطرية بشكل مرضي. وليست صناعة السينما ظاهرة طبيعية مثل الأمطار، فهي صناعة يشرف عليها أشخاص ويوجهونها حسب رغباتهم. ومن الطبيعي أن يحاول القائمون على صناعة السينما تبرئة أفلامهم، فهم المستفيدون منها ماديا. ولذلك، لا يمثلون جهة مستقلة للحكم في هذا.
مؤرخ وباحث من العراق